مات سكاب فبكى الشعر وانتحب الكتاب
بقلم الأستاذ: محمود أحمد لوبينت - شاعر وفنان وكاتب ارترى
مات سكاب
وضم تراب الغربة الممقوتة
أبا الخنساء
ذا الوجه الوضاء
والثغر المتهيئ للضحكة
والقلم المعطاء...
مات سكاب
وبكى الشعر
وانتحب الكتاب...
مقدمة لابد منها... أنا أناني
الحديث عن الاعزاء الذين انتقلوا الى رحمة الله تمليه العاطفة والوفاء لذكراهم، وكثيرا ما يلجأ الكاتب وهو اسير الذكريات الى الحديث عن نفسه بدلا من التركيز على المرحوم، مما يجعل القارئ يعتقد وهو على حق ان المتحدث أناني ومصاب بعقدة النرجسية وانه اتخذ الحديث عن المرحوم مطية للحديث عن نفسه.
قفز هذا الاعتقاد الى ذهني عندما فكرت في الكتابة عن المرحوم عبد الرحمن سكاب. وكاد هذا الاعتقاد ان يثنيني كلية عن الكتابة. فالحديث عن "سكاب" حديث ذو شجون والذاتية سدته ولحمته، والذكريات التي تمور في وجداني تفرض على بين الفينة والاخرى أن اتحدث عن نفسي وعلاقتي بالصديق.. لكن البعض قد لا ينظر الى الأمر بنفس منظاري وقد يحكم على انطلاقا من سوء فهم لا سوء نية.
لكنني في النهاية فوضت أمري الى الله وقررت أن أخوض التجربة لاكتب عن ذكرياتي وانطباعاتي.. وليس من رأى كمن سمع.
ولا بأس أبدا اذا ما اتهمني القارئ بالانانية فله الشكر والتقدير (أولا وأخيرا) على تحمل أنانيتي المفرطة.. وفيما يلي شهادتي للتاريخ بصفتي شاهد عيان لا "شاهد ما شافش حاجة" والله من وراء القصد.
سكاب شاعر ولد في غير زمانه ومكانه
قبل عامين قرأت مقالا في موقع عواتى كتبه الصديق برهان علي، ذكر فيه بعض الشعراء الارتريين الذين تعود على قراءة انتاجهم عندما كان طالبا في القاهرة في الستينات من القرن الماضي، ومنهم حسب قوله "المرحوم عبدالرحمن سكاب والشهيد أحمد محمد سعد".
يومها لم أصدق ما قرأت واتصلت باقرباء "سكاب" للتأكد من صحة ما قرأت، وعلمت ان شاعرنا بخير فصححت المعلومة للصديق برهان علي وتمنينا لشاعرنا الكبير طول العمر وان يمن عليه المولى بالصحة والعافية.
وبعد عامين انتقل الصديق عبدالرحمن سكاب الى رحمة الله، وبوفاته انطوت صفحة مجيدة من سفر الشعر العربي الرصين في ارتريا، وتوارى تحت الثرى شاعر فحل أشك في أن ارتريا ستلد مثله.. شاعر ولد في غير زمانه ومكانه.
اتصلت مجددا باقرباء سكاب موضحا لهم رغبتي في الكتابة عنه، معتمدا في الاساس على ذكرياتي معه، وطلبت منهم التعاون في اعطائي بعض المعلومات فكانوا عند حسن ظني بهم وأمدوني بالمعلومات المتعلقة بالفترة التي قضاها في كرن واليمن فكانوا نعم المصدر والمعين.
مولده وخلفيته الثقافية:
ولد عبدالرحمن اسماعيل سكاب (بكسر السين) في مدينة كرن عام 1935 وفيها تلقى تعليمه الابتدائي وقسطا من التعليم في المرحلة المتوسطة.
