عبدالرحمن سكاب الإريتري المهاجر

بقلم الأستاذ: عبدالجليل عمر الشيخ  المصدر: مجلة الرافد

هو عبدالرحمن بن إسماعيل بن عثمان سكاب، وُلد في مدينة كَرَنْ الشهباء بدولة إريتريا عام 1939م،

عبدالرحمن إسماعيل عثمان سكاب

وبها نشأ وترعرع في بيئة عائلية دينية اجتماعية طيبة، وتلقى بها تعليمه في الكتاتيب "خلوة الشيخ دويد"، ودرس فيها المرحلتين الابتدائية والثانوية.

شخصية الشاعر:

عبدالرحمن شخصية لطيفة.. فقد كان ودوداً خلوقاً عفيف النفس، مستقيماً مهذباً متمسكاً بالقيم الأخلاقية العالية، حريصاً على رضا والديه، يقول: "والله لولا أني سعيت في رضا والدتي ودعت لي بالتوفيق لما وصلت إلى ما وصلت إليه". كان حاد الذهن، إذ تفتق ذهنه بالشعر مبكراً، ويعود ذلك إلى القراءة.. هوايته المفضلة منذ نعومة أظفاره. يعشق الأدب ويتذوقه، ويقرأ مصادره القديمة، ويبحث عن الصحف والمجلات يطالعها، ويقرأ الكتب "الثقافية التي كان يجدها بشق النفس، ومن النادر أن تجده من دون كتاب أو مجلة".

ويمكن للقارئ الكريم تقويم شخصية سكاب وأثرها على الآخرين من خلال النماذج التالية: حيث كان مرحاً وبشوشاً كما يصفه عبدالرحيم الشاعر، الذي التقاه في عام 1988م، وهو طالب في الثانوية: "حينها كنت في الصف العاشر، وكنت تزور السودان قابلتك وبترتيب من صاحبي.. وجدتك مرحاً بشوشاً غير متكلف.. وجدت الجلال والوقار، بسيطاً ككل البسطاء. رحبت بي وأجبت على كل أسئلتي البريئة بكل جدية، وعندما سألتك عن آخر ما كتبت مددت إلي بجريدة عربية فيها قصيدة عن الشاعر والعاشق الولهان ود أمير.. ثم طلبت مني أن أقرأ عليك بعض أشعاري فاستحسنت البعض، وقلت رأيك في البعض بكل صراحة وطلبت مني المواصلة والكتابة. ملأتني زهوا وخفت الغرور أن يطغى بي أعطيتني المشكاة وأنرت طريقي.. فانطلقت، فشكراً لك أيها الرائع، فقد كنت بحق المعلم والمربي الجليل".

إذا كان عبد الرحيم الشاعر تلميذاً بمبدأ الاحترام والتقدير لما لمسه من تواضع المُعلم، فكيف بتلميذ تربى بين يديه؟ إنه الكاتب أحمد محمد إسماعيل، الذي عاش في اليمن فترة طفولته ليكون محظوظاً بمعلمه سكاب. ولكن العلاقة بينهما أصبحت ذات قدسية حسب ما ورد في مقاله: "سكاب.. خاصية النص الإريتري"، "ولعل الأمر الذي شجعني للكتابة هو قدسية تلك الفترة التي قضيتها تلميذاً وابناً للأستاذ عبدالرحمن إسماعيل سكاب باليمن السعيد، وحظيت فيها بالتقرب من تجربته المميزة وشخصيته الودودة".

إن شخصية سكاب مؤثرة على الكبير والصغير؛ لأنها شخصية جاذبة ومحبة للجميع، ولذلك نجد الشاعر محمود لوبينت فخوراً بريادة سكاب، وبثمن علاقته معه برابطة تلميذ بأستاذه وطالب علم بشيخه: "تعرفت على الصديق عبدالرحمن في بداية عام 1964م في مدينة البعوث الإسلامية التابعة للأزهر الشريف بالقاهرة. كنا من القادمين الجدد، فارق العمر بينا كبير، والمستوى العلمي واللغوي لا يشجع على إقامة علاقة متوازنة بيننا، لكن حبنا للشعر العربي كان السبب في أن تربطنا علاقة وطيدة لتصبح رابطة تلميذ بأستاذه وطالب علم بشيخه". ويقول: "كنت أهرع إليه كلما كتبت قصيدة جديدة، ليستقبلني دائماً برحابة صدر وابتسامة عريضة، ثم يطلب مني أن أقرأ عليه ما كتبت وبصوت عال.. وبعدها تبدأ دروس التصحيح والتنقيح والتعديل والتبديل مسبوقة -طبعاً - بالثناء والتقريظ".

مدينة "كَرَنْ" الحاضنة الأولى:

كانت "كَرَنْ" مركزاً حضارياً، وصورةً نموذجية لمدائن إريتريا، حيث النسيج الاجتماعي متعدد الأعراق والثقافات، والعلاقات قائمة على مبدأ التسامح الإنساني، مما ساهم في التنوع الثقافي والأدبي، "ونبغ من أبنائها كتاب في الصحف ومراسلون لها، منهم على سبيل المثال: السيد محمد عمر محجب الذي عمل مراسلاً لجريدة (الزمان) في الخمسينيات". وجريدة الزمان إحدى الصحف الصادرة محلياً أنذاك، ورئيس تحريرها نمر تشمر مصري الجنسية. وكانت الصحافة الإريترية في حالة تنوع سياسي وثقافي واجتماعي. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الأسبوعية العربية، الرابطة الإسلامية، أسمرة الثقافية، مجلة المنار.

ساهمت الصحافة الإريترية في إثراء الواقع الثقافي، وكانت "كرن" من المدن الفاعلة في الحراك الثقافي. وكان أبناؤها على اطلاع على الصحافة الوافدة أيضاً، حيث كان الشباب الكرني: "يتهافت على الصحافة الواردة من القاهرة، مثل: "مجلة السياسة الأسبوعية، مجلة آبولو، ومجلة الرسالة.. وعلى ما كان يظهر في القاهرة من كتب التراث العربي، ومن كتب الأدباء والشعراء المعاصرين". كما تصلها صحافة عربية أخرى، مثل: مجلة العربي، مجلة الدوحة". كما أن للثقافة وسائل أخرى، فإن الإذاعة السمعية كانت أول مساهم في الإثراء الثقافي لقدرتها على الوصول إلى أكبر شريحة من المستعمين، وأشهرها الإذاعات الموجهة، خصوصاً مع وجود أكبر مركز اتصال في مصوّع المرفأ الرئيس لدولة إريتريا.

والاستماع إحدى أهم وسائل الثقافة، وكل شخص يختار ما يحلو له من قنوات إذاعية: "منهم من كان مداوماً سماع صوت العرب من القاهرة، خطابات جمال عبدالناصر، وتعليقات أحمد سعيد. ومنهم من كان حريصاً على سماع صوت الإسلام من مكة المكرمة، الشيخ شيبة الحمد، والشيخ عطية محمد سالم رحمه الله".

وإن كان أثر الشيخ شيبة الحمد (ت: 2019م) هو الأكثر حضوراً في ذاكرة سكاب، الذي اتخذه أسماً لابنه الوحيد "شيبة الحمد"، وكنيته التي صاحبته حتى رحيله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كنيته الأخرى مرتبطة بابنته البكر: "تماضر، اسم الخنساء".

