الطبيب الشهيد يحي جابر ذكرى لا تموت

بقلم الأستاذ: فتحي عثمان - كاتب ومدير قسم العربي اذاعة ارينا باريس ودبلوماسي ارتري سابق

ليس غريبا أن تتزامن اليوم الذكرى الخمسين لاستشهاد الطبيب المناضل يحي جابر مع عيد الفداء،

يحي جابر عمر

صورة يحي جابر مع هوغيت شابال فيراتو، صيف 1968، في روما مقابل وزارة الخارجية الايطالية وبالقرب من السكن الطلابي. هوغيت فيراتو ذات الوفاء النادر صورة الملصق الذي اصدر بمناسبة استشهاد الطبيب المناضل يحي جابر باللغة الايطالية، وفيه يوردون تاريخ ميلاده.

ففي قصة حياته فداء ووفاء.

في مثل هذا اليوم الحادي والثلاثين من يوليو من عام 1970 صعدت روح الطبيب المناضل يحي جابر إلى رحاب جنات الخلود بعد معركة دامية مع جنود العدو الاثيوبي. فاضت روحه إلى السماء تصحبها ترنيمات الفداء وذكريات الوفاء لقضية وأمة. قضية وأمة دفع حياته ثمنا لكرامتها وعزتها وهو في الثانية والثلاثين من العمر.

أكمل طبيبنا الشهيد عقد الكوكبة النظيم من الأطباء الذي وهبوا حيواتهم فداء للإنسان وحريته وأشواقه في الحرية والسمو: الطبيب تشي غيفارا، الطبيب أوغستينو نيتو الذي قاد نضال شعب أنغولا، الطبيب فرانز فانون الذي قاتل مع الشعب الجزائري وهو القادم من المارتينيك والطبيب الشاب الذي قضى نحبه في سجون نظام جنوب افريقيا العنصري ستيف بيكو. مثلهم كان يحي جابر لا خان بمغريات ولا هان مقابل ثمن. درس في ايطاليا وحاولت السفارة الاثيوبية في روما اقناعه العمل في اثيوبيا وله أعلى المناصب ولكن آثر الحياة مع الرفاق حتى الممات ولكأن لسان حاله يقول "مسل حويي حيسنى".

في الاسبوع الماضي اتصلت بإذاعة إرينا السيدة الفاضلة/ هوغيت شابال فيراتو، سعدت بأن تتواصل مع الإذاعة لأنها كانت تتمنى الا ينصرم يوم الحادي والثلاثين من هذا الشهر بدون إحياء ذكرى الشهيد الطبيب يحي جابر. استمعت اليها وصوتها تخنقه العبرة في كل مرة تذكر اسمه فيها، تتوقف لتتنفس، ثم تعاود الكلام فتخذلها الدموع. أصمت لأترك لجلال الدموع بالمرور.

تتحدث معي عنه واتخيل صورته ذلك الوسيم الفارع الطول الذي يقف إلى جوارها في صورها تعود إلى صيف العام 1968 حيث التقته هي أثناء تعلمها للغة الايطالية وهي القادمة من مدينة مارسيليا في جنوب فرنسا وهو الذي يكمل تدريب الامتياز في احد مستشفيات روما بعد تخرجه في كلية الطب. اتخيل الشهيد يحي إذا ما امتد به العمر لأصبح، في الثانية والثمانين من العمر، لكن اقداره كانت تسير على طريق المجد لا على طريق الحياة الرتيب.

التقته هوغيت فيراتو مرة اخرى في صيف عام 1969 قبل التحاقه بالثورة واستشهاده في العام التالي، لم تمنعه من السفر إلى أهله وقضيته لكنها لم تكن تعلم أنها تودعه الوداع الأخير، وأنها ستحمل ذكراه بين جوانحها خمسين عاما تدثرها بالوفاء وتسقيها من دموعها كلما مر طيفه الأسمر أمام خيالها المسهد.

قالت أنه كان منفتحا على الرأي الأخر وله رحابة صدر، تشي بأن بلاده إذا ما سارت على طبعه لتحقق آمالها وتبددت مخاوفها، كان يعد بكل جميل قادم، قاوم حسب قولها مغريات السفارة الاثيوبية لإقناعه بالسفر إلى اديس ابابا وتسنم أعلى المراتب هناك، ولكن ركل ذلك مفضلا قومه وبلاده. حتى في ايطاليا عندما تعرضت البلاد لفيضان في منتصف الستينات كان هو من الأطباء الأوائل الذين سارعوا لتقديم الخدمات للمتضررين.

