دولة تجراي تجرنية بين الحلم والواقع

بقلم الأستاذإبراهيم عمر

فكرة دولة تجراي تجرنية أو دولة مرب ملاش كما يحلو لأبناء اكسوم تسميتها ليست وليدة الصدفة

تقراي تقرنيا

بل هي فكرة قديمة متجددة، تطل علينا في كل مرة تتوفر فيها عوامل نجاح المشروع والذي يحمل بذور دولة قومية عرقية خالصة لأبناء التجرنية من الدولتين إرتريا وإثيوبيا والذين يمثلون أقلية في كلا البلدين وتجمع بينهم روابط الدم والعرق والثقافة والتاريخ الي حد نسبي وليس كل أبناء التجرنية لهم صلة روابط او قرابة كما يدعي مروجي الفكرة، والعامل المشترك يكمن في اللغة اكثر منه في العرق والثقافة و أن الفكرة لا تعدو كونها سياسية في المقام الأول و في هذا الصدد يقول أ. د. جلال الدين محمد صالح "يعد مشروع (تجراي تجرنية) احد الأطروحات السياسية، التي عرفتها الساحة الارترية، خلال فترة تقرير المصير، في الخمسينيات" (١).

أما تاريخيا فقد فرق المؤرخون بين سكان المنطقتين بما يعرف بمسيحى بحري نقاش وتعني ملوك البحر او مدري بحري وتعني أرض البحر دولة ارتريا حاليا ومسيحى الحبشة دولة اثيوبيا الحالية والحد الفاصل بين المنطقتين منذ القدم هو نهر موسمي يعرف في اثيوبيا بنهر مرب وفي إرتريا يعرف بنهر سيتيت وهو نفس النهر الذي يصب في ولاية كسلا في السودان ويعرف بنهر القاش.

وتأكيدا لهذا الكلام نورد رآي المبشر البرتقالي الأب فرانسيسكو الفاريز الذي زار المنطقة في بدايات القرن السادس عشر و دوَّنَ ملاحظاته في كتاب "حكايات أو روايات البعثة البرتقالية الي الحبشة ١٥٢٠-١٥٢٧" يقول فيه: "نهر مرب هو الفاصل بين دولة بحر نقاش ودولة تجراى" ص٧٣ (٢).

هذا الفاصل الجغرافي الذي يمثل الحَدُّ الفاصل او الحدود السياسية بين الدولتين في تلك الفترة مازال يمثل الحدود الطبيعية بين البلدين الي يومنا هذا، وهذه ليست صدفة بل دليل أخر علي أن هذا الفاصل القديم الذي كان يمثل الحدود السياسية لم يوجد من فراغ بل دلالة تاريخية بارزة علي ان سكان المنطقتين لا يرتبطون بصلات قوية كما يدعي اصحاب الفكرة.

فمنذ القدم كان هناك كيان سياسي يمثل كل طرف، ففي إرتريا مثلا نجد دولة ارض البحر التي تتكون من عدة اقاليم ولها سلطة تامة علي الموانئ المطلة علي البحر الاحمر "وكانت هذه الأقاليم الإرترية مسرحا للتنافس السياسي بشأن زعامة الأقاليم الثلاث. وكان يطلق منذ القرون الوسطي، علي من يفرض سلطته علي هذه الأقاليم اسم (بحر نجاشي) اي ملك البحر. وقد اطلق حكام الهضبة الجنوبية الإرترية علي أنفسهم هذا اللقب للدلالة عي أنهم أحق بالسيادة علي البحر الأحمر من حكام الحبشة (اثيوبيا) الذين سعوا بِاسْتِمْرارٍ للتسلط على الشواطئ الإرترية (٣).

أما مؤيدي المشروع في إرتريا هم فئة من المسيحين الناطقين بالتجرنية من أبناء المرتفعات (كبسا) وتعني الهضبة بلغة التجرنية منهم من ينحدر من أُصول تجراوية أي من اقليم تجراي المتاخم وينحصرون في ثلاث اقاليم إثنان منها حدودية، وهي اقليم سراي و اكلي قوزاي غرب ارتريا بالإضافة الي اقليم حماسين في قلب الهضبة الإرترية حيث تقع العاصمة اسمرا ومن ابرز هذه الشخصيات "الزعيم الاكسومي (ولد آب ولد ماريام) احد ابرز الاباء الاكسوميين، الذين طرحوا هذا المشروع، نَظَّرُوْا له، ودافعوا عنه، في تقرير مصير المستعمرة الإيطالية في القرن الأفريقي، المعروفة حاليا بارتريا، الى جانب الرأس تسما زعيم اقليم اكلي قوزاي، واخرين" (٤).