ورث عبدالرحمن حب القراءة من والده الذي كان متفقها في الدين وافاد كثيرا من جلسات أدباء كرن (مجموعة مثقفي كرن) ومنهم الاساتذة:
• محمد أحمد سرور،
• محمد مصطفى كردي،
• هاشم حسن مهري،
• علي زبيبي،
وآخرون.
وكان هؤلاء الى جانب اهتمامهم بالثقافة والادب يعملون على محاربة البدع وينشرون الوعى الديني . كما افاد سكاب من مكتباتهم الخاصة العامرة بعيون الكتب وامهاتها في مختلف العلوم والفنون (انظر مقال الاخ مصطفى كردي المنشور بتاريخ 8-1-2004).
وكانت هناك الدوريات المصرية واصدارات دار الهلال خاصة، تصل الى اسمرا بصفة منتظمة وتجد طريقها الى المدن الأخرى (وقلما نجت من مقص الرقيب) كما كانت جريدة "الزمان" الارترية التي راس تحريرها الاستاذ/ نمر تشمر (المصري الجنسية) تنشر في بعض الاحيان مقالات ادبية باقلام كتاب ارتريين وعرب مقيمين بالبلاد.
وثمة مصدر آخر نهل منه عبدالرحمن، واعني به الصحف الارترية التي كانت تصدر حتى عام 1952 باللغة العربية ومنها:-
• الجريدة العربية الاسبوعية،
• صوت الرابطة الاسلامية،
• الاتحاد.
وكانت هذه الصحف على اختلاف اتجاهاتها السياسية ومصادر تمويلها، تنشر مواضيع ثقافية ودينية ومقالات سياسية لكتاب ارتريين ومنهم:-
• المفتي/ ابراهيم المختار أحمد عمر،
• القاضي/ علي عمر محمود فنجا،
• الشيخ/ سليمان ديني،
• السيد/ عبدالقادر كبيرى،
• محمدعثمان حيوتي،
• ياسين محمود باطوق،
• ادم اجدوباى،
وغيرهم... وغيرهم.
ويجب ان اذكر هنا الدور الذي كانت تقوم به الاذاعات العربية الموجهة في تشكيل وجدان وفكر واتجاه مستمعيها في ارتريا.. وكانت هيئة الاذاعة البريطانية تأتي في المقدمة تليها اذاعة أم درمان فصوت العرب التي كانت تبث مقال الاستاذ محمد حسنين هيكل الاسبوعي "بصراحة" مساء الجمعة.
وفي هذه الفترة كانت كرن مركزا لنشاط فني تمثل في "فرقة كرن المسرحية" والتي كان أحد اهم اعضائها:-
• الشاعر رمضان جبرى (رمضان حجي عثمان حتى لا يغضب مني البعض).
ومن كرن انطلق الفنانون:-
• ابوبكر اشكح،
• محمد باعيسى،
• عبدالواحد علي صالح،
• جابر منصور.
وكلهم من الفنانين العازفين للعود أو الكمان... باختصار كانت كرن مركزا للثقافة والادب والسياسة والفنون... فيها ولد ونشأ وتعلم ومنها انطلق شاعرنا سكاب.
غادر عبدالرحمن كرن لأول مرة عام 1960 متجها الى سلطنة أوسا حيث عمل لمدة عامين معلما لانجال السلطان علي مرح محمد حنفري ومدرسا في معهد "ايسعيتا" الاسلامي الذي انشأه السلطان. ثم عاد الى مسقط راسه ومرتع صباه كرن ليودع اهله واصحابه واساتذته وليشد الرحال هذه المرة الى قاهرة المعز ليواصل دراسته في الازهر الشريف.