هذه بيئة "كرن" الثقافية التي عاش فيها سكاب وتفاعل معها، وشكّلت بنيته الأولى، حيث كانت الرموز الحضارية والثقافية، من أمثال: "الأديب الأريب الأستاذ محمد أحمد سرور الذي نظم قصيدة في رثاء الشهيد عبدالقادر صالح كبيري، نشرت وقتها في الصحف العربية الصادرة في إريتريا بتاريخ 15 إبريل 1949م". والأستاذ محمد سرور "وهو أشهر من أن يكتب كاتب عن قدرته الأدبية، وثقافته العربية العريضة، ومكانته العلمية المرموقة، علم من أعلام الأدب العربي في إريتريا، له سجل حافل في إحياء الثقافة الإسلامية، والقيام بنهضة أدبية، رثاه يوم وفاته الأديب عبدالرحمن سكاب رحمهما الله معاً بأجمل قصيدة".

ظل سكاب وفياً لأستاذه الأديب الأريب محمد أحمد سرور، وأكد ذلك في مقال له منشور في جريدة إريتريا بتاريخ 18 يوليو 1993م. وقد أشار إليه لوبينت في مقاله مقتبساً ما كتبه سكاب عن الأديب سرور: "كنت ممن تلقوا عن الأستاذ الأديب الكبير محمد أحمد سرور خلال فترة مبكرة مبادئ اللغة وأصول العربية، من نحو وصرف وبلاغة وفقه لغة، الأمر الذي أطلق لوجداني أجنحة التحليق عبر آفاق من أسرار هذه اللغة، وأطلعني على رياض يانعة من مروج بيانها الآسر، فقد كان رحمه الله صاحب ذائقة فنية، فكانت كل عبارة جرى بها قلمه، تفيض غناءً وتنساب رقةً وجمالاً. لقد كان أستاذنا سرور رحمه الله كنزاً من كنوز هذه اللغة، وواحداً من فقهاء أسرارها في تواضع.. كان عليه الرحمة يوجهنا شأنه مع تلاميذه إلى انتقاء ما ينبغي أن نقرأ، وينبهنا إلى الغاية مما نقرأ ، وكان يحثنا إلى مزيد من التثقيف الذاتي والقراءة الجادة". ومن خلال هذا النص المقتبس، يقف القارئ وقفة إجلال وتقدير للزمن الجميل حين كانت العلاقات قائمة على الاحترام والتقدير، وإنصاف أصحاب الفضل.

أصدقاؤه في "كَرَنْ":

من المعروف أن لكل إنسان بيئة عامة مجتمعية، وأن الصداقة بيئة ذات خصوصية حسب أخلاقيات الشخصيات والقاسم المشترك بينها، ومن ثمّ السؤال عن أصدقائه وعلاقاته التي ستوضح للقارئ الأثر الثقافي على شخصيته.

من أصدقائه في "كرن": أحمد محجب، محمد كردي، هاشم مهري. فعن الأول، كتب أخوه إبراهيم: "لقد عرفته رحمه الله في الخمسينيات في مدينة كرن حيث كان صديقاً حميماً لأخي الكبير أحمد عثمان محجب، وكذلك إخوتي الكبار الذين أكن لهم الاحترام والتقدير، وهم من جيل الأخ المرحوم سكاب، أذكر منهم الأخ مطهر شيخ خالد العمودي، الأخ محمد كردي، الأخ هاشم حسن مهري، الأخ علي الزبيدي، الأخ جامع عبدالرحمن، الأستاذ علي سرور وغيرهم...".

وكتب مصطفى كردي عن علاقة والده بسكاب: "كان الأستاذ سكاب من أعز وأقرب وألصق أصدقاء والدي في مدينة كرن التي كان والدي يقيم فيها سمراً أدبياً يحضره ثلة من المثقفين من أبناء مدينة كرن، وكنت رغم صغر سني إذ ذاك أحضر بعض مجالسهم وأستمع إليهم وهم يتحاورون في الحلال والحرام والمندوب والمكروه وغيرها من ضروب الفقه". وأما "هاشم مهري"، الذي كانت له محاولات شعرية حسب ماورد في كتاب كرن، الأصالة والتراث: "أخذ ما قدر له أن يأخذ من بطون التراث الثقافي العربي، فأصبح قارئاً متذوقاً للأدب العربي، وموصولاً برواده، وهو من جيل الأديب الإريتري المرحوم عبدالرحمن سكاب ومن أقرب أصدقائه في كرن جمعتهما الثقافة العربية ووحدة الرؤية الفكرية؛ إذ كانا يجلسان معاً الساعات الطوال ينهلان من كتب الأدب العربي ما استطاعا إلى ذلك سبيلا".

