الدكتور المناضل الشهيد يحى جابر عمر... نصف قرن على الرحيل - الحلقة الثانية والأخيرة
بقلم الأستاذ: أحمد داير - كاتب وناشط سياسي إرتري
بدأت الرحلة من على قدر ألى الدراسة فى الأميرية الوسطى فى كسلا وبتفوق ألى حنتوب الثانوية
وتمكن من دخول جامعة الخرطوم - كلية البيطرة.. لم يكمل حين زادت الرغبة فى دراسة الطب البشرى وسنحت فرصة للدراسة فى ايطاليا. صحبه فى الرحلة شاب درس الهندسة هناك وأصبح فيما بعد عضوا قياديا فى جبهة التحرير الأرترية هو المناضل خليفة عثمان متعه الله بالصحة والعافية. ألتحق الشابان بجامعة بولونيا وكانت لهما نشاطاتهما واستمرت بولونيا بعد ذلك لتكون أهم المدن الأيطالية نشاطا بما تحتويه من لقاءات ومهرجانات سنوية حتى التحرير.
ساهم الشهيد فى تكوين جمعية الصداقة الأيطالية - الأرترية التى كان لها دور كبير فى التعريف بقضية الشعب الأرترى وعدالتها وكان من أنجازات تلك الفترة قدوم الصحفى الأيطالى فرانكو براتيكو ألى الأراضى المحررة وقيامه بتحقيقات وأستطلاعات وصادف وجوده أرتكاب قوات الأحتلال لمجزرة عد أبراهيم فقام بنقل ذلك للرأى العام الأيطالى.
كان لهذا الأساس فى العلاقة مع أيطاليا الرسمية والحزبية (الحزب الشيوعى الأيطالى) وبجهد ومواصلة من شباب آخرين د. يوسف برهانو، يوهنس زرا ماريام وجمع أحمد على بخيت على سبيل المثال أهمية بالغة فى دعم الجبهة خاصة فى علاج الحالات المستعصية لجرحى حرب التحرير بالرغم من أن مستشفيات كسلا.. مدنى.. الخرطوم.. بورتسودان وغيرها متاحة للجبهة. شخصيا أتيحت لى فرصة للعلاج هناك من الحساسية فى اكتوبر ١٩٨١ وقد لاحظت حالات لمناضلين قدموا للعلاج منهم العم المناضل على حندو قادما من دنكاليا.. ودورات نقابية أيضا تقدم للجبهة.
تميز الشهيد أثناء الدراسة بمشاركته فى الأنشطة الرياضية ككرة القدم وكرة السلة والتزلج على الجليد أحيانا وكان محبوبا ومع ذلك فقد كان واضحا بتصريحه أن أتجاهه وهدفه هو الأتجاه ألى خدمة شعبه متجنبا أقامة علاقات عاطفية مخادعة.
أنهى الشهيد دراسته ثم قام بعمل الأمتياز فى روما ورغم أن الساحة بدأت تشهد حالة أنقسام فأن ذلك لم يثنه عن الأستمرار فى الطريق الذى اختطه لنفسه وصمم أن يتجه للميدان معلنا أنه مع المقاتلين مع أنها كانت فرصة سانحة له كى يتملص كما فعل كثير من الخريجين فى وقت لاحق وأغتنام فرصة وجود خلافات فى الساحة.
قبل التحرك من روما أعد الشهيد قائمة من نسختين تتضمن المعدات الطبية الضرورية التى يحتاجها فى عمله وألتقى بالمناضل طه محمد نور عضو المجلس الأعلى رحمه الله وسلمه نسخة وأخبره أنه سيسلم النسخة الأخرى ألى المناضل أدريس قلايدوس عضو المجلس الأعلى رحمه الله الموجود فى القاهرة حينها وأوضح لطه أنه غير معنى بالخلافات داخل المجلس الأعلى وأنه سيتجه للميدان.
غادر الشهيد روما مطلع ١٩٧٠ بأمل العودة أليها... حسب ما يذكر المناضل جمع أحمد على بخيت لأداء أمتحان أشبه ما يكون بالزمالة يتيح له أن يكون عضوا فى نقابة أطباء أيطاليا ليمكنه ذلك من الأستفادة من تعاون النقابة لدعم الجهاز الصحى للجبهة بينما كان الأنطباع فى الميدان كما سنلاحظ أنه سيعود للتخصص.
غادر ألى القاهرة ثم ألى جدة وقابل الوالد وألتقطت لهما صورة معا سببت متاعب للوالد فيما بعد. أتجه الى كسلا ليقيم فى حى البوليس القديم فى منزل العم على حامد أدريس الذى كان يقيم فيه أثناء دراسة المرحلة الوسطى بالرغم من وجود أبن عمه الحاج محمد عثمان حاج محمود فى حى الجسر.