استطراد لا بد منه: صحيفة الفجــر الكاذب
لم يقض شاعرنا شطرا من حياته بالسودان ولم يتلق العلم فيه، كما زعم أحد الكتاب اليمنيين في مقال نشره في أحد اعداد جريدة الفجر التي كانت تصدر من لندن بتمويل من الحكومتين الارترية والاثيوبية عندما كانت العلاقة بينهما "سمنا على عسل" وتولى تحرير الصحيفة مع الاسف الشديد نخبة من كبار الكتاب والصحافيين السودانيين - الذين سخروا اقلامهم لخدمة النظامين وحاولوا ايهام القراء بانها مستقلة.. وبعد توقف الحكومة الأثيوبية عن تمويل الصحيفة لاسباب لا علم لنا بها، تحمل "حزب الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية" (جشع) تمويلها وتولى الاشراف عليها الدكتور أحمد حسن دحلي، لكنها توقفت فجأة (غير مأسوف عليها) غداة التوقيع على اتفاقية الدوحة بين السودان وارتريا في مايو 1999.
سكاب وأنا - فقي ودرسايو:
تعرفت على الصديق عبد الرحمن سكاب في بداية عام 1964 في مدينة البعوث الاسلامية التابعة للأزهر الشريف بالقاهرة.. كنا من القادمين الجدد، فارق العمر بيننا كبير وواضح والمستوى العلمي واللغوي لا يشجع على اقامة علاقة متوازنة بيننا، لكن حبنا للشعر العربي كان السبب في ان تربطنا علاقة وطيدة لتصبح رابطة تلميذ باستاذه وطالب علم بشيخه أو ان شئت (فقي ودرسايو كما نقول بالتيجرى) وهنا اود ان أذكر ان الحظ كان حليفي عندما تعرفت بعبد الرحمن سكاب في المكان المناسب والزمان المناسب.
كنت أهرع اليه كلما كتبت قصيدة جديدة، ليستقبلني دائما برحابة صدر وابتسامة عريضة، ثم يطلب مني ان أقرأ عليه ما كتبت وبصوت عال.. وبعدها تبدأ دروس التصحيح والتنقيح والتعديل والتبديل مسبوقة بالطبع بالثناء والتقريظ.
منه تعلمت الالقاء، باعتباره من أهم العناصر والفنون التي تحبب الشعر لدى متلقيه وتثبت أقدام الشاعر الجيد وترفع قامته عاليا.. (الشعر القاء... فحسن القاءك) ومنه تلقيت دروسا في العروض. وبناء على نصيحته حفظت بعضا من المعلقات وقصائد أخرى من عيون الشعر العربي القديم وداومت على قراءة المجلات الادبية وخصوصا النقد الادبي.
ورغم ان شاعرنا كان يكتب الشعر العمودي المغرق في التقليد، ويستخدم مفردات وتعابير معجمية يصعب فهمها حتى على المتخصصين في الادب العربي، الا انه لم يشعرني في يوم من الايام بانه معارض لشعر التفعيلة او الشعر الحديث او المنثور كما تعود البعض على تسميته, بل كان يحتفي بما اكتب ويشجعني على كتابة المزيد وينصحني بان لا احصر نفسي في الشعر العاطفي أو الغزل، وهو ما كنت أجيده وأجد نفسي فيه (لأسباب لا زلت أجهلها حتى الآن) ولم ينجح سكاب في مسعاه لكن الصديق المرحوم أحمد محمد سعد هو الذي حولني عام 1976 الى كتابة الشعر "الملتزم" كما كان يسميه.. وتلك قصة أخرى.
ندوة سكاب:
عندما تدخل غرفته، تتملكك الحيرة وتتساءل: أين ينتهي الحيز المخصص للكتاب وأين ينام سكاب؟
عشرات المجلدات في الادب واللغة والشعر والدين بالاضافة الى المقررات الدراسية تجدها ملقية او بالاصح مكدسة فوق وتحت السرير والكرسي الوحيد، أما عن الارض فحدث ولا حرج، لا يوجد موطئ لقدم.. وكنت مع غيري من مريديه نتساءل: كيف يوفق سكاب بين دراسته واهتماماته الثقافية وحرصه على حضور الندوات المتعددة؟ وأى جهد يبذل عند قراءاته في شتى المجالات؟ وكم ساعة ينام؟ هذا اذا كان ينام فعلا... أم ان اسمه "سكاب" يغنيه عن النوم!!!