الرحيل والترحال ومحطات الاغتراب:

كتب على الإنسان أن يعبش رحلة الاغتراب منذ خروجه من رحم الأم إلى رحم الأرض، وقد بدأت الرحلة حين: "غادر عبدالرحمن كرن لأول مرة عام 1960م متجهاً إلى سلطنة أوسـا (أثيوبيا)، حيث عمل لمدة عامين معلماً لأنجال السلطان علي مرح محمد حنفري، ومدرساً في معهد "أيـسـعيتا" الإسلامي. الذي أنشاه السلطان". عاد إلى مسقط رأسه ومرتع صباه كرن، ليودع أهله وأصحابه وأساتذته، وليشد الرحال هذه المرة إلى قاهرة المعـز".

القاهرة "القلعة العلمية":

كانت القاهرة مركزاً للكثير من التحولات خلال الستينيات، وعاشت الأجيال تجارِب سياسية واجتماعية وثقافية.. وهي تداعيات القومية العربية التي تبنتها ثورة 23 يوليو 1952م. ثم جاءت هزيمة يونيو 1967م، لتزلزل الوجدان العربي كله، وما تلاها من انعكاسات على الكثير من مناشط الحياة بما في ذلك الشعر العربي، حيث التيارات والتجارب من قصيدة التفعيلة والنثر، وموقف أصحاب القصيدة الخليلية، وما إن تم النصر في العاشر من رمضان - أكتوبر 1973م حتى تحولت هذه الأصوات إلى الغناء بالنصر، وأخرى طواها النسيان أو تحولت إلى قوة مضادة.

عاش عبدالرحمن سكاب في القاهرة خلال تلك الفترة وأمواجها المتلاطمة، حيث وصل إليها مروراً بالسودان -عبور فقط -، والتحق بالأزهر الشريف لإكمال المرحلة الثانوية والجامعية في ظل تلك الأحداث، لكن سكاب ظل متزناً ومهتماً بالدراسة وعلاقات حسنة مع الجميع حتى حصل على الإجازة العالية من كلية اللغة العربية عام 1974م.

وأفاد من كل ذلك ثراءً في الفكر وسعةً في الخيال، ونمواً في الموهبة الأدبية، وبلاغةً في الأسلوب... يذهب إلى الجامعة، ويشارك في أنشطتها ضمن أسرة مجلة الغرباء الشهرية التي تصدر من داخل الحرم الجامعي. ويذهب للنادي الطلابي الإريتري في شارع شريف، يلتقي أصدقاءه ويشاركهم في الأنشطة الثقافية، ويذهب مساء كل يوم خميس إلى منطقة عابدين، حيث يلتقي في أحد مقاهيها نخبة من أبناء "كرن". وتجده صبيحة يوم الجمعة في صالون العقاد. ويجلس في غرفته رقم (4) الدور الثاني، عمارة رقم (26)، مع الكتاب، يقرأ وينظم الشعر، ويستقبل كل من يزوره برحابة صدر مع ضيق المكان بالكتب.

وبهذا استطاع أن يحافظ على علاقاته مع أصدقائه خلال الفترة التي أمضاها في القاهرة؛ لذلك كُثر أصدقاؤه من الإريتريين والعرب، فمن الإريتريين الشاعر والمسرحي أحمد سعد، على سبيل المثال لا الحصر.

ومن العرب صديقه وزميله -زمالة الدراسة في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر-، الشاعر الفلسطيني عبدالرؤوف يوسف (1942م–2014م)، والذي كان صديقاً للشاعر اليمني حسن أحمد اللوزي (1952م2020م). ومن ثمّ أصبح سكاب صديقاً للوزي.

ومثلما بدأت صداقة الثلاثي في القاهرة، فقد اكتملت في اليمن مع اللوزي، وكان من ثمار صداقة اليوسف واللوزي، إصدار الديوان الشعري الأول "أوراق اعتماد لدى المقصلة" - دار العودة 1972م. وكان إصدار هذا الديوان ضمن حراك الحداثة في أوائل السبعينيات، بقيادة الشاعر المصري حسن طلب، مؤسس جماعة "إضاءة" للشعر 1977م، الذي أصدر ديوانه الشعري الأول منفرداً، والشاعر المصري محمد سليمان، الذي أصدر مجموعته «أعلن الفرح مولده» عام 1980م، واليمني اللوزي، وهم من طلاب جامعة القاهرة. ورابعهم الشاعر عبدالرؤوف يوسف - جامعة الأزهر. حيث اتفق الأربعة على إصدار مجموعاتهم الشعرية الأولى. ولم يكن سكاب بعيداً عنهم مع صداقته لعضوين من المجموعة، لكن ظل سكاب وفياً للقصيدة الخليلية بأوزانها وبحورها وتاريخها وجمالياتها دون أن تجده ضد أو مع؛ لأن سكاب يحترم الاختلاف ولا يسمح للأمر أن يصل إلى الخلاف.

الكويت "دار ضيافة":

انتقل إلى الكويت، حيث أمضى فترة وجيزة في ضيافة أخوين كريمين هما: الأستاذ صالح محمد إسماعيل نقيب المعلمين الإريتريين (ت: 2013)، ومربي الأجيال سليم بن سليم الكردي (ت: 2019م). وخلال تلك الفترة تم ترتيب وضعه الوظيفي للعمل في هيئة البعثات التابعة للهيئة العامة للجنوب العربي والخليج، وتم اعتماده معلماً في الجمهورية اليمنية الشعبية الديمقراطية.

عـدن "والإقرار بعروبة إريتريا":

عاش في اليمن ثلاثة عقود إلا سنتين (1975-2003م)، عمل خلالها معلماً في عدد من مدارس عدن وحضرموت، وشاهد مختلف التيارات السياسية والفكرية والأدبية التي ظهرت في هذه الحقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى آخر يوم في حياته، حيث كانت عدن حديقة للتيارات ومنظمات التحرر الوطني، الفسلطينية، الإريترية.

كان عبدالرحمن سكاب من أوائل الأسماء الشعرية التي شدّت انتباه الشعراء العرب، في وقت كانت فيه القصيدة في إريتريا تعاني من عزلة عربية ظناً أن اللغة العربية حصرية للدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، ولم ينظر إليها باعتبارها لغة عالمية غير محصورة جغرافياً بمكان وزمان محدد. وما يؤكد ذلك، ما حدث معه خلال مشاركته في مؤتمر المعلمين العرب المنعقد في عدن 1979م بصفته عضواً في اتحاد المعلمين الإريتريين، حيث انتزع اعتراف العضو الفلسطيني بعروبة إريتريا: "أصدقكم القول إنني حتى اليوم كنت أعتبر عروبة إريتريا مسألة سياسية. أما اليوم، فقد اقتنعت بعروبتها". وذلك للاعتقاد بأن الحضور الإريتري مجرد قضية سياسية، لكن بعد سماع صوت سكاب وقصائده، كان الإقرار بأن إريتريا عربية .. أرضاً وشعباً وثقافةً.

لا بد من صنعاء ولو طال السفر:

انتقل إلى صنعاء بعد الوحدة بين شطري اليمن، وعمل معلماً في مدارس صنعاء الأهلية كمتعاقد، واستعان به الأستاذ صالح محمد إسماعيل نقيب المعلمين الإريتريين، ليكون سنداً له في مواقفه والمشاركة ضمن الوفد الإريتري المشارك في اجتماع مجلس اتحاد المعلمين العرب، والمنعقد في شهر يناير 1991م في صنعاء.