أتصل بالأهل فى على قدر فقدمت شقيقته حليمة وأم جعفر وبقية الأخوة ليتبادلوا التعازى فى أستشهاد جعفر.. وكان لقاء ووداع.. غادر بعدها ألى الميدان.
كان استشهاده مؤلما لجميع المناضلين الذين استبشروا خيرا بقدومه.. كنت قد علمت منذ فترة طويلة أن المناضل أبراهيم محمد على كان معه عند أستشهاده وكنت قد أتصلت عليه قبل أشهر لمعرفة الساعات الاخيرة فى حياة الشهيد... قبل أيام أتصل على ووعد أن يرسل لى روايته للحدث كتابيا وقد فعل... أورد ما كتبه وأذا كان هناك تدخل يمكن ان يكون بين أقواس.
فى شهر أبريل ١٩٧٠ صدرت ألينا التعليمات أنا والأخ عبد الله سليمان للعمل معا فى مركز للأعلام ضمن القسم السياسى بأشراف عضو القيادة العامة محمود أبراهيم محمد سعيد (شكينى). وكان مقر المركز عند نهاية سهول رهيا عباى فى الريف شمال مدينة أغوردات وفى موقع ملاصق ومحاط بالجبال من الجهات الثلاثة ومن الجهة الرابعة الجنوبية يشرف على سهل واسع ممتد حتى المدينة ويبعد عنها حوالى خمس ساعات سيرا على الأقدام.
وفى يونيو أنضم ألينا الدكتور يحى جابر وكان قد تخرج من أحدى جامعات أيطاليا وتقدم للتخصص فى الجراحة وتمت الموافقة وكان من المقرر أن تبدأ الدراسة بعد شهرين فأراد الأستفادة من هذه الفترة بزيارة الميدان ثم العودة للتخصص فى الجراحة .ثم انضم ألينا الأستاذ عقبا ميكئيل (ممهر) الذى كان يعمل معلما فى أحدى قرى حماسين لكنه ترك العمل وخرج للنضال فى الميدان.
قدم ألينا شاب اسمه محمود علمنا أنه كان ضمن سرية أديس. رافق محمود المناضل عبدالله سليمان ألى أطراف أغوردات لتوزيع نشرات أعلامية لتتسرب بعدها ألى الميدان.. لكنه إستطاع الدخول ألى المدينة وتسليم نفسه لقوات الأحتلال والأرجح أنه هو من قام بإرشادها إلى موقع المركز بعد ٣ إيام من تأريخ تسليم نفسه.
فى يوم ٣١ يوليو وفى تمام الساعة الثانية ظهرا وصلتنا رسالة تحذيرية من الشيخ عمر حاج أدريس عن خروج العدو من مدينة أغوردات فى طريقه ألينا.. بعد فترة بسيطة لاحظنا أن العدو وصل ألى أطراف القرية المجاورة من الجهة الأخرى (قرية عد قاقت) ٩ وأصبح على بعد خطوات قليلة من موقعنا. لم نكن نملك أدنى مقومات المواجهة ولا حتى الدفاع عن النفس فلا وجود لسلاح ولا قدرة على استخدامه ما عدا جندى الحراسة وكان ملقب ب باقى الموت (اسم المناضل هو مكنن كيدانى وهو من أبناء تسنى والتقاه الأخ على جابر عمر فيها عام ٢٠٠٥).
كنا مدنيين مستجدين ولم نكن قد تلقينا تدريبا على استخدام السلاح وهكذا وجدنا أنفسنا فجأة فى سباق مع الموت وكل دقيقة تمر كانت تعنى موت الجميع أو الوقوع فى الأسر ولم يكن لدينا خيار سوى اللجوء ألى الجبال المحيطة بنا لعلها تحمينا فتركنا كل شئ وانطلقنا بأسرع ما نستطيع نحو الجبال. وتصادف أن يحى كان يحمل البندقية التى كانت مع المقاتل ويبدو أن وجودها معه جعله يفكر فى القتال فصعد تلا مجاورا وعندما وصل العدو ألى المكان واكتشف وجوده فى التل استهدفه بأطلاق نار مكثف أدى الى استشهاده.
كانت الفترة التى قضيناها معا منذ وصوله قصيرة جدا لم تتجاوز شهرا واحدا لكنها كانت كافية لأتأثر به كثيرا ولم أحزن فى حياتى على أحد بقدر ما حزنت على رحيله وبقيت معى قطعة واحدة من ملابسه أحتفظت بها لسنوات أكراما لذكراه.. حقا لقد كان أنسانا مميزا.
سعدت جدا باهتمام المناضل أبراهيم محمد على واتصاله أكثر من مرة لمتابعة ما يكتب عن الشهيد وكنت أعرف منذ فترة تأثره البالغ بالشهيد وأنه ربما أول من استهل بأطلاق أسم يحى على أول مولود له بعد أستشهاد يحى.. بعد حوالى عامين أستشهد محمود أبراهيم (شكينى).. فكان محمود أسم الأبن الثانى.. فى سبتمبر ١٩٧٧ ونحن فى الطريق من دمشق ألى الميدان لحضور المؤتمر الرابع للأتحاد العام لطلبة أرتريا - الراحل أدريس طاهر سالم والأخ ياسين محمد عبدالله وأنا - جاء المولود الثالث فى الخرطوم... أوصانى الأخ حمد كلو - خال المولود - بأن اسأل المناضل أبراهيم عن الأسم الذى أختاره.. مررنا على القضارف لتعزية العم رمضان على شيخ فى استشهاد عبدالقادر.. وحين وصلت ألى كسلا علمت أنه تم أختيار أسم عبدالقادر... وكان هذا ظنى... ما كان له أن يتجاوز عبدالقادر.. ومع ذلك حسب ما سمعت لم يكن هناك من تأثر باستشهاد يحى كالراحل الأستاذ عقبا ميكئيل (ممهر) الذى ولحساسيته الشديدة كان متأثرا لفترة طويلة... يذكر أن ممهر نفسه وفى يوم ٢٥ مارس ٨٢ ورغم أنه كان مع ما حدث فى ذلك اليوم فقد كتب قصيدة تمجيدا للشهيد ملاكى تخلى.
أبو يحى الراحل عمر جابر شقيق الشهيد عليهما الرحمة كان وقتها طالبا يدرس الطب فى بغداد وكان قد ألتقى شقيقه مطلع العام فى روما تصادف أن زار دمشق فى أغسطس ٧٠ وأتجه مباشرة ألى مكتب الجبهة ودخل المكتب بشكل مفاجئ وكان عضو المكتب مشغولا كما يبدو فى مكالمة.. لاحظ صدور نشرة (المؤتمر) التى كان يصدرها المكتب وأشار ألى عضو المكتب المشغول فناوله نسخة. كان أول ما شاهده خبر صادم عن أستشهاد شقيقه فوضع النشرة جانبا وغادر المكتب ألى مكان مناسب يذرف الدمع عليه. حكى عمر هذه القصة وكان يشعر بعتب ولوم على عضو المكتب وكان من نتيجة تأثره هذه أنه نادرا ما كان هناك من يذكره بشقيقه.
بعد عام أو عامين وفى المؤتمر الأول أو الثانى للأتحاد العام لطلبة أرتريا ٧١ أو ٧٢م طرحت ضمن التوصيات توصية باعتماد يوم ٣١ يوليو أى يوم أستشهاد دكتور يحى ذكرى لشهداء الحركة الطلابية الأرترية.. أخبرنى أحد أعضاء الهيئة التنفيذية للأتحاد أن احد أعضاء المؤتمر كان وربما لخلاف مع رئيس الأتحاد عمر جابر قد أعترض على التوصية وربما كان حديثه جارحا بعض الشئ فانفجرت الأخت زهرة جابر وانخرطت فى البكاء. كان الشهيد كما علمت قد طلب منها حين كانت تعمل فى اسمرا بأن تواصل تعليمها فذهبت أليه فى روما ونصحها بأن تتجه ألى القاهرة ففعلت ثم أكملت تعليمها فى الجزائر.
تحية للمناضلين ابراهيم قدم وجمع أحمد على بخيت ويعقوب عبدالله عجيب وهم ينبهون ألى أحد الجنود المجهولين.. أحد أبطال جيش التحرير الأرترى الذى أرتبط فى أذهانهم بذكرى أستشهاد الدكتور يحى جابر.
هو الشهيد على بخيت الذى كان فى صباه وهو شبل مراسلا لمفجر الثورة الشهيد حامد عواتى.. بعد أن ألتحق بجيش التحرير تم توجيهه فى مجموعة فدائيى أغوردات مع الشهيد قندفل فى ٣١ يوليو كان فى قريته (عد على بخيت) وكان فى أجازة... مرت القوة القادمة من أغوردات بالقرب من قريته متجهة ألى عد قاقت حيث الشهيد يحى والمجموعة وكان فى أمكانه أن يختبئ فى القرية لكنه لم يتحمل منظر العدو رغم كثرة العدد فحمل بندقيته.. السنوبال وتصدى لهم وأوقع فيهم خسائر.. وغلبت الكثرة الشجاعة فاستشهد. يعرف عنه أنه كان يتميز بالشجاعة الفائقة... رحم الله الشهيد على بخيت مع الأمل بأن يضيف كل من لديه معلومة عنه وعن رفاقه الأبطال المجهولين.
ربما خير ختام للحديث عن الشهيد هو عبارة المناضل أبراهيم محمد على... لقد كان أنسانا متميزا.