حسب علمي كان سكاب الارتري الوحيد الذي واظب على حضور ندوة الاستاذ عباس محمود العقاد التي كانت تعقد اسبوعيا في منزله بمصر الجديدة ويحضرها لفيف من كبار الكتاب والمثقفين المصريين والعرب.
وفي غرفة سكاب بمدينة البعوث الاسلامية كانت لنا ندوتنا الخاصة. وكان من روادها الاصدقاء: الحسن هبتيس / احمد محمد سعد / ادريس اندراى وغيرهم من الطلبة المقيمين في مدينة البعوث الاسلامية بصفة رسمية أو غير رسمية (من امثالي).
وكان سكاب يجود علينا بقراءة بعض قصائده شارحا ما غمض وموضحا ما استعصى علينا فهمه وما اكثره، ومستفسرا عن رأينا فيما كتب.. جبل في علوه وسموه وسهل في تواضعه. ثم يعرج على الشعر الجاهلي أو العباسي ليلقي علينا بعض القصائد التي اعجبته ثم يحدثنا عن قائلها والظروف التي قيلت فيها حديث العارفين.
سرور:
وكان من منطلق الوفاء والاخلاص يحدثنا عن "اصحاب الفضل" في تكوينه الثقافي ومنهم استاذه محمد أحمد سرور، مؤكدا انه وان كان عصاميا الى حد ما، الا انه مدين لهم بالكثير ولولاهم لما حقق شيئا يذكر.
وهنا اود أن أفتح قوسا لاتحدث عن سرور الذي لم يحالفني الحظ في معرفته عن كثب، وان كنت اشاهده كثيرا عن بعد في اسمرا والعمامة لا تفارق رأسه.
أذكر ان أول مرة قرأت فيها اسم محمد أحمد سرور كانت في مجلة المنار الشهرية التي كان يصدرها الاستاذ صالح عبد القادر بشير، وتوقفت بعد الاصدار السابع بقرار حكومي كان ذلك في عام 1954 وكنت آنذاك تلميذا في مدارس (نعم مدارس) الامبرطور هيلى سلاسي الأول بحرقيقو التي انشأها المحسن الكبير الكوماندتور صالح باشا أحمد كيكيا عام 1944.
وكان المرحوم محمو سبى (شقيق الشهيد عثمان صالح سبي) مدرس الدين واللغة العربية هو الذي فرض على تلامذة الفصول المتقدمة الاشتراك في المجلة مقابل دفع خمسين سنتا شهريا (ويعلم الله من كان يدفع اشتراك الطلبة غير المقتدرين).
وكان سرور أحد الكتاب المشاركين في مناقشة قضية أدبية (لا اتذكر الآن من الذي اثارها) وكانت حول تسمية الأدب: هل هو عربي أو اسلامي؟ ولا اتذكر في اى جانب كان يقف الاستاذ سرور أو ياسين محمود باطوق لكن علق بذاكرتي مقال كتبه الشيخ غوث الدين الافغاني المدرس بالمعهد الديني الاسلامي في مصوع وخلص فيه الى ان الادب "اسلامي بروحه عربي بمادته".
