سيرة المعتقل الأستاذ/ ادريس سعيد محمد علي

بقلم الأستاذ: عثمان جمع علي

لعلها لحظة فريدة بمعني الكلمة أن أمتلك أعصابي فاستعيد ذاكرة الصبى، ذاكرة ﻷخوة ورفقة العمر والغربة.

إدريس سعيد محمد علي برهوقد ولي ربيع العمر كطيف حاملا كل الاماني العظام، فاصبح سرابا اطبقت عليه عاديات الزمان فلم يكن فيه خيار غير هذ التغييب القسري عن الدنيا باسرها لا لجرم اقترف غير الانتماء لهذا الوطن المستبد بالاوفياء.

لا اعلم من اين استجمع عبارات تصف مآساة ليست حصرا ولكنها نموذج. وكل يصف الوجع من موضع اساه وكل الجسد مكلوم؛ وبذكر عظامها تنفطر الأفئدة فلا تقوى الحروف ان تقوم مقام لظي القلوب. ما أحر أن تصف الحال بنفسها بهذه الاحرف القاسية كقساوة قلبي الذي بقي علي قيد الحياة من غير حراك. تمنيت أن أكون المغيب ويبقى اولئك المغيبون أمثال الاستاذ ادريس سعيد محمد علي ورفاقه الاقوياء الاوفياء الخلص للوطن والدين، لكان حال الدنيا أفضل؛ ولكن قدَّر الله ان يذهبو و يُغيبوا أحياء و نبقي نحن من غير حِراك. لعلها ذكري تحيينا فنتذكر مآسينا وخياباتنا لابنائنا علَّهم ينفضوا عنا هذا الركام.

عرفت اﻷستاذ ادريس منذ الصغر، كان كبيرا بعقله و اهتماماته. رفع شأن الوطن منذ نعومة أظافره، كان استاذا منذ ان كان في المرحلة الابتدائية و الاعدادية حيث كان موهوبا في توصيل المعلومة لأقرانه، يهرع اليه الطلاب اكثر من معلميهم للإستعانة به في شرح المسائل الصعبة. فكان لهم اخا واستاذا مميزا في كل شيئ. ولوكان غاويا لغير العلم الشرعي ورسالته العظيمة لفتحت له الحياة أوسع ابواب الشهرة في مجال الرياضة، حيث كاد أشبال مريخ السودان أن يتلقفوه من الصف السابع ولكنه رفض لانه كان يعيّ رسالته حقا، و لم يخبر بذلك الشيخ محمد ادريس - المربي و المعلم الفاضل الذي غرس فيه و في أمثاله معاني التضحية و الوفاء و كان بمثابة الوالد للجميع اطال الله في عمره وبارك في ذريته؛ و ما ذكر أحد من ذالك الجيل والا و كانت للشيخ محمد ادريس يد و فضل من الرعاية والتوجيه في وقت لم ترقَ فيه هموم الاخرين سوى للمأكل والمشرب.

بعد ان اكمل المرحلة الاعدادية بتفوق وتهيأ لدخول المركز الاسلامي الافريقي توفي والده فاصرَّ على العودة إلى الوطن والاهل رغم اصرار الشيخ محمد ادريس و والدته لتكملة دراسته. و لا أنسي عبارته الشهيرة عندما قلت له "عليك ان تكمل الدراسة و يمكن ان تنتقل الاسرة الي السودان" فرد قائلا "لا يمكن ان يفلح ارضنا فلاح و انا عايش هذا قدري و سوف ارعي اخوتي بنفسي و الله يعيننا".

انتقل ادريس الي قدره و بروح وطنية عالية بدأ التدريس بمعهد حلحل مع الشيخ ادريس حامد سعدالله رحمه الله وبارك في ذريته، وهو حامل راية العلم والدين و الذي كان يقدم له النصح. و قد طلب منه الانتقال الي معهد الضياء بكرن كي يعينه في التدريس هناك. وقد كان اﻷستاذ إدريس موضع تقدير واعجاب من الشيخ و من معه من الاساتذة. بعد انتقاله الي مدينة كرن تمكن من تعلم اللغة التجرينية و الامهرية بسرعة فائقة فأعانتاه في التواصل بالمجتمع المحيط و اصبحت علاقاته واسعة في المدينة لدرجة ان بعض مرضي النفوس بدأوا يشيعون انه يهدف الي امر ما من وراء هذا الالتفاف؛ و هذا داب من لايعرفون النفوس الكبيرة، فهم صغار النفوس ضيقيّ العقول تضيق عليهم الارض مع الاحرار. ﻷنهم يحبوا أن يعشوا وحدهم كالخفافيش في ظلمات الجهل والضلال.

