محمد مرانت الـشـّيـخ الـقـائد - الحلقة السّـابعة

بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب ومؤرخ إرتري، المملكة المتّحدة

سنة ثالثة سجن وقصـّة الإختفاء (1) من تدويناتى عن وحول الشّيخ (مرانت) فى سنة ثانية سجن

محمد مرانت نصّوركما أسلفت حكمت المحكمة العسكرية عام 1973على الشيخ القائد (مرانت) خمسة أعوام سجن مع الأشغال الشّاقة لما كان له من سـابقة فى عام 1969 وقضى الشيخ 3 سنين وستّة أشهر فى سجن (دقانا) فى عد عقب فى (كرن) وتمّ تحريره مع دخول الجّيش الشّعبى محرّرا لمدينة (كرن) فى يوليو1977 مع كثيرين آخرين من السّجناء السّياسيين شكرت المدينة أبناءها فى مناسبة التحرير متمثّلة فى شيوخها وعلى رأسهم الشّيخ القاضى (أبوبكر عبدالله صالح) قاضى كرن وقرورة سابقا و الأب الرّوحى للجبهة فى المدينة و قدّوة الشيخ (مرانت) ومزكّيه لقييادة العمل السرّى الجبهجى في المدينة والشيخ (بارهأب آمنة) رحمه الله.

ولم يتردّد الشيخ (مرانت) لحظة فىشكر مناضلى الجبهة الشعبية الّذين حرّروه من السّجن وعاد يؤدّى رسـالته التعليمية حامدا ربّه بأنّ الأمحرا غادرو وتركو الأرض والشعب مرغمين خرج (القاضى مرانت) من السّجن ليجد أنّ المحقّقين والمخبرين قد رحلو ومعسكر (شيشيتا) وااللواء الثّانى عشر الّذى جسم على المدينة قد ولّى وأدبر ومن بقى منعسكر الإمبراطور من الإرتريينقد عفى عنهم الزّمن وخرجو من دائرة الإتّهام والتخابر وكأنّ زمن المحاسبة لم يحن بعدإختفى (حدقو عيلا برعد) لأنّ فدائيين أشبعوه قتلا فى وضح النّهار وإختفى الملقّب (ليبان كليف) وغادر المدينة أيضا (محمّد دبّاس) و (هاى وى) و (السّرجينتى) وشلّة الطّابور الخامسمن سكان القرى المسلحّة غادرو جميعهم إلى غير رجعة و غادر أيضا كلّ من عرف فى نفسه سوء إستعمال السّلطة والمبالغة فى الإجرام.

- عاشت المدينة خمسة أشهر من عام عام 1977 فى فرح وحبورولكن بدأالوضع فى التّعقيد بعض الشّيئبعد أن إختفى من المدينة بعضا ممّن خدم تحت إمرة الإمبراطور ونفر من الأبرياء مثل (سرجينتى تولدى بيّن) والسيّد (إدريس الملقّب بـ عشّت حنّا) والسّيد (وأبرها وندرياس) وغيرهم وبعضا من شباب المدينة أيضامع بداية عام 1978 وبعد معارك تحرير (بارنتو) الّت لم تنجح تريّث الشيخ و تريّث المحرّرونحينها وكأنّهم أرجأو موعد المواجهة إلى حين ليس فقط لأنّ الشّيخ له حضور قوّى فى سياسة المدينة ولكن أيضا لأنّ المدينة سقيت حتّى الإرتواء من نهر الجبهة العتيق والمتأصل فى المدينة و أزّقة المدينة وشوارعها كانت لا زالتتروى عن ذكريات وأفعال النّضال طريّة تحكىعن تأريخ عتيد وأمل وليد ولكنّه لا يشبه المحرّرونفى كثير من ملامحه وكان لزاما عليهم وضع ملامحهم لتكون جزء من الصّورةومن المدينة الأسطورة، وطريق البحث عن التّغيير والتّأثير بدى لهم وكأنه ينتهى ويبدأمن عند محراب المسجدوالعاكفينعلى حفظ وتفسير المصحف فى المعهد العتيق.

التّغيير أصبح حاجة ملحّة حتّى تثبت الأرض تحت أقدامهم ولكن لمن أعدّ معاول التّغييرفى مخابراتهمأيقنبأنّلا تغيير يرتجى والحال هكذا ومن إزالة الأرض المستحيلة إختارو إزالة البشر ولكن بالتروّى وبخطوات محسوبة وتلك كانت ولا زالت أحدى أعصى الخيارات أماهم وعلىكلّ جائر.