عن الاستاذ محمد احمد سرور كتب سكاب مقالا نشر في ارتريا الحديثة بتاريخ 18-7-1992 أنقل منه التالي:-
"كنت ممن تلقوا عن الاستاذ الاديب الكبير محمد احمد سرور خلال فترة مبكرة، مبادئ اللغة، واصول العربية، من نحو وصرف وبلاغة وفقه لغة، الأمر الذي اطلق لوجداني أجنحة التحليق عبر افاق من اسرار هذه اللغة، وأطلعني على رياض يانعة من مروج بيانها الآسر.. فقد كان رحمه الله صاحب ذائقة فنية، فكانت كل عبارة جرى بها قلمه، تفيض غناء وتنساب رقة وجمالا... لقد كان استاذنا سرور رحمه الله، كنزا من كنوز هذه اللغة، وواحدا من فقهاء اسرارها، في تواضع وفي غير ضجيج. كان عليه الرحمة يوجهنا شأنه مع تلاميذه الى انتقاء ما ينبغي أن نقرأ، وينبهنا الى الغاية مما نقرأ، وكان يحثنا الى مزيد من التثقيف الذاتي والقراءات الجادة".
ما كتبه سكاب عن استاذه سرور ينطبق عليه نصا وروحا.. فقد نحى نحوه واقتفى اثره وحمل الراية من بعده وتعامل مع تلامذته بنفس اسلوبه.. رحم الله الاستاذين الكبيرين.
سكاب وعبدالقادر ابراهيم:
في الستينات من القرن الماضي، كان شعراء الحداثة هم الأقوى والأعلى صوتا والآصدق تعبيرا عن الأوضاع السياسية والثورة والناصرية والتحرر الوطني والقومية العربية ..وكنا نقرأ لهم بنهم ونحاول ان نقتدي بهم ونقلد اساليبهم التعبيرية.
وكان عبدالقادر ابراهيم وعبدالرحمن سكاب يكتبان شعرا عموديا خالصا.. كان عبد القادر صاحب اسلوب سهل وسلس، ميالا الى الآلتزام باسلوب العصر، بعكس عبدالرحمن سكاب الذي ظل متمسكا بمحاكاة اسلوب زهير بن ابي سلمى و ابي العتاهية والمتنبئ والخنساء.. (وليس أدل على تأثره واعجابه بشعر الخنساء وسيرتها من اطلاقه اسمها على ابنته البكر).
جاء عبدالقادر ابراهيم الى القاهرة وهو صغير نسبيا والتحق بالأزهر الشريف ثم بشباب الأخوان المسلمين. ومنهم تعلم فن الخطابة وحسن الألقاء وفن الكتابة.. وصقل موهبته الشعرية بالدراسة في كلية دار العلوم.. وكان عضوا نشطا في حركة تحرير ارتريا وتولى رئاسة نادي طلبة ارتريا عام 1963 وبعدها نجح الملتزمون بجبهة التحرير الارترية من انتزاع ادارة النادي من"الحركيين" في انتخابات حشدت لها الجبهة كل امكانياتها المادية والبشرية..
ويعد تخرجه، عاد عبدالقادر ابراهيم الى ارتريا وعمل في التدريس بمدرسة الجالية العربية وتوفى في بداية السبعينات.. ترى ماذا حل بقصائده التي كتبها في القاهرة واسمرا؟ الله وحده أعلم.
سكاب والسياسة:
جاء سكاب الى القاهرة كما ذكرنا في عام 1963 والتحق مباشرة بثانوية الازهر الشريف لأن مستواه المتقدم في اللغة العربية كان يؤهله لذلك.. وفي تلك الفترة كانت الحركة الطلابية الارترية منقسمة على نفسهاوالخلاف بين حركة التحرير الارترية وجبهة التحرير الارترية على اشده..ولم تسلم الحركة الطلابية من انعكاسات هذه الخلافات التي اختلط فيها حابل السياسة بنابل القبلية والعشائرية واصبح الانتماء التنظيمي أهم لدى البعض من أوصر القرابة وعرى الصداقة.
لم يبد سكاب الملتزم بالحركة منذ ان كان في كرن أى تعصب أو تشنج، ونأى بنفسه عن الأحقاد والضغائن التي شابت الحركة الطلابية وأدت في مرحلة ما الى مصادمات كادت ان تتحول الى ما هو اسوأ لولا لطف الله، وتدخل السلطات المصرية (على أعلى مستوى) لايقافها عند حدها.
