٢٥ عاما من التغييب مأساة رجل أم مأساة شعب؟
بقلم الأستاذ الشيخ: إسماعيل إبراهيم المختار - عضو لجنة الفقه في الهيئة الاسلامية في مانيتوبا
كان عام 1991م عاما إستثنائيا بالنسبة للشعب الإرتري.
في هذا العام تم تحرير مدينة أسمرة، وإلحاق الهزيمة الكاسحة بجيش منغستوا. لقد كان عاما إنتشى فيه الشعب الأرتري، حيث رأى ثمرة نضاله الذي دام 30 عامًا، وتحق له حلمه الذي كافح من أجله طويلا. إثر هذا الإنتصار الباهر، كانت هناك موجة من الحماسة والمناقشات الواسعة بين الإرتريين في الخارج حول العودة إلى الوطن، وإعادة بناء البلد من جديد، وجعل إرتريا دولة نموذجية، لتكون ”سنغافورة“ إفريقيا.
كنت في زيارة للسعودية في ذلك العام، وقابلت حينها زوجا وزوجة كان بينهما خلاف شديد. لقد عاشوا في جدة لثلاثة عقود مضت، وكلاهما كانا في أشد الحماسة للوطن، وكانت الدموع تترقرق في أعينهما وهما يتحدثان عن العودة إلى أرتريا، وإعادة بناء حياتهما هناك من جديد. الزوج كان مستعجلا ويريد أن يغادر على الفور، ويقول أنا أبكي شوقا لرؤية بلدي، أريد أن أغادر في أول رحلة جوية تتجه نحو أرتريا. الزوجة كانت على نفس القدر من الحماس، ولكنها كانت تقول لزوجها، تمهل قليلا لبضعة أشهر حتى نرتب أمورنا، ونكمل إستعدادتنا. كان النقاش بين الزوج والزوجة نقاشا عاطفيا، حارا، مفعما بشوق مدهش للعودة إلى الوطن.
وجاء إستفتاء عام 1992م ليزيد من وتيرة الحماس الوطني المتصاعد بين الارتريين. ولقد عبر أحد المراقبين الأجانب عن إعجابه بالإستفتاء، قائلا إن الشعب الأرتري قد وضع سابقة ديمقراطية في بداية تأسيس كيانه السياسي، ولن يستطيع أحد من الإنحراف به عن هذا المسار الديمقراطي الذي انتهجه أثناء الإستفتاء. وكغيري من الأرتريين كنت متحمسًا أيضًا، رغم شعوري أن بعض مظاهر الحماس كانت مبالغة، وأن التوقعات المستقبلية كانت غير واقعية.
بدايات تبدد الحلم:
بالنظر إلى تاريخ الكفاح المسلح المستمر لثلاثة عقود، كان من الواضح أن إرتريا ستواجه تحديات كبيرة وخطيرة. الحماس البالغ الذي غمر الأرتريين في عام 1991 لم يستمر طويلا. بعد ثلاث سنوات فقط، بدأت الأمور تتغير. ظهرت على السطح أنباء عن إجراءات قمعية ضد المعارضين، وإنباء عن حالات خطف واختفاء سياسي. كنت حائرا في كيفية التعامل مع هذه الأنباء، ونفسي لاتريد أن تصدقها. قلت لعلها شائعات كاذبة، لعلها أخطاء غير مقصودة، لعلها عثرات مرحلية سيتم تداركها عاجلا. ولكن الأمور تبدلت عندي في 14 أكتوبر 1994، حيث تحولت ”لعل“ إلى حقيقة مروعة. في هذا اليوم اختطف أخي لأمي، الشيخ محمد عمر إسماعيل، من إحدى الشوارع في مدينة أسمرة. عاد الشيخ محمد إلى أرتريا بعد الإستقلال ليزور والدته، بعد غياب ثلاثة عقود من الزمن عن وطنه وأهله. بعد ما يقارب من أسبوعين من وصوله، خطف الشيخ محمد وغيب خلف الكواليس.
