الدكتور محمد عثمان... رحيل رجل بقامة الوطن
بقلم الإعلامي الأستاذ: محمد طه توكل
لعل الكتابة عن رجل بقامة الراحل الدكتور/ محمد عثمان أبوبكر يكون من الصعوبة بمكان
لثقله التاريخي ووزنه النضالي ليتطرق الشخص إلى أحد بصمات هذا الرجل دون أن يكملها وتكون إحدى معضلات الكتابة لأن الراحل الدكتور/ محمد عثمان رجل بحجم الوطن أحب بلاده عبر مسيرته التاريخية الطويلة المليئة بالجراحات والآلام التي خلفتها نضالات هذا الوطن الذي لم ترسى سفينته بعد.
وعثمان أبوبكر رجل حلت اسمه عبر كل قطاعات المجتمع الإريتري (السياسية والاجتماعية) عندما ولجها بالاتحاد العام للطلاب الإريتريين ليشكل أحد دعائمة من خلال تجربته الثورية التي بدأت بجبهة التحرير الإريترية لتجده حضوراً قوياً بكل ما ارتبط بإريتريا أرضاً وشعب. إنه الراحل محمد عثمان أبوبكر الذي غيبه الموت بلندن عاصمة الضباب لتلقى ضبابها الكثيف على سجل حافل بالكفاح والنضال من أجل قضية أحبها وأحبته.
كان خبر رحيل هذا الجبل الأشم عندما هاتفني الأخ/ محمود علي إدريس نقطة فارغة في تاريخ الأخوة والصداقة- الراحل محمد عثمان الذي تربطنا به قرية (حرقيقو) لكنها لم تكن الرابط الوحيد فالراحل يسبقنا في الميلاد وكذلك الالتحاق بالعمل الثوري - إلا أن التوافق بيننا كان سبباً لامتداد العلاقة لأكثر من أربعة عقود وذلك بفضل وعيه واحترامه لهذه العلاقة التي رعاها بقلبه الكبير وتجربته الثورية حيث كان يمثل بالنسبة لي الداعم الأقوى بالتوجيه والتشجيع لتكون انطلاقتي معه في بداية 1977 إثر انشقاق قوات التحرير الشعبية لنلتقي في أول مجموعة اختلفت مع اللجنة الإدارية التي كان يرأسها (إسياس أفورقي) وكان أول جلسة مع الراحل محمد عثمان بمنطقة "ـحشنيت" التي انعقد بها أول مؤتمر لقوات التحرير الشعبية وكان الراحل أحد أبرز القيادات وعضو اللجنة التحضيرية إلى جانب المرحوم عثمان شعبان وأبوبكر محمد جمع وآخرون.
وجاء وقتها يسأل عني والتقيته لأجده رجل يعرف عني كل التفاصيل حتى الأسرية بالرغم أنه خرج من حرقيقو في 1958 قبل ميلادي وهذه المعرفة أعطتني إحساس بأنه أخي الأكبر الذي يعرفني رغم أنني لم ألتقيه لتكون بصمته الثانية في تعلقي به كأخ أكبر الهدية التي أكرمني بها وهي ساعة وما أدراك ما الساعة في ذلك العهد القديم التي كانت لذوي الكفاءة والقيادات والمسؤولين خاصة عقلية التنظيم في ذلك الوقت التي كانت تملك الساعات للقيادة بل تنزعها من الأشخاص العاديين وتسلمها للمسؤولين ليرفع هذا من أسهمي وسعادتي وفخري بهذا الإنسان الذي منحني شارة القيادة مقارنة بسنى الذي كان يجعلني أصغر الأفراد بل كان يطلق علي (منجوس) لتمتد هذه العلاقة بيني والراحل محمد عثمان إلى العراق عندما قدم لي خدمة ظلت عالقة بتاريخ حياتي في تسهيل إجراءات لتستمر العلاقة ليحدث أول اختلاف بأبوظبي عندما اختلفت الآرءا والأفكار دون أن يكون ذلك سبباً في العلاقات الأخوية باختلاف الرأي لا يفسد للود قضية - ثم إلى قطر مع استمرار الخلاف لتشهد العلاقة فتور لكن ظل هذا الرجل عندي رجلاً غير عادي لتميزه في كل شئ هذا الرجل المسالم المقدام الجسور فهو لا يعرف المستحيل يقتحم الصعاب فهو يملك جرأة غير عادية يطرق كل الأبواب في سبيل تحقيق الأهداف التي يؤمن بها، له عدد من المحطات التي رسم فيها خارطة إريتريا بأحرف من نور بأخلاصه ووفائه.