لا أعلم متى التزم عبدالرحمن بالجبهة ولا اتذكر انه تحدث معي عن التنظيمين أو تناول الأوضاع التي كانت تمر بها الثورة الارترية ورياح الأنقسامات تهب عليها من كل الاتجاهات وحتى عندما زرته في منزله بصنعاء عام 1990 لم يتطرق في حديثه معي الى السياسة بل انصب حديثه على الشعر والكتب والندوات وعن علاقة لغة التجرى باللغات اليمنية القديمة كالسبأية وعن ضرورة القيام بالدراسات المقارنة.
كان الإستثناء الوحيد عندما تطرقنا الى الاقلام الارترية الشابة، وعندها تفتحت اسارير وجهه وحدثني عن الأخت/ آمال ابراهيم محمد التي كانت تعمل في صحيفة ( 26 سبتمبر اليمنية) الى جانب عملها كمدرسة (ووصفها لي بانها ثورية) واطلعني على مخطوطة لرسالة ماجستير تقدمت بها الأخت الى احدى الجامعات العربية عن تاريخ ارتريا. (ترى أين هى الآن وهل هناك مجال لنشر الرسالة ولو في الانترنيت؟؟)
ويهمني ان اذكر هنا ان حديثنا كان بالعربية، لكنني والحق يقال لم استشف من حديثه معي انه ينظر الى لغة التيجرى وتراثها نظرة احتقار وتأفف كما يفعل بعض المتنطعين من ابنائها ويصرون عن جهل بعلم اللغات على انها (لهجة لا ترقى الى مستوى لغة) وقد أكد لي اقرباؤه ان شاعرنا كان يحرص على التحدث مع اطفاله في البيت بالتيجرى، على عكس الكثيرين من الآباء والامهات في المهجر الذين حرموا اطفالهم من مزية التحدث بلغة اضافية اعتقادا منهم ان ذلك سيقوي مستواهم في اللغة العربية او سواها من اللغات.
مجلة الثورة:
أطل سكاب بقامته السامقة على قرائه الارتريين خارج مصر عبر مجلة الثورة التي كانت تصدرها جبهة التحرير الأرترية وفيها نشر سكاب باكورة قصائده الوطنية، ومطلعها:
نغما عزفناه بأوتار القلوب
فترنمت بصداه آمال الشعوب
وبعدها كرت السبحة واستمر في النشر على الرغم من ان الكثيرين كانوا يجدون صعوبة بالغة في فهم قصائده، لكنه لم يحاول قط النزول الى مستوى قرائه والكتابة باسلوب سهل ومبسط.
وقد ذكر لي أحد مريديه من الشباب الذين كانوا يترددون على منزله في صنعاء انه عندما طلب منه ان "ينزل الى مستوى القراء" ويكتب باسلوب يتفق وامكانياتهم اللغوية، قال له سكاب: "أنا أكتب للأجيال القادمة من الارتريين التي سيرتفع مستواها في اللغة العربية في المستقبل وستفهم شعري دون ادنى صعوبة..."
سكاب في اليمن:
التحق سكاب بعد تخرجه من الازهر الشريف بالبعثة التعليمية الكويتية، وعمل مدرسا في حضرموت وعدن و اب واخيرا استقر به المطاف في مدرسة صنعاء الاهلية. وفي صنعاء وجد شاعرنا ضالته المنشودة أو بالأحرى نفسه فأصبح من رواد مجالس شعرائها وادبائها الكبار ومنهم الشاعر الكبير عبدالله البردوني والأديب حسن اللوزي وزير الثقافة وزميل سكاب في الدراسة بالازهر و والكتور عبدالعزيز المقالح الرئيس السابق لجامعة صنعاء ورئيس مركز الدراسات والبحوث والمستشار الثقافي للرئيس علي عبدالله صالح.
وعلى الرغم من علاقته الحميمة بكل من حسن اللوزي والدكتور المقالح الا انه لم يسع اطلاقا الى استغلالها للأستفادة منها شخصيا حتى في أحلك الظروف التي مر بها.
وقد نشر سكاب الكثير من شعره في الصحف والمجلات اليمنية ولقى ترحيبا كبيرا من كتابها وقرائها ومن اتحاد الكتاب والادباء.
وكانت علاقته بالتنظيمات الارترية العاملة باليمن متوازنة وحظى باحترام وتقدير كل المسئولين في مكاتبها هناك،لكنه لم يكن ملتزما باى تنظيم معين ولم يحضر أى اجتماع جماهيري. وبعد التحرير كان له شرف رفع العلم الارتري في مقر السفارة الارترية ضمن مجموعة من "الاعيان"
La ragazza fouri strada عودته الى الوطن وبطلة الفيلم الإباحي فتاة تجاوزت الحدود.
كانت نفسه تهفو دائما الى وطنه والحنين يشده الى مسقط رأسه. وبعد التحرير ازداد هذا الشعور قوة وتملكته الرغبة في العودة للأستقرار والعمل في ارتريا لاسيما بعد أن عرضت عليه الحكومة الارترية المؤقتة عبر سفارتها في صنعاء ادارة مدرسة الجالية العربية باسمرا (وذلك اثر تعيين مديرها الشيخ الأمين عثمان الأمين في منصب آخر).
عاد سكاب عام 1992 الى ارتريا لكنه لم يجد ما يستحق من تقدير يتناسب مع مكانته كأكبر شاعر خرج من رحم ارتريا وأثبت وجوده خارجها.. وقد حز في نفسه واثار استياءه وضع اسمه بعد شاعر مغمور من الناطقين بالتجرينية، وذلك في ندوة دعى شاعرنا للمشاركة فيها وانحصر الاهتمام به على المستوى الرسمي في نشر بعض قصائده في صحيفة ارتريا الحديثة (بمبادرة من الشاعر محمد عثمان كجراى،الذي كان يكتب فيها بصفة مستمرة، وينشر فيها بعض قصائده).
اما على المستوى الشخصي فقد احتفى به الكتاب والادباء الارتريين على استيحياء و كل بطريقته وكان الصديق مصطفى محمد كردي آنذاك في اسمرا وقد تفضل مشكورا بالكتابة الى عن انطباعاته: "بعد التحرير وتحديدا في ابريل 92 وصل شاعرنا الى أرض الوطن،الى ترنيمته الكبرى التي ظل يردد لحنها في مهرجان البذل، أو كما قال:
ترنيمة كبرى أنت
نردد لحنها في مهرجان البذل غير شحاح.
والوطن عنده سكاب حمال أوجه على حد تعبير سيدنا علي بن أبي طالب رضى الله عنه، ومعان فلسفية عميقة، فهو الى جانب كونه الترنيمة الكبرى كان أحيانا يأخذ معنى طلاسميا يستقيم معه وصفه الوطن بالعنقاء... ايتها العنقاء يا انشودة العشاق.
وحاول الشاعر أن يرمي بعصا ترحاله في أرض الوطن والعيش فيه على علاته بعد أن تساوت لديه كل تضاريس المهاجر وجاء وهو يمني نفسه بلحظة التلاقي المكثفة مع الوطن الإنشودة لأن الاستقلال كان من المفترض أن يكون فاصلا بين أزمنة قاسية عاشتها الأجيال الإرترية،ولكنه وجد في ارتريا ج ش ع أن لا فارق حقيقي بين زمن الاستعمار وزمن الطغمة الباغية.
