أيام لاتنسى من ذكريات المناضل محمد علي إدريس ابو رجيلا - الحلقة الأولى
إعداد: جبهة التحرير الإرترية
كان ميلادي في العام ١٩٢٣م على وجه التقريب كاي طفل في ريف بلادنا لم أكن أختلف عنهم البته فقد ولدت في ضواحي مدينة
أغردات وبالحصر منطقة أندرايب وكان والدي إدريس حاج محمد يجيد قراءة القرآن الكريم ويلم ببعض المعارف في علوم الحديث ولكنه لم يعمل بالتدريس بل كان يعمل في الزراعة والرعي كنا أربعة وأنا ثاني الأطفال بالنسبة لأسرتي وقد توفي أصغرنا في مدينة كسلا، لا أذكر الطليان يصورة قوية لأنني لم أكن أتردد على المدينة ومعرفتي بهم لاتتجاوز رؤيتي لقواتهم في الريف بين الحين والآخر، كنت أعمل في الزراعة والرعي كسائر أهل الريف إلا أن دواخلي كانت تنزع نحو القراءة وتمور في أشواق التعليم وكثيراً ما كنت أسترق السمع للقراء وهم يرتلون القرآن كما كنا نشارك في حلقات المديح التي تعلمنا منها الكثير من المفردات العربية السليمة ولاتزال أصوات المداحين وألحان أهلنا الرائعة عالقة بمسمعي، كانت تأسرني وتشدني شداً حركات الجنود وأزياءهم، وعندما كان يمر جنود إيطاليا بالقرب من قريتنا على قلة ذلك الطواف كنت أقف إعجاباً وكان الجيش وإسلوبه في المسير ومظاهر الأناقة والرجولة التي تبدو عليه كانت تأسرني وكانت تتنازعني رغبتي القراءة والجندية ويبدو أن الصراع إستمرلبعض الوقت، لم تكن تشدني حياة الريف من رعي وزراعة ورغم عملي فيها إلاأن نوازع الرحيل كانت تهزني هزاً، كان وعي مقتصراً على معرفة الإنتماء الإجتماعي لمحيطي القروي والذي كان يشكله أهلي والذين كانت تمتد مضاربهم بعيداً لم أكن أفهم أن هناك فرق بين إرتريا والسودان إذ كنت أعتقد أنهما تماماً كأسماء القرى والعشائر التي تجمعها جذور مشتركة ومصالح واحدة وفي أنهما أقاليم في أرض واحدة لاحدود بينها والذي يفصلها وجود الطليان هنا والانجليز هناك لم أكن أعتقد بأنها دول وأوطان مستقلة مفهوم الوطن بحد ذاته كان ضبابياً في وعي وكان مقتصراً على الانتماء الإجتماعي لأهلي اينما وجدوا وبلادي حيثما قطنوا وكان شيوخ الشرق يدافعون عن كل من ينتمي اليهم أمام السلطات لايميزون بين أهلهم ولايهمهم من أين يأتون وماذا يحملون وهم أينما سكنوا يرتبطون وجدانياً بمدينتي كسلا وطوكر ويعتبرونهما السوق المميزوالقضارف والجزيرة في السودان موقع العلم والعمل.
كنت أحلم بالذهاب الى كسلا وتدقدق مشاعري فكرة الوصول الى قرب وكلمة (قرب - غرب) مصطلح شعبي لدى أهلنا ويعني صعيد القضارف وما بعدها حتى نهر السوباط والرنك حيث كانوا ولازالوا يعملون بالرعي والزراعة ويرتاد بعضهم خلاوي شيوخ الصوفية في وسط وشرق السودان لينهلوا من المعارف الدينية.
بعد فترة من التفكير والتدبير تتحق ذلك الحلم وكان يصحبني أخي حامد محمد محمود رحلنا من القرية ذات صباح وبعد مسير طويل وصلنا منطقة بيشا وسألنا أهلنا عن كسلا وهل وصلناها أم لا ؟ أهي قريبة من عندكم أم إننا إنحرفنا عن الطريق، فانفجر الأهالي بالضحك وقالوا إن كسلا لاتزال بعيدة.
كنا نمشي نهاراً وعندما نجد من هم في سننا من أبناء القرى التي نمر عليها نلعب معهم دون مقدمات ثم ندخل القرية حيث يكرمنا الناس، كان البلد عامراً بالخيرات وأكرم الضيوف من العادات والشيم التي يعتز بها الأهالي وينشؤون عليها أطفالهم لهذا كنا نجد الأكل والشرب حيثما حللنا وهكذا حتى وصلنا كتاي كش وهناك قابلنا الشيخ حامد الأمين رحمه الله فسألنا عن أهلنا ومساكننا فعرف أهلنا فأكرمنا بذبح شاة وقال لنا هؤلاء أولادي وكونوا أنتم معهم ويبدوا أنه قررالعودة بنا من حيث أتينا وقد إكتشفنا ذلك حينما رجع بنا الى الوراء الى حيث منطقة عيلا عبدالله التي كنا قد إجتزناها فصممنا على مواجهته، ولما أيقن من إصرارنا تخلى عن فكرته وكلف أحد أتباعه بالسير بنا الى كسلا، وكانت محاولة الشيخ حامد الأمين هي الثانية إذ حاول إعادتنا العم عثمان محمد إدريس رحمه الله من حول قرية عد سيدنا مصطفى ولكننا أفلتنا منه ووصلنا منطقة حفرا ومنها دخلنا مدينة كسلا وبتنا ليلتنا في الختمية في حوش آل محقرمطلع عام ١٩٣٨م.
ومنذ صباح اليوم التالي سافرنا الى منطقة مكلي حيث إلتحقنا بمسجد الشيخ حامد الأمين ومن المفارقات الغريبة أن رعاة الشيخ قد هربوا في ذات اليوم مما جعلنا نرعى أغنام ومواشي الشيخ وقد إستمرت هذه المهمة غير المتوقعة زهاء الستة أشهر درسنا بعدها في خلاوي الشيخ فكي عبدالله أبو رايت رحمه الله حتى نهاية ١٩٣٨م، وفي مطلع عام ١٩٣٩م هربنا الى مساجد الشيخ محمد الأمين ترك في منطقة تندلاي وكانت المعيشة صعبة للغاية حيث كنا نأكل الذرة التي شارفت مدتها على الإنتهاء وبدأ يخالطها السوس ولكن لظروف الحرب وإنعدام الذرة كنا نأكل تلك الذرة التي يشاركنا فيها السوس وكانت شراكة لاتطاق لهذا تركنا الدراسة مع أول الخريف وإتجهنا للزراعة وكانت صحتنا في أسوأ حالاتها إذ نال منا سوء التغذية وترك آثاره وبان علينا الهزال والضعف وهكذا إنقضت تلك السنة اللعينة وبدأت نذر الحرب تقترب من مناطق سكننا وإحتل الطليان مدينة كسلا منتصف عام ١٩٣٩م في هجوم خاطف.
تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة