قصة هداي كُلوس
بقلم الأستاذ: عبدالعزيز إبراهيم العامري - كاتب وفنان تشكيلي
هناك بحرٌ من التاريخ احاول دائما أن اخوضه وأبحر في متنه لأستخرج منه دُرر القصصِ الرائعةِ
المفعمةِ بالمواقف الحميدة التي صنعوها الفرسان بصوارمهم، والتي كان ينبغي أن تُدَرَّس للأجيال في المدن والبوادي، وتُكتب في ألواحٍ من ذهبٍ فتوضع في المتاحف الى يومِ التنادي.
جئتكم اليوم بقصة رجلٍ فارسٍ لا يقلُ شأناً عن اخوانه الذين أسلفتُ ذكرهم في الايام الخوالي. هذا الفارس يدعى حمد بن همد بن شيخ ويكنى (هداي كُلوس).
ولد هداي كلوس وبلغَ اشُدَّهُ في منطقة أف حارين. وقد كان يرعى الابقار ويرتحل بها حيث يهطل الغيث (تارةً الى بركه وتارةً اخرى الى الساحل). ويطلق على هاتين الرحلتين (سِبْك وساقم) (رحلة الشمال والجنوب). ذهب هداي كلوس ذات يومٍ الى مكانٍ قفر، ليرعى أبقاره في الامكان المعشوشبة التي لم تطأها أقدام المواشي، ترك الابقار ترعى وجلس على ربوةٍ حدباء وأخذ ينشد اشعاراً يستأنسُ بها في وحدانيته. وبينما هو كذلك إذ جاءهُ لصوصٌ من حيث لا يعلم فلما وصلوا على مقروبةٍ منه عرفوا أنه هداي كلوس، الفارس الذي تُضرب بشجاعته الامثال.
فأيقنوا بأن الظفر به من المحال.
وقال قائلٌ منهم لا تلقوا بأنفسكم الى الوبال. فتواروا بشجرةٍ ذات غصونٍ نضرة، واخذوا يفكرون ملياً ويتساءلون بعضهم عما عسى يقولون لهذا الفارس من كلام، دبروا مكيدتهم وانطلقوا اليه وهم يتهافتون فسألوه لكي يتأكدوا منه، أأنت هداي كلوس أم نداً له؟ قال بل انا هداي كلوس نفسه. قالوا له لقد كانت لنا في هذه الغابة حاجة، وما أن اقتربنا منها حتى سمعنا غطيطَ فهدٍ شرس، فولينا منه فراراً وبينما نحن على هذا المنوال إذ إستبصرنا أبقارك فجئنا اليك لتنصرنا عليه (الفهد) ولكنا آنسنا على مُقْلتَيْك علامات الخور والخوف. فطنَ هداي كلوس الى ما يختلج في صدورهم، فتأملهم بُرهَةً وأدرك أنهم سيزدرونه ويشينون سمعته فيما لو حاول أن يتجالهم. فسألهم قائلاً أوَ تخوفونني بقطٍ بري؟ وكيف لصياد أن يخاف مما يصطاد؟ أفحمهم بهذين السؤالين وقال لهم، تربصوا هنا ريثما اعود اليكم. وَلَجَ الغابة ببقره وبعد بضع دقائق خرج الفهد على هداي كلوس ليفترسه ولكن ثبت الفارسُ في مكانه كثبوت الصخرِ في الكثيب. وما أن قفز الفهد عليه حتى قبضه قبضةً قاضيةً فكسر رقبته ثم استلَ صارمهُ فضرب جيده حتى فصل رأسه عن كتفَيْهِ. واخذ الراس معه لكيون شاهداً له وأنشد هذه الابيات الجميلة:
لَلَحديني ركبني من قبيي لإلِتوركي
إيْسحتْ وإيجَوْر وإب أتقالاب إيْسكي
من للهرسوني إت طقم إيْسِئن وإيْتهكي
تَحرْفْجْ سمعكو إبْ عجفار وإبْ سداسات نَكِشْ
إبْ إديي إمطأكا سيْف إكون وكِشْ
ربِ لَحيلَتْ هايبوتو بلقاي وادي فرشش
أخذ الراس وعاد الى اللصوص ليوريَهم ما كان منه للفهد قولاً وفعلا. فلما رأوا هداي كلوس قادمٌ اليهم وهو مخضب بالدم، أشتد عليهم الخوف حتى كادت قلوبهم أن تبرح صدورهم وأحسوا بدنو شرٍ مستطير فكتموا انفاسهم بُرهَةً ثم سألوله سؤالاً ممزوجاً بخيبةِ الامل قائلين: أقتلته حقا؟؟؟ وقف في مسافة لا تطول عن ثلاثة باع فاجابهم على سؤالهم بسؤالٍ قئلاً: وهل لفارسٍ أن يعجز عن اخذِ شقصهِ من مخالب عدوهِ؟ وأنشد هذه الابيات قائلا:
قَرْبَلْ لمِن تمتمو كرجْ وأوَنْنْ بأسا
سَبْ سَبِك وساقم لأمرو فارس لأبْ حَطَرْ وصفا
ويراي ادحا تو هداي كلوس لَدَبَعَتْ أفرسا
ويراي لآلي تو ود همد حَيَتْ لإتْ طِلْمَتْ لَبَسا
وَنَنْ لَسَبْ نُواي أرعدا هربا منو لَرأيو
هداي كلوس واجهيو حاطر لمِن غَوَيو
إتَهَيَبا شِنْقولِي وَنَنْ كَفأت قَبَيو
حمد ود شيخ وَنَنْ سني إيدَلَيو
هداي كُلوس بيلَوْ حسناب وَنَنْ لَحَيَتْ بأسيو
بأس حَطَر وحيلَتو سقاد وَنَنْ سَبْرَيو.