وتصارعت الصورتان في عقله ووجدانه: الصورة المطبوعة في الذاكرة وصورة الواقع المغاير لتلك الترنيمة التي ظل يرددها، وأن البلاد لم تعد تلك التي عانق هواها (أحمد سعد)ً في غربته الطويلة، ولا هى ذلك البند الثابت في ادبيات القوى الوطنية منذ الرابطة، لأن الأرض وجدت ولكن بكيفية لا تمت بصلة لأحلام الشعب.. والفترة التي قضاها بأرض الوطن، لم يجد خلالها من الجهات الرسمية الترحيب الذي يليق بمن هم في مكانته،وإقتصر الإحتفاء به على اصدقائه وعارفي فضله،في وقت كانت فيه أجهزة اعلام الحكومة مشرعة للإحتفاء ب (زودي أرأيـا) بطلة الافلام الايطالية الخليعة مثل فيلم (فتاة تجاوزت الحدود - و مرة أخرى) La ragazza fouri strada / Ancora هذا ما كتبه الصديق مصطفى كردي عن انطباعاته، وارجو أن نقرأ له مزيدا من ذلك في المستقبل القريب.
وماذا عن شعره:
قد يسأل القارئ وماذا عن شعر سكاب؟
ان الكتابة عن شعره اعتمادا على بضع قصائد ومقاطع غير مجدية، لكن الامل يحدوني في ان يجمع شعره وينشر وباية وسيلة في القريب العاجل. وبعد ذلك ستصبح الكتابة عن شعره ميسرة وغير مبتسرة. (هذا وقد وجدت بين أوراقي قصيدتين لسكاب سبق نشرهما في "ارتريا الحديثة" أرجو أن يتسع صدر الموقع لنشرهما…)
وادعو الله ان يقيض لنا من بين كتابنا الادباء وابنائنا وبناتنا الطلبة الأكفأ والأقدر على القيام بمهمة دراسة سكاب وشعره دراسة اكاديمية، فشاعرنا الكبير يستحق بل يجب أن يكون موضوع بحث ودراسة لأكثر من رسالة ماجستير او دكتوراه. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ويشرفني ان اضع على راس قائمة المتنافسين الأخ عبدالجليل الشيخ الذي لم اقرأ له الا مقاله المعاد نشره في موقع عونا عقب وفاة سكاب واعجبني كثيرا.. فقد كان موفقا فيما كتب وأظهر مقدرة فائقة في قراءة ما توفر لديه من شعر سكاب العصي قراءة نقدية متميزة. وكلي امل في أن يواصل دراسته ونقده لشعر الراحل العزيز متى ما توفرت لديه باقة كبيرة من قصائد سكاب.
خاتمة: خير سلف لخير سلف
كان همي الأكبر عندما اتصلت بأقرباء سكاب ان اطمئن على اشعاره، وسرني في غمرة الحزن والأسى أن اعلم ان كل أشعاره ما نشر منها وما لم ينشر في الحفظ والصون، كما علمت كذلك انه كتب قصيدة طويلة وتوفى قبل ان يرقم صفحاتها.
كما اسعدني ان اعلم ان ابنه (شيبة الحمد) قد ورث عنه حبه للقراءة والكتابة وقرض الشعر. اعانه الله على تجاوز المحنة ووفقه في مسعاه وثبت اقدامه على طريق والده ونهجه وجعله خير خلف لخير سلف.
وأود أن أختم بالاشادة بموقف الكتاب والادباء اليمنيين فقد كتبوا باسهاب عن سكاب ونوهوا بمساهماته في اثراء الساحة الثقافية اليمنية، ومنح اتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين عضويته لاسم "الشاعر العربي الكبير عبدالرحمن اسماعيل سكاب" وتقدم بالتماس الى الرئيس اليمني ووزير الداخلية لمنح اسرة سكاب الجنسية اليمنية.
ترى كيف تعاملت وزارة الثقافة والأعلام (كدت أن اكتب وزارة السخافة والاعدام) الارترية مع رحيل الشاعر الارتري الكبير (ولا أقول الشاعر العربي الكبير)؟ وهل من القراء من رصد ذلك؟
أفيدونا جزاكم الله خيرا... ولكم الامان... وعليكم السلام...