مقاربة بين التجري والعربية من خلال قصيدة الشاعر موسى ضرار - الجزء الثاني
بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح
القلب اللغوي في لغة التجري
الشاعر كما ترون قلب حرف (ث) إلى (س) في قوله:
(سَالِسْ) التي هي في الأصل العربي (ثالث) فتغيرت الكلمة من حيث المبنى، وبقيت كما هي من حيث المعنى والوزن، حيث جاءت على وزن (فاعل) (سالس)، كذلك في قوله: (مَكْلُوقَاتُو) التي هي (مخلوقات) قلب الخاء كافا والواو في(مَكْلُوقَاتُو) لمجرد الإشباع، حل محل ضمير الغائب في اللغة العربية (مخلوقاته)، وأيضا في (نَاقِسْ) قلب حرف (الصاد) (سينا) أما كلمة (مِيزانْ) و (مَقَاييسْ) فقد بقيتا على حالتيهما كما في العربية مبنى ومعنى.
وفي السياق نفسه يقول شاعرنا:
لَهَا كَمِنْ لَهَا إِيْ تَحَمِّقْ وإِيْ تَحَيِسْ
أَرِدْ كَلْقَا وسَماء، زِلامْ كَلْقَا وشَمِسْ
زِلامْ إِگَلْ تَعَطْلِلْ، وظَحَاىْ إِگَلْ تَأيْبِسْ
تشير هذه الأبيات إلى حقيقة قرآنية في أن مخلوقات الله لا تقل كل واحدة منها أهمية عن الأخرى في دلالتها على قدرة الخالق وتفرده بالثناء (حَمْدي) فهو خالق (الأرض) و(السماء)، وخالق (زِلامْ) و (الشمس) وجعل من طبيعة الـ(زِلامْ) السقيا (إِگَلْ تَعَطْلِلْ) ومن طبيعة الـ(شَمِسْ) (ظَحَاىْ) التجفيف (إِگَلْ تَأيْبِسْ) وكلمة (تعطلل) مأخوذة من كلمة (الطل) و تعني في اللغة العربية المطر الخفيف كما جاء في قوله تعالى في سورة البقرة آية 265 (فإن لم يصبها وابل فطل).
يقول ابن كثير رحمه الله: وابل من المطر هو الشديد العظيم القطر منه... والطل هو الندى واللين من المطر.
وفي لغة التجري يقولون: (أطللو.. وأطلليو، وأطللكو) (رأسك أطلل) وكلها تعني التليين والتبليل، ومنه استخدام الشاعر ضرار كلمة (تعطلل) وفي نطق آخر (تأطلل) بالهمزة لا العين، لكنهم يطلقون على المطر (زِلامْ) وفي اللغة العربية يقولون للرجل إذا نهض فانتصب: إِزْلأَمَّ الرجل. ويقولون: إزلأم النهار إذا ارتفع، ويقولون: يزلم زلمانا أي يسرع.
إذا أخذنا هذا المعنى فهل نستطيع أن نقول: كلمة (زِلامْ) عربية الاشتقاق بحكم أنها تهطل من السماء وهو مكان مرتفع وبسرعة متتابعة في قطراتها؟
وفي هذه الأبيات نجد صورا بلاغية هي نفسها في البلاغة العربية من نحو (الطباق) وهو أسلوب بلاغي يأتي بالكلمة وضدها من نحو قوله تعالى (أضحك وأبكى) (أمات وأحيا).
الشاعر استعمل هذا الأسلوب البلاغي على سليقته اللغوية في التجري، فنراه يأتي بالكلمة وضدها من نحو قوله: (أَرِدْ.. وسَماء) فهنا نجد كلمة (أرض) التي قلب (الضاض) فيها إلى (دال) ومقابلها كلمة (سماء) التي جاءت مهموزة، وتنطق أيضا مخففة من غير همزة (سما) وقوله أيضا: (زِلامْ كَلْقَا وشَمِسْ) فزلام هي مقابل الشمس، لأن الزلام (تأطلل) والشمس (تأيبس) والكلمتان متضاضتان.
وفي التعبير عن الشمس استخدم لفظتين مختلفتين من حيث المبنى متفقتين من حيث المعنى، إحداهما لفظة (الشمس) والثانية لفظة (ظَحَاىْ) وفي نطق هذه المفردة لهجتان في لغة التجري إحداهما تنطقها (طحاي) والأخرى تنطقها كما كتبها شاعرنا، وأظن أن الشاعر أراد أن يلفت نظرنا إلى إمكان استخدام الكلمتين في آن واحد (طحاي) و (شمس) وكأنه يقول لنا: ليس في هذا ما يعيب، فلغة التجري تتسع للكلمتين معا.
ويمضي بنا في الأسلوب البلاغي نفسه كما نراه في نظم الأبيات التالية:
مَوتْ كَلْقَا وحَيُوتْ، جَامِدْ وحِياىْ نَكِسْ
حِياىْ بَلِّلعْ وسَتِّى، لأَسْتَنْشِقْ ولَتَّنْفِسْ
نَبَاتْ كَلْقَا بَطِرْ، وحِيوانْ لِگِعِزْ وگَيسْ
حِيوانْ وَلِدْ ولَعَابي، ونَبَاتْ تَفَرِّى وتَفَسِّسْ
كَلَلْ كَلْقَا ووَجِيبْ، تَبْعَتْ كَلْقَا وأَنِسْ
سَنِّيتْ كَلْقَا وإِكِّيتْ، بُرُودْ كَلْقَا وحُفُونْ تَاكِسْ
جَنَّتْ كَلْقَا إِگَلْ أدامْ، وإِسَاتْ كَلْقَا إِگَلْ إبَالِيسْ
أدامْ إِگَلْ عِبَادَتْ كَلَقَا، وشِيطَانْ إِگَلْ وَسَاويسْ
لالِي كَلْقَا إِگَلْ سِكابْ، وأَمْعِلْ كَلْقَا إِگَلْ مَگَايِسْ
عَاسا كَلْقَا دِيبْ قَبَتْ مَاىْ، نَبِّرْ ولَحَمْبِسْ
سَرائِرْ كَلْقَا تِتْنافِرْ ولَمِمْ كَلْقَا أَروِى وكَيِِسْ
عَقِلْ هَبينَا وشِيمَتْ إِگِلْ سَنِي نِحِكَمْ ونسَايسْ
هو الأسلوب البلاغي نفسه (مَوتْ.. حَيُوتْ).. (جَامِدْ.. حِياىْ نَكِسْ).. (بَطِرْ..گَيسْ).. (كَلَلْ.. وَجِيبْ).. (تَبْعَتْ.. أَنِسْ).. (سَنِّيتْ.. إِكِّيتْ).. (بُرُودْ.. حُفُونْ).. (جَنَّتْ.. إِسَاتْ).. (أدامْ.. إبَالِيسْ).. (لالِي.. أَمْعِلْ)... الخ. وأنا لا أعرف معنى (كَلَلْ.. وَجِيبْ).. فيا حبذا لو أفادني القراء، أو تفضل الشاعر بشرحها، وكما ذكرت لكم سابقا أن كلمة(سنيت) التي جاء بها الشاعر هنا هي التي لفظ بها النبي صلى الله عليه وسلم في مداعبته للجارية القرشية التي ولدت في ديار الحبشة، وتزيت بزي حبشي، ولكن هل كان الشاعر موفقا حين استخدم لفظة (نَبَاتْ) لماذا لم يستخدم مثلا (بقل) أو باقل؟ وجاء بكلمة (بَلِّلعْ) التي هي من بلع إلا أنه فكك تضعيفها في الرسم الإملائي فكتبها بلامين بدل لام واحدة مشددة، وكأنه يرى أن لا تضعيف في لغة التجري، وأيضا جاء بكلمة (عَقِلْ) وكلمة (هَبينَا) أي وهبنا، (نا) كما في العربية هي ضمير المتكلمين أو المعظم نفسه، والعقل هو العقل.
أما (شِيمَتْ) فهي من (الشامة) وهي العلامة السوداء البارزة على الخد، وتطلق في لغة التجري على الزعامة، ومنها شوم القبيلة أي زعيمها، لأنه هو الأبرز المتصدر صفها، وقد قال النجاشي للصحابة بعد مرافعة جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه أمامه: أنتم شوم في بلدي، أو سيوم.
وعند قبائل البني عامر يطلق على الزعيم القبلي (دجلل) والجيم ينطق كنطق المصريين له والحضارمة عرب الجنوب وأصلها (ذي جلل) أي صاحب العظمة، والذال عند بادية البني عامر ينطق دالا وكذلك الزاي فيقولون: (ديت) بدل زيت، و(دنب) بدل (ذنب) ومن ذلك قول الفنان المعتقل إدريس محمد علي: (حاداب إي نحدي وقبايل) فـ(حاداب) من (أحزاب) و(نحدي) من (نحزي) بمعنى نريد.
والكلمة نفسها يطلقها البنوعامر على الشيخ الهرم، فيقولون له: (دجلل) لكبر سنه، وكبر السن يكسب العظمة ويقتضي الاحترام فهو (ذي جلل).
ويطلقون في التجري على الغرام والعشق (شام) فيقولون: (شاما قتليني) أي قتلني غرامها، و(شاما إي بي) أي ليس بي غرامها.
وكلمة (إِگِلْ) هي من كلمة (أجل) لكن في التجري ينطقون الجيم كنطق المصريين له وكنطق عرب جنوب الجزيرة العربية من الحضارمة وغيرهم، واختار له شاعرنا هذا الرسم الإملائي (إِگِ).
وأيضا (نِحِكَمْ).. (ونسَايسْ) فهما مفردتان مستخدمتان، وفي التجري يطلقون على الطبيب (حكيم) وعلى السلطة السياسية (حكومت) وقليلا ما يستخدمون (فيرداي) ويقولون (قاضي) للحاكم الشرعي، ويستعملون كلمة (سَايسْ) في التعامل مع الشيء بحكمة على نحو يقلل المفسدة، فيقولون: (سايسو) أي تعامل معه بحسن تدبير وهي على وزن فاعل.