كل الظروف والأحداث كانت ترغم الشّيخ لدخول معترك السّياسة ولكنهيتريّث ولم يكن له أيضا مطلق الحرّية ليلتقى رفاقه فى (حقّات) أو عنسبا وفى كلّ البعد القريب الجبهة تواجدتعلى بعد ثلاث أو أربعة كيلو متراتمن آخر نقطة تفتيش فى غرب المدينة وبالتحديد فى قرية (إنكماترى) فى (بقّو) وفى شرق المدينة فى قرية (حشلا بلين)وكان قد إستلم الخطّ السّاخن مع جبهة التحرير الإرترية المناضل(أحمد شيخ زايد) فى غياب الشيخ (مرانت) وبعده المناضل (أحمد شيخ زايد)يعمل بهدوء ويمدّ خطوط التواصل بين الشّعب والجبهة ومناضلو الجبهة يعبرون المدينة إلى الشّرق إلى (عيلا برعد)وإلى الشّمال إلى عنسبا (أزرقت) وكلّ المغادرين من المدينة إلى الغرب يحملونعند الوصول إلى مدينة (حقّات) بطاقة الجبهة أو رسالة المرورمذيّلة بإمضاء (أحمد شيخ زايد).

والجبهة الشّعبية تدرى ولا تدرى وكأنّها تقول كلّ شيئ بأوانهالشيخ القائد يأتى إلى حقّات ليهنّئ قيادات الجبهة بالإتفاق الإكتوبرى يجسّ النّبض ويؤكّد على تقفّى الأثر.

وعند العودة إلى كرن تأتى القيادات الجبهجيةلتحتفى إحتفاءا مزوّر تتبادل كلمات التّرحيب والتّبجيل لا يتعدّى مفعولها الحلاقم ويظهر (الزّعيم) الرّئيس الغبن والحقد فيرفض الرّقص والإبتهاج وتمرّ تلك القصّة كغيرها وتعبر ذاكرة الجبهجيين بلا تمعّن.

وفى الأيام الّتى تلت من عام 1978تطلب سلطات الشّعبية من شعب المدينة الخروج فى مظاهرة مؤيّدة لإتّفاقية أكتوبر ويخرج الكل ويبقى الشّيخ فى محراب المعبد الكبير يتلو المصحف فى شيئ من مراجعة الذّكر و الذّاكرة لينقل له المشاركون إختلاف شعارات المظاهرة إختلف الكرنيون مع الشعبية حول أهداف المظاهرة ولكنّهم شاركو على مضض فكان من يردّدبالتقرنية (سبّى سراقى إيو) سبى آي وكّلنان إيو.

ونفس الشّعارات يردّدها بالعربية من والى الولاة الجدد مدعوما بكوادرهم (سبّى يسرق الثّورة) (عثملن صالح سبّى لا يمثّلنا) وهى من صميم شعارات الجبهة الشّعبيةالصالحة لكلّ زمان ومكان تفسّر العداء المرتّب والمؤصّل و لكنّ الكرنيون أو جلّهم يردّدون وبلغة عربية قوّية ومتينة وبصوت واضح (نحن مع إتّفاقية 6 أكتوبر) (حتّى ظنّ البعض أنّهم يتعبّدون أو يذكرون الله).

قالالشّيخ فى حينه فىالأمر سياسة وكثير من الخباثة ولكنه لا يعير كلّ تلك الأمور أىّ إهتمام ظّانا أنّ الأمر يحتاج إلى تصليح وتقويم ولكن ليس اليومجاء إليه بعضا من (الخفافيش) والحفافيشوهم يطأون المسجد العتيق بأحذيتهم ليدخلو عليه فى مكتبه ودار النّقاش معه ومع بقيّة الشّيوخ حول المظاهرةوأمور أخرى تتعلّق بموقع الشيوخ والمدينة ولكن النّقاط السّاخنة كانتقد طرحت و إحداهامسألة (الوقوف حدادا على الشّهداء إثر إختتام أى إجتماع أو درس أو عرس ولكن شيئا واحدا أصبح يقينا وحاضراوأنّالصّراع قد حل وكان من غير الممكن تحاشيه لأنّ الثوار أرادو كلّ شيئ بسرعة وبلا تأخير وأرادوها بطريقة تؤمر تنفّذ ونفّذ ولا تناقش ولكن الشّيوخ أمرهم لا يتبدّل ويعملون بدستورهم الوحيد فى الحياة الدّنيا وهو القرآن الكريم ويجادلون بالّتى هى أحسن ولكن من لا يعرف دينك لا يعرفك ومن لا يحترم قيمك لا يعير لوجودك إى وزن وتلك كانت أسوأ معادلة أفرزها تحرير مدينة (كرن) عام 1977 ولتنتهى قبل أن تحسم وتختم ويحسم الحوار حولها ويرسو على مرفأ.