حقا الحديث عن اﻷستاذ ادريس ليس حديثا عاديا، إنها ذكرى تفتح الباب على مأساة متشعبة تعصف بالحياة. لكن تلك النفوس الكبيرة تتلقاها صابرة كالجبل الأشم لا تهزه الريح، و دائما تاتي المحن بقدر إيمان وصلابة من يتلقاها.

بتاريخ 1994/12/24 في وقت متاخرٍ من الليل تسوَّر المنزل عساكر ملثمون من زبانية الهقدف، فطرق أحدهم باب المنزل، خرج اﻷستاذ إدريس بثبات و بثياب النوم فسأله "اين ادريس؟" أجابه و هو يعلم مكنون السؤال وكَيّد السائل طالما أخفي وجهه باللثام "أنا إدريس"، طلب منه أن يرافقهم خارج البيت للحديث معه، فادرك أن الامر سوف يطول فأراد أن يغيّر ملابس النوم فرفض العسكري. وعند فناء البيت اجتمع باقي العصابة و سأل الجندي الدليل المُلثم بلغة التجري "أهذا إدريس" قال "نعم إنه إدريس". عندها غطى وجهه و قيَّده و اقتادوه إلي سيارة كانت في انتظارهم. قبل ان تتحرك السيارة أرادت والدته التي هرعت عند سماع الحركة أن تلحقه ببعض الثياب قائلة لهم "السجن للرجال خذوا ثيابه معه". دفع بها أحد الجنود حتي سقطت على الارض. لكن تلك المرأة التي أرضعت اﻷستاذ إدريس الرجولة استدعت في تلك اللحظة كل معاني الثبات وآثرت الصبر على الجزع، تذكرت ان الصبية خلفها يحتاجون إلى من يقف معهم.

ترى لو جزِعت من سينقل الدرس للابناء و الاحفاد؟! من سيخبرهم بمختطف والدهم مع أقرانه الابرياء؟! أدركت في أعماقها أن سلسلة الإختطاف واﻹختفاء القسري سوف تطول. حين علم أخوه بخبر اﻹعتقال تقدم صف اﻷبوة قادما من السودان قاطعا دراسته في جامعة عطبرة السودانية فعاد ليَعوّلَ الاسرة؛ ليجد نفسه مجندا هو الآخر قسرا لتصبح الاسرتين من غير عائل. فتقدم أخاه الآخر الذي لم يتجاوز الخامسة عشر من العمر عائلا و معينا لكن أيادي الغدر لم تهمله كثيرا، فاقتيد مجبرا إلى التجنيد و اصبحت الأسرتين من غير معيِّل و معين. و اختلط الحابل بالنابل و مازالت اسوار الشموخ و المروءة تعلو منيعة دون انكسار. وأخيرا وصلت أيادي الغدر إلى الابن الاصغر الذي كان في الفصل السابع فقط لانه طويل القامة ولان أهل الغدر قِصار النظر. يومها نصح ناصح أم إدريس أن تترك ارتريا وتتجه الي السودان فكان ردها "انهم يريدون هذا ولكنيني مؤمنة ان اﻵجال بيد الله و إني لن أغادر الوطن". لله درك من أم، يا أم ادريس فقدتك أمة و ليس أسرة، عشت كريمة و مت عزيزة، رضيت بأقدار الله فقدَّر الله لك أن تدفني في وطنك كما أحببت لتكوني نِبراسا للإجيال.

ترك اﻷستاذ إدريس خلفه أربع من الابناء و البنات جميعا قد تجاوزوا المآسآة بِحمدالله و قد تزوجت كبرى البنات بأحد ابناء السجناء.

الحرية ﻷحرارنا في السجون والخزي والعار لزبانية الهقدف الجبناء.

اسرع خطواتك يا عام كيّ لا يهنأ ظالم.

Top
X

Right Click

No Right Click