يصادف هذا العام الذكرى السنوية ال 25 لاختفائه، ولا يعلم حتى يومنا هذا ما هو مصيره. كان إختفاء الشيخ محمد شديد الوقع على نفسي، لا لقرابته الأسرية فحسب، ولكن أيضًا لعودة ذاكرة شبح الأيام المظلمة لمنغستوا، والتي ظننت أنها أضحت ماضيا لن يعودا. كنت شابا نشأ في أسمرة في أيام نظام منغستوا، وشاهدت الرعب الذي كانت تنشره عصابات إلخطف التي كانت تعرف باسم ”عفان“. وكان أفراد هذه العصابة يجوبون الشوارع في سيارات ”فولكس واجن“ الكبيرة، وعددهم مابين الثلاثة أو أكثر. كانت هذه العصابة تخطف الناس من الشوارع، والمدارس، والمقاهي، وأماكن العمل. ورغم أن توقعاتي لمرحلة ما بعد الإستقلال كانت واقعية، وكنت أتوقع بعض الإخفاقات والتراجعات، لكنه لم يخطر ببالي أبدا عودة ”العفان“ بعد التحرير، باسم ومظهر مختلف، وخطف الإرتريين من الشارع مرة أخرى. بحثت عن كل سبب لتبرير هذا الحدث المحزن، ولكن الواقع المرير كان ماثلا أمام عيني. ومع استمرار ظهور المزيد من حوادث الخطف والاختفاء، أصبحت هذه الحقيقة المظلمة قاعدة مستقرة في بلدي البائس.
من هو الشيخ والداعية محمد عمر إسماعيل ؟
ولد الشيخ محمد عمر حوالي عام 1950م في وادي ”وسانا“ بالقرب من قرية ”إرافلى“. غادر الشيخ محمد عمر إرتريا في ريعان شبابه، في أواسط الستينيات، سعياً وراء طلب العلم. إتجه إلى السودان، ومنها إلى مصر، حيث التحق بجامعة الأزهر. أتم دراسته الأزهرية، وتخرج من كلية القانون والشريعة. يعمل خريجوا هذه الكلية عادة في المجال الأكاديمي، أو القضاء، والمحاماة، والتعليم، وبعض الأحيان في مجال الإمامة. كان الشيخ محمد رغم خلفيته الأكاديمية، يحمل نفسية الناشط، الذي يؤثر العمل الجماهيري على الإنزواء في الوسط الأكاديمي والوظيفي. بعد التخرج، أقام الشيخ محمد في القاهرة، وفرغ نفسه للدعوة، والتوجيه، ومساعدة القادمين الجدد والمحتاجين إلى العون والتوجيه. وصفه صديقه، الدكتور بيان، العالم الإثيوبي، بمبعوث الخير، تنويها بما كان يقدمه من خدمات لغيره من المحتاجين.
كان الشيخ محمد معروفًا في الوسط العلمي في القاهرة. كان صديقًا وطالبًا لشخصيات بارزة مثل الدكتور محمد البهي، والدكتور أنور الجندي، والشيخ الباقوري، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ الشعراوي وغيرهم. كان الشيخ محمد واسع الثقافة، كثير الإطلاع، حريصا على تعليم الأخرين ونشر المعرفة بينهم. وكان أفضل ما يهديه لأصحابه ومعارفه هو الكتاب. ولقد استفدت شخصيا من العديد من الكتب التي كان يرسلها إلي من القاهرة. ومن خلال هذه الكتب تعرفت على عدد من كتاب مصر وعلمائها البارزين، مثل العقاد، والمنفلوطي، والغزالي، وشلتوت وغيرهم. وكان الشيخ محمد أنيقا في كتاباته، فصيحا في عباراته، ورسائله التي كان يرسلها إلي كانت ذات طابع فكري وعلمي. وعلى الرغم من توفر العديد من فرص العمل له في بلدان النفط الخليجية، إلا أن الشيخ محمد آثر البقاء في القاهرة، والعيش فيها عيشة بسيطة.
كان الشيخ محمد حريصا على دينه، لطيفًا في تعامله، مهذبًا في طبعه، متواضعًا في سلوكه، مراعيًا لمشاعر الأخرين. لقد عمل الشيخ محمد بإخلاص من أجل القضية التي كرس نفسه لها، التربية وخدمة الآخرين. ولا زالت بذور الخير التي زرعها الشيخ محمد باقية في ذاكرة وعقول المئات من محبيه، الذين وجدوا فيه نموذجا للتفاني والعمل الخيري والدعوي. وأنا لا أعلم الكثير عن التوجه والنشاط السياسي للشيخ محمد، ولكنني أعلم أنه كان رجلا مخلصا لوطنه، محبا لشعبه، وفيا لقومه.