والنقاطا لسّاخنة للحوارعلى الطّاولة كانت كثيرة وإستمرّ الجدل فيها طيلة حكم (الجبهة الشّعبية فى المدينة) والّذى إستمرّ ثمانية عشرة شهرا وهى مسألة وقفة الحداد على الشهداء وإزالة العمم عند الرّجال والطّرح عند النّساءفى لحظات الحداد وأيضا مشاركة النّساء فى كلّالنّشاطات ومن ضمنها محو الأميّة والتثقيف السّياسى تلك الأمور الّتىأربكت المدينة المحافظةقال أحد الشّيوخوهو فى حالة غضب فىقضايا الخلاف:

هل أتى هؤلاء ليحرّرونا من إثيوبيا أم من الإسلام هل جاء هؤلاء لوأد القيم والمساس بالمعتقدات؟ ألهذا تكبّدنا أصناف العذاب وإستقبلنا رصاص الملك بصدور عارية وما الّذى يحصل فى قدسية التّحرير عانينا كلّ هذه السّنين ليكون حصادنا الجحود والنّكران والإنقلاب على الشعب الّذى وهب ماله وفؤاده وخيرة أبناءه ليجنى الإحتقار والتجنّى على دينه وعرضه!!!

وأضاف الشّيخ:
كيف يستقيم الأمر أننعانى ونقاسى أيضا فى التّحريرحدادنا على أبنائنا يجب أنيكون بالدّعاء لهم والترحّم عليهم ليتقبّلهم الله فى فى فردوسه الأعلى جزاء كلّ ما قدّمو لهذا الوطنفى كلّ مجالسنا وصلواتنا ولكن بلا تقديس وإنأراد الحكّـام الجددوقفنا حدادا لدواعى تجنّب الإحتكاك والإحتقان ولكن بلا تحييدا للعمم امّا النساء فلا يجوز لهنّ خلع الأغطية وإن كنّ بين النّساء ولا رجلا بينهنّ ولكن يحتدّ النّقاش والحوار وكلّ يوم يجرى الإستقطاب ولكن أصحاب السّلطة لمعرفتمهم بمكانة شيخ المشائخ (القاضى أبوبكر عبدالله) يتلمّسون الموافقة منه أو تلطيف الأجواء ومن يدير دفّة الصّراعيجلس بعيدا فى المكاتبليأتى (سليمان جماهير وصالح نقفة) ليتفاوضو بإسم الولاة الجدد فينبرى الشيخ الوقور وبعد التّشاور مع الشّيوخوأعيان المدينة ليقول لهم: (سمعو ولادعافية تلبسكم).

قال: أسمعو يا أبنائى يعطيكم العافية إنّ العمم هىشيمة الرّجال وهيبة المسلم ووقاره وإنّنا بحكم الدّين نختلف معكم فى شأنها وفى إنزالها ساعة الحداد على شهداءنا إنّ القوم سجدو وركعو للملك الذّى مضى وولّى ولكنّا لم نركع ولم نسجد ولم نحيّد العمم فلماذا تطلبون منّاأنتم ذالك؟ أبناؤنا ومن نتوخّى فيكم إحترام أهمّ قيمة فى أركان الوطن وهىالعقيدة المحمّديةوعندما بدأ التلاسن وإرتفعت الأصوات قال لهم الشّيخ أبوبكر عبدالله:دعونى أقول لكم كلمة فاصلة (إنّنا قبلنا على مضض ذهاب النّساء فى فصول التثقيف ومحو الأميّة ولكن إنزال العمم فى وقفات الحداد هذه ليست منّا ولا من ديننا وإن أصرّ ولاتكم على ذالك بقصد إزلالنا نريد أن نؤكّد لكم أنّ هذه العمم لا تزول إلا مع الرّؤوس فانتفض الكوادر حينها ليقولو للشّيخ القاضى أبوبكر( سوف نمهلكم أسبوعا كاملا لتراجعو الأمر وتتّخذو القرار المناسبو إلاّ سوف تكون لنا إجراءات صارمة فى هذا الشّأن) وضربو موعدا ليوم الأربعاء المقبلقال الشيخ: (وربى هى آى قيسامثل ربّى إنطنحكّم).