ومن هذه المحطات منطقة الخليج التي أوجد فيها صوتا قوياً لإريتريا بدبلوماسيته وإعلامه الثوري ذات المنطلق العروبي فهو كان رجلاً قومياً بعيداً عن التحزب منطلقاً من قناعاته الوطنية وفتح بذلك مجالات واسعة في الحياة للإريتريين خاصة المنح الدراسية والمجالات التعليمية. ولم يكن خلاف الرأي يوماً سبباً في حرمان أحد من هذه المنح فهو رجل متسامح من الآخرين وحتى وصوله لمواقع متقدمة في القيادة لم يغير في هذا المسلك الإنساني المتسامح المبادر لخدمة الاخر.
وبعد استقلال إريتريا ذهب الراحل محمد عثمان إلى أسمرا وكان من القلائل الذين يتحدثوا بوضوح أمام النظام بإبداء آرائهم وطالب بكل قوة عن إريتريا والعمل السياسي والحريات والحقوق ما عرضه للتهديد والابتزاز إلا أن ذلك لم يثنيه عن كشف وتعرية النظام الذي اعتبره انحرافا عن المسار الذي كانت فيه الثورة وكتب في ذلك رسائل لأصدقاء وشركاء الشعب الإريتري بأن الثورة سرقت وأبلغهم بالانحراف الذي أصاب النظام وكان يقول أن إريتريا تم اختطافها واعتبر أن الدولة سطت عليها مجموعة لا تنتمي إلى مبادئ الثورة ومنطلقاتها لكن للأسف كل هذه المواقف الشجاعة دفع ثمنها الراحل عندما كشف بعض المأجورين بهذه الرسائل وأصبحوا يبتذونه بها ويلاحقونه تارة بالتهديد وأخرى بالأغراءات وكل ذلك لم يثني الراحل محمد عثمان عن المضي قدماً في تحرير الشعب الإريتري من قبضة النظام الذي حرمه كثير من حقوقه. وعندما قرر مغادرة أسمرا إذ به يفاجى في عام 1994م في المطار بالمنع من السفر ووقتها ذهب إلى وزير الداخلية الراحل (على سيد عبدالله) ليجده على دون علم بقرار منعه من السفر ليتصل الوزير بنائبه (نائزقي كفلوم) فهو الأخر ليس لديه علم ليتصل هو الأخر بمسؤول المطار ليعرف من وراء المنع وذكر له مسؤول المطار أنه وصله قرار منع الراحل محمد عثمان من أحد المسؤولين بدائرة الشؤون العربية في وزارة الخارجية وقتها وهو شخص لايستحق حتى ذكر اسمه لأنه رجل مغمور في قامة الراحل عثمان أبوبكر. لكن ماجرى بعدها يوضح أن الدولة كانت تعيش في حالة اللا مؤسسية خاصة عندما علمنا أن وزير الخارجية نفسه ليس له علم إلا أنه في وقتها اتخذ قرارا بتوبيخ الشخص المتسبب في هذا القرار. ومن الطرائف حينما سألوه أحضر لهم ملفا فيه تقرير عن الراحل محمد عثمان أبوبكر وما كتبه عن النظام. وقالوا أنهم يستنيدون على ذلك ببعض عملاء النظام؛ وكذلك من أحد سفراء النظام بالخليج. ولكن شهادة للتأريخ أكتبها عن وزير الداخلية الراحل (على سيد عبدالله) الذي قال بالحرف الواحد للراحل محمد عثمان: إن ماكتبته عن النظام هو ماتراه أمامك ولكن أنا لمعرفتي بتأريخك النضالي سأسمح لك بالخروج ولكن أنصحك حين ما تكتب عننا كنظام يجب أن تكون بعيدا عن أعيننا. وإذا وقعت كتاباتك في أيدي الأخرين سيعرضك إلى الخطر وربما لايغفر لك ذلك. وكذلك وزير الخارجية وقتها (بطرس سلمون) هو الأخر تعامل مع هذا الموقف بالتسامح.