أسئلة محيرة، إن إختفاء الشيخ محمد والكثيرمن أمثاله يثير العديد من الأسئلة المحيرة:-
• لماذا تم اختطافهم من الشوارع؟ لماذا لم يتم إعتقالهم من منازلهم وبمذكرة إعتقال قانونية ؟
• لماذا احتجزوا في سجون وأقبية سرية ؟ لماذا لم يحتجزوا في سجون عامة ؟
• لماذا حرموا من زيارة ذوويهم وأقاربهم ؟
• لماذا لم يقدموا إلى المحكمة ويسمح لهم بالحصول على محام يدافع عنهم ؟
• إذا كانوا مجرمين حقا، فلماذا تبقي قضاياهم في طي السرية والتكتم الشديد ؟
إن الطريقة التي إختفى بها الشيخ محمد والعديد من الشخصيات السياسية، والفكرية أمر مقلق للغاية. الإنسان، أيا ما كان توجهه وأيا ما كانت جريمته، فإن حقه الإنساني في أن يعامل معاملة إنسانية عادلة تبقى ولا تزول. ولو أن منجستو هيلى ماريم - فرضا - رغم كل الجرائم التي ارتكبها، تم القبض عليه في أرتريا، فإن القيم التي قاتل الأرتريون من أجلها تحتم عليهم معاملته معاملة إنسانية، ضمن الحدود القانونية، والأعراف الدولية لحقوق الإنسان. إن هذا الإرث المظلم للخطف والتغييب السري سيظل وصمة عار في جبين مرحلة مابعد الاستقلال، ونقطة سوداء في سماء التاريخ الأرتري المعاصر.
لجنة الحقيقة والمصالحة:
أنا لست هنا في معرض الدفاع عن الشيخ محمد، ولا في معرض توجيه أصابع الإتهام، أو السعي وراء المشاحانات الحزبية. أنا ببساطة إنسان أرتري، رأى أحلامه في إرتريا الحرية، والعدالة، والإنسانية تتبدد أمام عينيه. أنا إنسان غرس فيه حب ”الحرية“ والتطلع إليها منذ نعومة أظفاري، ونشأت أسمع الحنين إليها من كل من حولي من القريب والبعيد. في أيام حكم منغستوا المرعب، قال لي ولجمع من الشباب أستاذ مخضرم - الأستاذ أحمد الدين - ”أنتم الجيل السعيد، الحرية على الأبواب، وستعيشون حياتكم تحت ظلها؛ لن يكون هناك ”عفان“، ولارعب، ولا سجن، ولا حرب“. كان هذا حلم وتوقعات كل الإرتريين.
لا شك أن سحابة مظلمة قد ألقت بظلاها على إرتريا اليوم، وحرمتها من شعاع شمس الحرية، ونسيم العدالة. ولا يمكن لأي إرتري يحمل ضميرا إنسانيا ووعيا إجتماعيا، بصرف النظر عن إنتماءاته، أن يبرر عمليات الخطف والاختفاء التي حدثت ولا تزال تحدث في أرتريا. ولقد حان الوقت للجميع، بما في ذلك من ارتكب هذه الانتهاكات الحقوقية، أن يقفوا وقفة صادقة مع ضمائرهم، وينظروا إلى الوهدة العميقة التي سقطت فيها أرتريا.
ولعلي أقترح، رغم مايمكن أن يبدوا عليه من السذاجة، أن نسير على خطى دولة جنوب أفريقيا في تبني نهج ”الحقيقة والمصالحة“، لإسدال الستار وإغلاق هذا الفصل المظلم إلى الأبد. وعلى غرار تجربة جنوب إفريقيا، فإن هذا المشروع يمكن أن يأخذ الشكل التالي:-
• تعيين هيئة من كبار السن والحكماء للإشراف على هذا المشروع.
• الكشف عن مصير جميع المغيبين وبيان ما حدث لهم.
• السماح للباقين من ضحايا الخطف والتغييب والإعتقال برواية ماوقع عليهم من عسف خلال فترة التغييب والإعتقال.
• السماح لمرتكبي هذه الانتهاكات الإنسانية بفرصة الإعتراف والتماس العفو من ضحاياهم.
• إغلاق جميع السجون السرية، وإطلاق سراح جميع سجناء الرأي.
• تبني ميثاق وطني رسمي يمنع تماما الإختطاف، والسجون السرية، والتعذيب.
إن العالم يتغير ويتجه نحو مزيد من الحريات، والوضع الراهن في أرتريا لن يدوم. وبدلاً من أن يأتي التغيير على شكل إنفجاري، يكون من مصلحة الجميع المبادرة بالإصلاح والتغيير المرحلي. لاشك أن أضررا كبيرة قد وقعت، و من الأفضل دائمًا تحمل مسؤولية هذا الضرر، وتغيير المسار، والاتجاه نحو الوجهة الصحيحة.
أما أخي الشيخ محمد، فقد مضت 25 سنة، ولا يعرف شي عن حاله ولا مصيره، ولقدت رحلت والدتنا وهو مغيب، دون أن تكتحل عينها برؤيته مرة أخرى. ولا أدري بأي دعاء أدعوا له، أبدعاء الأحياء، أم بدعاء الأموات. وحتى يعرف مصيره على القطع، فسأظل أدعوا وأقول: ”اللهم إن كان لا يزال حياً، فثبته وأنزل عليه السكينة والطمأنينة؛ وإن كان قد مات، فارحمه رحمة واسعة، واجعل ما أصابه في موازين حسناته“.