وكان قد نجح في كسب ود الايطاليين لقضيته وأسهم كما قال الاستاذ احمد داير في تأسيس جمعية الصداقة الارترية -الإيطالية التي نجحت في ارسال الصحفي الايطالي فرانكو براتيكو إلى الميدان في ذلك الوقت. أكمل يحي جابر التدريب المهني في مستشفى في الفترة من اغسطس حتى سبتمبر 1969 وكان قبلها قد حصل على الاجازة الجامعية في الطب في يوليو في نفس السنة، وكان ينوي التخصص في مجال الجراحة، وبالفعل قدم أوراقه للالتحاق بكلية الدراسات العليا.

وتتذكر هوغيت فيراتو ذلك الصديق العراقي الذي قال لها بأن الطلاب في السكن الداخلي اختاروا يحي جابر للذهاب إلى إدارة السكن الطلابي من أجل التفاوض على تغيير الطعام الرديء، ولم يخذلهم الطبيب الثائر. كانت مسيرة حياته امتدادا لحياة والده الراحل بلاتا جابر الذي سجن بسبب اتهامات اثيوبيا له بالوقوف مع الثورة واستشهاد أخيه جعفر.

شهيدنا الطبيب من مواليد قرية علي قدر سنة 1938 وفيها درس المرحلة الابتدائية وانتقل إلى مدينة كسلا ليكمل المرحلة المتوسطة في المدرسة الاميرية الوسطى، وبعدها انتقل إلى مدرسة حنتوب، مدرسة النخبة السودانية في ولاية الجزيرة وهي نفس المدرسة التي خرجت الرئيس الاسبق جعفر نميري، ومحمد ابراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي والشيخ حسن الترابي وآخرين، أكمل يحي جابر دراسته فيها بتفوق، كما يذكر الاستاذ احمد داير، ثم التحق بكلية البيطرة بجامعة الخرطوم ولكنها تركها لدراسة الطب في ايطاليا.

وهناك كان تفوقه في مجال تخصصه والتقاء طالع نجمه بفتاة الجنوب الفرنسي التي حفظت شذى ذكراه في وفاء نادر.

عودة الطبيب الشهيد إلى الميدان كانت متزامنة مع خلافات عميقة في جسم الثورة ولكن ذلك لم يثنه عن العودة بل حثه وزاده اصرارا من أجل العودة وإصلاح الاعوجاج في جسم الثورة اللدن. ولكن المنية كانت له بالمرصاد، وان كان الموت قد ترصده ولكن كتاب المجد الذي تشع منه سطور البطولة خطها بدمه يبقى عصيا متأبيا على الموت.

تشرفت بمعرفة أسرة الشهيد الطبيب عبر معرفتي بالمناضلة زهرة جابر والمهندس علي جابر المقيم حاليا في استراليا، وتعرفت على الرمز الوطني الشهيد عمر جابر عبر كتاباته فقط، وتسنى لي التعرف على بعض أعضاء الأسرة الممتدة.

واذكر أنه في سنة من السنوات دار حديث بيني وبين أحد الاصدقاء، وهو ذو طبع طيب ولكن حاد، فجاء ذكر اسم الطبيب الشهيد يحي جابر، وأبديت عدم معرفتي به، فهال صديقي عدم معرفتي به، وهجم علي في لوم وتقريع شديد حتى كاد العرق يتصبب من جبيني، فسألته بخجل متى استشهد الطبيب يحي فرد علي غاضبا: في عام 1970 فقلت له في تلك السنة كان لي أربع سنوات من العمر، ولكن هذا لا يبرر عدم معرفتي به، ولكن عدم تعريفك به وبنضاله سبب آخر لعدم معرفتي به. ومنذ ذلك الحين، وكلما سنحت الفرصة، قصدت إلى تعريف الأجيال القادمة بذكرى الطبيب الشهيد يحي جابر، وكل شهداء بلادي.

ويتزامن مع هذا المنشور برنامج خاص اليوم الجمعة 31 يوليو لإحياء ذكرى الشهيد الطبيب المقيم يحي جابر.

Top
X

Right Click

No Right Click