انتقل للعمل في الدائرة الأدبية واللغوية في مركز الدراسات والبحوث اليمنية، وأصبح عضواً شرفياً في اتحاد أدباء وكتاب اليمن، مصاحباً نخبة من الأدباء والمثقفين، أمثال: البردوني، عبدالعزيز المقالح، حسن الشرفي، عبدالله عبدالوهاب نعمان، وصديقه حسن اللوزي... وأخرون.

مع حلول يوم السبت الرابع من ذي القعدة عام 1424هـ، السابع والعشرين من ديسمبر 2003م، وافاه الأجل في صنعاء، ودفن فيها. وكانت لوفاته رنة حزن في الأوساط الأدبية، حيث شارك الأدباء والشعراء في رثائه بعد أن نعاه الناعي في الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين، بتاريخ 2003/12/30م: "ببالغ الأسى ينعي اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين الشاعر العربي الكبير عبدالرخمن إسماعيل سكاب". وأوضحت الأمانه سيرة الشاعر، وإسهاماته الشعرية والأدبية في الحياة الثقافية اليمنية والعربية.

والاحترام والتقدير من الشعب اليمني والنخب المثقفة التي منحته العضوية الشرفية في الاتحاد تقديراً لجهوده في خدمة التعليم والثقافة في اليمن. ليس ذلك فحسب، بل كانت هناك مطالبات لمنحه الجنسية اليمنية.

بدأت الأوساط الثقافية الإريترية وخصوصاً موقع "عونا"، ومجلة النهضة بالاهتمام بالحدث، مما جعل القارئ على اطلاع على سيرة عبدالرحمن سكاب الأدبية منذ مولده حتى وفاته من مثقفين يعرفونه جيداً، من أصدقائه، وتلاميذه، وذاكرة إنسانية. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: إبراهيم عثمان محجب، مصطفى كردي، وعبدالرحيم الشاعر، ومحمود لوبينت، الذي سطر مقاله في مجلة النهضة.

وأفردت صحيفة إريتريا الحديثة في العاشر من فبراير 2004م، في صفحتها الثقافية، آداب وفنون، مساحة للكتابة عن سكاب أديباً عملاقاً وشاعراً فـذاً. وأذكر على سبيل المثال الأسماء التالية التي شاركت في الكتابة: إسماعيل أنقا، إدريس عوض الكريم، أحمد عمر شيخ. محمد شريف، الذي شارك بقصيدة رثائية "وتوشح القلب لوعة الأسى".

جاء موقع أيلول الثقافي - تم حجبه لأسباب غير معروفة-، فأشعل فتيل الثقافة والأدب الشبابي. وكان من محتواه الاهتمام بالقامات السامقة، وسكاب واحد من الذين تمت الكتابة عنهم بأقلام شابة لم يسبق لها رؤيته. وكان من القائمين على الموقع - آنذاك - الإعلامي محمود أبوبكر، صاحب أنثولوجيا "مرايا الصوت"، منشورات أهل البيت بالجزائر، الصادر في يوليو 2009م. الذي أدرج قصيدتين لسكاب في مرايا الصوت، وهما: "طائر"، و"مشكاة". وتصدر المشهد كتاب "كرن.. الأصالة والتراث 2012م". وما ورد فيه عن الحياة الأدبية والثقافية في "كرن"، وسكاب رمز من رموزها الأدبية والثقافية.