قال: الله ربّ الكون موجود سوف ننتظركموالله معناولكن أين المفرّ من حكم اللهأراد الله سبحانه وتعالى أن تعلى كلمته ويفصل فى الأمر قبل يومين من ذاك الأربعاء فىيوم الإثنين من شهر نوفيمبر 1978إنسحب الولاة الجدد إلى دجنهم فى ساحل إرتريا الحبيب تاركيين المدينة لقدرهاودخل الجنرال الغازى(فقرو ولدى تنسائى) عابرا نهر (سيتيت) وزاحفا نحو المدينة وخاطب السكّانفى خطبة الإستيلاءقائلا:(لقد سمعنا أخباركم ووصلتنا أنباءكم مع من سميتموهم (درقى عبّاى) هؤلاء مجرمون لا يحترمونكم أمّا نحن سوف نحقّق لكم كلّ ما تريدون إن أخلصتم لنا ولدولتكم إثيوبيا أنسوا الماضى فنحن أصحاب العهد الجديد).

والقوم فى حيرة وإضّرابولكن راضيين بحكم الله وإرادته التى حوتكلّ شيئ حكم إرترى دام ثمانية عشرة شهرا أشاع الجدل والحوار العقيم وشغل البال وفرض على الكلّ سؤال؟ هل ذالك نمووج دولة الغد الموعودة؟ فى أىّ زمن نحن؟ ولماذا الـ (هم ونحن) ومن نحن؟ ومنهم؟ وماذا سوف يكون مصير الوطن فى ثنائيته الدّينية وإختلاف ألسنة مواطنيه أين الحكمة وأين العدل؟ وماذا عن المبادئ الأولى الّتى كانت ميثاقا لوجود الوطن؟ ألم تكن الثّورة تحقيقا لتلك المبادئ؟ أمإنقلبالثّوار على المبادئ؟

ولكن مرّ ت الأياموجاء عام 1980 عام الإقتتال الأخوى و إستمرّ زهاء العام والشيخ يأسف للبنادق الّتى توجّهت إلى صدور أبرياء الوطن وينهى الإحتراب الوجود العسكرى لجبهة التّحرير الإرترية أو إضعافها إضعافا مهينا يتحسّر الشيخ ويحبط لأنّه رآى حصاد الهشيمرآى أنّ السّرح الّذى دفع فى سبيله كلّ غال ونفيس ينهار وتأتى الأخبار من خلف الحدود أنّ (جبهة التّحرير الإرترية) إنقسمت على نفسها تروّى الشيخ وتريّث لفترة ولكنّه فى لحظة من لحظات السّأموفى لحظات حداد على الإرث الّذى ضاعبالرّغم من التّسليم بأمر الله وقضاءه.

جمع كلّ ما عنده من وثائق العهد الجبهجى إن كانت فى الجبل أو فى المنزل أو فى طيّات صدره العامر بالإيمان والكفاح من أجل تراب هذا الوطن وجعل يمزّقها الواحدة تلو الأخرى فى وقفة إيمانية وإعترافا بأمر الله (كما يذكر نجله الأستاذ عبدالرّحيم مرانت) ولكن أراد الله أن يطمأنه ويقوّيه فعيّن شيخه وأبيه الرّوحى (القاضى أبوبر عبدالله) قاضيا لكرن والّذى أبعد منها قسرامن سلطات الملك البائد فى منتصف السّتينيات لدوره النّشط والفعال فى مقاومة أجهزة الملك وزبانيته عاد ليكون قاضيا فى مدينته وحاضرته بعد غياب قارب العشرون عاما ولكن توالت الأ حداث وإحتقن الوضع أكثر بإستلام الجبهة الشعبية لكلّ مفاصل العمل السّرى فى المدينة وحولها.

وإنقطاع المدينة من محيط ومعين (جبهة التّحرير الإرترية) وكأنّها يتيم حديث السّن فقد الأبوين فرفض كلّ عائل وكلّ أب غيرهم لأّنّه لم يجدالحبّ السّرمدىالّذى ربطه بالأب الأوّل. ودخل الشيخ فى فترة تفكير ومراجعة النّفس وإستلهام العبرولكنّه واصل فى أداء رسالته التّعليمية فى المعهد العتيق ومؤذّنا فى المسجد الكبير.

نواصل بإذن الله... في الـحـلـقـة الـقـادمـة

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click