لهذا كان الراحل يعمل بكل ما أوتي من قوة وحجة في سبيل القرار الذي اتخذه لمحاربة النظام ليدخل معركة أخرى مع المعارضة التي لم تقبله هي الأخرى لاعتقادها القديم بأنه أحد أعمدة النظام وأن انضمامه إليهم لأهداف غير أهداف المعارضة الأمر الذي شكل عقبه جديدة في حايته السياسية وحتى حكومة السودان هي الأخرى لم تقبله ليتم ملاحقته ولكن بعد المحاولات وتدخل الأجاويد تم إرجاعه إلى القاهرة بسلام في عام 1997م لنلتقي مرة أخرى بفندق بارون في القاهرة عام 1998م بحضور أحمد جاسر والراحل عمر برج ومحمد شيخ عبد الجليل وفي تلك الجلسة التي لم أنساها كان الراحل يتحدث بروح المناضل الذي يستعرض تجربته بكل شفافية وقال يجب أن نتجاوز أخطائنا في هذه التجارب واستعراضه لتجربته كان فيها وقفات تسامح مع الاخرين وطالب الناس بأن تتجاوز الخلافات من أجل العمل سوياً وبناء حياة سياسية جديدة لنجتمع مرة أخرى بالقاهرة بعد عام ووجدته في موقفه ضد النظام بل أكثر ضراوة وقوة ومن المواقف التي جرت في هذه الفترة طلب منه الذهاب إلى أديس أبابا للإنضمام إلى التجمع الوطني المعارض فرفض ذلك وقال يجب تأجيل ذلك بسبب الحرب التي دارت بين إثيوبيا وإريتريا واعتبر أن هذا الأمر يمكن أن يشكل ضدنا تأليب للرأي العام وكان مع مبدأ المعارضة وهو أحد مؤسسي التحالف الإريتري في عام 2002م حيث كان إضافة حقيقة وقد أعطى أبعاداً جغرافية وتاريخية وحقق نجاحات من خلال توليه العمل ويرجع الفضل إلى آرائه في إثبات كثير من الحقوق والمواثيق الإسلامية داخل ميثاق التحالف وحتى عندما تولى مسؤولية العلاقات الخارجية بالتحالف حقق نجاحات كبيرة من خلال علاقاته القديمة والتعريف بدور وأهداف التحالف على مستوى المنظمات الدولية والإقليمية وقد قام بجولات شملت أمريكا وبريطانيا وألمانيا والسويد.
لنجتمع بصورة مباشرة من خلال السكن معاً لفترة طويلة في منزل واحد وعرفت عنه الكثير خاصة في جوانبه الإنسانية ودوره كأخ وأب وزميل دون أن تختل أحد هذه الأركان بقلبه الطيب وروحه المرحة وعرفته كيف أنه يعيش القضية الإريترية بكل جوانحه من أجل تحرير الشعب من عبودية النظام وكان كل همه جمع المعارضة.
وواحدة من المحطات المهمة في حياة الراحل محمد عثمان تعرضه لحملات التشويه المنظمة من قبل أبواق النظام وبعض ضعاف النفوس من المعارضة الذين لا يميزون بين المعارض للنظام والذي يقف إلى جانبه خاصة من خلال قيادته لقوات التحرير في الخليج ممثلا لقوات التحرير الشعبية وهي كانت اتهامات غير مبنية على حقائق ورغم ذلك قرر أن يعرض مذكراته قبل أن يرحل لتمليك الناس الحقائق وهذه شهادة للتاريخ أن الراحل سجل مذكراته وطلب نشرها وهو قيد الحياة ووثق سجله السياسي وكتب عن نفسه بوضوح وها أنا أدعو كل رفاق الراحل ومحبيه في العمل من أجل نشر ما تبقى من مذكراته وإعادة المذكرات التي تم نشرها لأنه إرث تاريخي ولا يمكن تجاهل تجربته الممزوجة بالكفاح والنضال في سبيل قضية كانت ولا زالت هم الشعب الإريتري لتظل هذه الرحلة التي عرفتها عن الراحل محمد عثمان أبوبكر ممتدة وعريقة لا يمكن أن تكفيها هذه الصفحات فهو رجل يحمل ذاكرة الوطن والشعب من خلال كتاباته التي أثرى بها المكتبة الإريترية باللغة العربية. ويبقى محمد عثمان ابوبكر في الذاكرة ما حييت رحم الله عثمان أبوبكر بقدر ما قدم للوطن والمواطن.