يمضي عام، وتتجدد سيرة سكاب سواءً بمعلومة أو قراءة نقدية من أجيال يافعة، عاشقة للأدب والشعر السكابي. من هؤلاء الشاعر والناقد يبات علي فايد، المولود في عام 1972م في مدينة كـسلا، ومؤلف كتاب "همهمات في النقد الأدبي" و"علم العروض والقافية"، حيث كتب قراءة نقدية معمقة لقصيدتين هما: "المهد"، و"المشكاة" للشاعر سكاب. القراءة الأولى منشورة في مجلة الناقوس - العدد (الثاني) الجمعة 1 سيتمبر 2017م. وأقف عند نقطة تـنبه لها من دون الآخرين في قصيدة "المهد"، حيث ورد في البيت الثاني من القصيدة قوله:

"نحن أطلقنا تباشير الضحى... وأعدنا الدهر إيقاعاً صبيْ"

والمأخذ حسب قول الناقد: "أخذت على الشاعر في هذه الأبيات وقوفه على "صبيْ" بالسكون، في آخر البيت الثاني مما يوحي ببعد هذه الصفة عن النصب، وهو حقها؛ لانتصاب موصوفها "إيقاعاً"، ويمكن الخروج من هذا المأخذ إذا اعتبرنا "صبي" مرفوعة بمبتدأ محذوف تقديره "هو" وإن كان التأويل بعيداً، ولا يظننَّ أو يتأولنَّ متأولٌ أنها حرفت من "إيقاع صبي" إلى "إيقاعاً صبي"، وذلك لمخالفة صيغة المضاف والمضاف إليه الرقيقة لهذه الصيغة القوية المجلجلة في كل الأبيات".

وقد تأثر صالح طه الجبرتي (ظميان غدير)، صاحب ديوان: " تراتيل الغدير"، والمولود في عام 1983م في الرياض - السعودية. حيث كتب قصيدة على البحر الخفيف، مجاراة لقصيدة طائر:

آه للساهر الشجيّ مضى الليـ ... ــل وما زال دمعه سحّاحا
ساكبا من يراعِهِ قهوة الوجد ... وقد ذاق مزجها والقراحا.

ومنشورة في "منتديات أكاديمية الفينيق" في 2014/3/4م، وتم إعادة نشرها مؤخراً في "بوابة الشعر" في 2020/10/31م.

عاش عبدالرحمن سكاب في عزلة وصمت بعيداً عن الأضواء والنشر، ولكنه لم يكن صامتاً مع ذاته، ومع المقربين إليه من الشعراء والأدباء، والتلاميذ، كما أنه خلال هذه الفترة لم ينشر سوى عدد ضئيل من القصائد مقارنة مع تجربته الشعرية التي قاربت أربعة عقود ونيف، وكان متريثاً في نشرها بين دفتي كتاب.

أتمنى أن يتم جمع قصائده ونشرها، مما يسهم في إعادتها إلى المشهد الشعري. وربما تتحقق الأمنية بإقدام الابن والإعلامي، الشاعر شيبة الحمد، لإصدار قصائد والـده المتوافرة لدى العائلة بين دفتي كتاب. وأقول هذا لأن "شيبة الحمد" بصدد إصدار ديوانه الشعري الأول، وهذه ستكون تجربة ستساعده للمضي قدماً في مجال النشر خلفاً لوالده، وخدمة للمجتمع الثقافي الذي ينتظر هذا اليوم.

المصادر:

1. د. جلال الدين محمد صالح، كتاب "كرن .. الأصالة والتراث" أغسطس 2012م.

2. إبراهيم محجب، مقال:" رحلة أبدية بلاعودة، زادها التقوى".

3. أحمد محمد إسماعيل، مقال: "سكاب.. خاصية النص الإريتري".

4. عبدالرحيم الشاعر، مقال: "سكاب.. فدروب البذل أعراس زهت".

5. محمود لوبينت، مقال: "مات سكاب، فبكى الشعراء، وانتحب الكتاب".

6. مصطفى كردى، مقال: "دمعة على الشاعر عبدالرحمن سكاب".

7. محمد سليمان، مقال: "هموم شعرية" جريدة الجريدة، مؤرخ في 2019/5/2م.

8. مواقع إلكترونية: عونا، مجلة النهضة، مجلة أقلام.

Top
X

Right Click

No Right Click