فلما سمع اللصوص هذه القصيدة، طلبوا منه أن يلتمسَ لهم المعذرة، فقال لهم، ما كان لمثلي ان يقبلَ معذرةَ الأعداء ولكن، لكم مني ما سألتم فعودوا من حيث جئتم سالمين .وأغمدَ سيفه في غمده.
شرح القصيدة الاولى:
(للحديني ركبني من قيي لإلِتْوَركي) يقول في هذا البيت بأنه لا يعتدي على احد ولا يفرض قوته على احد ولكنه يجرف كل من يعترض دونه الطريق ويرميه أمامهُ كرمي حجر المنجنيق.
(آيسِحِتْ وإيجوِر وإب اتْقلاب إيسكي) قال بأنه لا يبحث عن المشاكل ولا يبدا بها ولكن اذا قرعت بابه، يخوض غمارها بكل ما أوتي من قوة.
(من لهرسوني إت طقم إيسئن وإيتهكي) قال وهو يصف شيمه: إذا دُعيتُ للقتال فإني ألبي طلب الطالب دون أدنى تردد وإذا سألني ذوي حاجةٍ عن شيء، فإن إغداقي عليهم أسرع من قطرات الغيث المنهمر.
(تحرفج سمعكو إبْ عجفار وإب سداسات نكش)
(إب إديي إمطأكا سيْف إكون وكِشْ)
المخاطب في هذين البيتين هو الفهد، انشد البيتين وهو ماسكٌ بأُذنَي الفهد قائلا: لقد سمعت بأنك تضرب باظافرك السامة وتعض بسنونك شديدة الحدة ولكني سأقتلك دون أن أكلف نفسي بإشهار السيف ورفع العصا.
(ربِ حيلَتْ هايبو تو بلقاي وادي فرشش) وفي هذا البيت، وصف قوته الخارقة إذ قال: لقد وهبني الله قوةً لا ندَ لها ولا شبيه، أسحقُ بها الصخور الصماء التي تعجز الصاعقة عن سحقها.
القصيدة الثانية:
يحسن بنا الان ان نزدلف الي شرح القصيدة الثانية الأخيرة.
(قَرْبَلْ لمِن تمتمو كَرَجْ وأوَنْنْ بأسا)
كلمة قربل تطلق على الرجل الشجاع والكريم، هنا في هذا البيت، أراد ان يبرز قوته وشجاعته للصوص حيث قال بأنه كان يصطاد الضباع الضارية والفهود الشرسة. قال هذه الكلمات ليحث اللصوص على مبارزته ولكنهم هابوهُ وأمتنعوا عن منازلتهِ.
(سَبْ سبك وساقم لامرو فارس لإبْ حَطَرْ وصفا)
هنا يقول بأنه ليس مجهول المكان إذ يعرفه الرعاة في البَر والسراةِ في الحضر بتغلبهِ على العدَى غداةِ الكر.
(ويراي ادحا تو هداي كُلوس لَدَبَعَتْ أفرسا) كان يقصدُ حضرته (يعني نفسه) إذ قال بأنه لم يعتريه الخوف من وِلوج الغابة التي هدده اللصوص بدخولها.
(ويراي لالي تو ود همد حيت لإتْ طِلْمَتْ لبسا) وهنا في هذا البيت، نعت نفسه بملك الغابة أي الاسد حيث قال، بأنه يجوبُ الغابات في الليل المدلهم الدامس ولا يَروعُهُ إنسٌ ولا جان.
(وَنَنْ لَسَب نواي أرعد هربا منو لَرأيو)
(هداي كلوس واجهيو حاطر لمن غَوَيو)
يقول في هذين البيتين، إن هذا الفهد كان يُرهب الرعاة فيتجنبون الدنو من الغابة لئلا يراهم ولكن اليوم وقع في يداي فقضته قبضةً قاضيةً حتى صار جثة هامدة.
(إتَهَيَبا شِنْقولي وَنَنْ كفأتْ قَبَيو)
(حمد ود شيخ وَنَنْ سَني إدَلَيو)
شنقولي هي كناية لأبقاره، يقول بأن الفهد قد أخطأ طريقهُ ولو كان يدري ما كان مني لفصيلتهِ لما رمى بنفسهِ الى بناني.
(هداي كلوس بيلَوْ حسناب وَنَنْ لحيت بأسيو)
(بأس حَطَرْ وحيلتو سقاد وَنَنْ سَبْرَيو)
ان هذا الفارس كان مشهورا بمهارته في اصطياد الفهود، وكانت هناك قبيلة من قبائل البجا تدعى حسناب، بفتح الحاء و السين وسكون الباء. هذه القبيلة مشهورة بشعرائها فإذا سمع هؤلاء الشعراء بأن هداي كلوس قد اصطاد فهدا، ينشدون أشعارا قائلين: إن هداي كلوس بالنسبة للفهد كالاسد الضاري وأن الفهد في عين هداي كُلوس كالقصبة اليابسة يكسر رقبته في أقل من لمح البرق الخاطف.
أحبتي القراء و ذوي الفنون
اني اشكركم على مروركم القيم