اما في اثيوبيا فينحصر وجودهم في اقليم تجراي المتاخم للحدود الإرترية من الناحية الشمالية لاثيوبيا، وهي نفس المنطقة التي كانت تقع فيها حاضرة مملكة اكسوم في الفترة مابين ١٥٠ ق.م الي٧٥٠ ميلادي "والتي برزت للوجود نتيجة لاندماج خمسة مدن اربعة منها فى ارتريا وهي مطرا وعدوليس وقحويتو وكيكسي وتكوندا وفي الجانب الأثيوبي اكسوم و يحا في إقليم تجراي الحالي" (٥).

ومن خلال هذه الشواهد التاريخية يتضح لنا أن فكرة مشروع تجراي تجرنية ماهي إلا فكرة سياسية في المقام الأول ومن خلالها يهدف أصحاب الفكرة الي تكوين دولة لا وجود لها تاريخيا ولا توجد روابط اجتماعية قوية لدرجة إنشاء دولة مزعومة وكل إعتمادهم علي تضليل الرآي العام باستخدام العامل الديني لكسب رآى الشعب. ربما هناك دوافع اخرى لا نعلمها والايام ستكشف لنا ذلك.

بداية الفكرة في التاريخ الحديث:

و كما اسلفنا أن فكرة دولة تجراى تجرنية هي فكرة قديمة متجددة تطل علينا كلما توفرت الأجواء الملائمة لتحقيق الفكرة، وفي كل مرة تظهر فيها بوادر نجاح المشروع يطرأ تغير في المنطقة فتهب رياح التغير فيحصل تغير شامل في المنطقة وبالأخص في ارتريا وإثيوبيا. لا ادري مالعلاقة بين الفكرة ورياح التغير التي تهب علي المنطقة مع كل محاولة من ابناء تجراى إحياء الفكرة، أهو النحس الذي يلازمهم بين الفينة والأخرى أم هي المنافسة مع باقي المكونات التي تلعب دور في إفشال المخطط ؟؟ وحتي لا نذهب بعيدا عن سياق الموضوع نعود الي موضوعنا وهو بداية الفكرة فى تاريخ إرتريا الحديث لنعرف اين ومتي بداءت ومن كان وراء الفكرة.

أول مكان لظهور الفكرة في التاريخ الحديث هو إقليم تجراى المتاخم للحدود الإرترية من الناحية الغربية وبالتحديد في الأربعينيات من القرن العشرين ولكن ارهاصاتها بداءت قبلها بفترة وبالتحديد ابان الغزو الايطالي لإقليم تجراي في عام ١٩٣٥. اما بطل القصة هو رجل يدعي غوغسا GUGSA من اصول تجراوية وينحدر من سلالة الملك يوهنس زعيم تجراي والذي قتل في معركة المتمة علي ايدي المهدية، "وهو ابن غوغسا أرايا سيلاسي، أمير واحد احفاد اللإمبراطور يوهانس الرابع، وكذلك شوم (حاكم) منطقة تجراي الشرقية" (٦).

لم يكن غوغسا سعيدًا بالطريقة التي عامله بها الإمبراطور بعد اعتلائه عرش اثيوبيا لأنه لم يمنحه لقبه "الشرعي" رأس باعتباره سليل الإمبراطور يوهانس الرابع ولكنه منح لقب ادني وفي المقابل منح سيوم منقشي حاكم الاقليم الغربي لتجراى لقب رأس مما زاد من حدة الخلاف بين غوغسا والإمبراطور وكان هذا سبب وقوع خلافات وصلت حد الخيانة والتحالف مع الغزاة.

وغوغسا يعتبر ايضا صهر الإمبراطور الهالك هيلي سلاس والذي "تزوج في وقت لاحق من ابنة الإمبراطور سيلاسي، Zenebework زينبوارقي هيلى سيلاسي. لاحقا توفيت الأميرة البالغة من العمر 16 عامًا، أي بعد مرور عام على زواجها، وسط شائعات بأن زوجها عاملها بفظاعة. وأدى ذلك إلي التوتر بين غوغسا والإمبراطور سيلاسي، الذي تفاقم بسبب مطالبة الأخير بإعادة ابنته إلى أديس أبابا بدلاً من دفنها في عاصمة منطقة تجراي" (٧).

نتيجة لهذه الأحداث وماتبعها من تدهور في العلاقة بين الامبراطور وصهره قرر حفيد يوهنس الرابع الإستعانة بالغزاة الأيطالين لاستعادة عرشه الذي انتزعه منه الامبراطور هيلي سلاسي المحسوب علي الأمحرا الد اعداء التجراى في الحبشة. وموقف كهذا قد يدعو البعض الي الإستغراب ولكن اذا عرف السبب بطل العجب، وفي هذا الصدد يقول الفيسلسوف الأغريقي أرسطو "والسياسة هي فن التسوية بين الطبقات المكونة للمجتمع، فالناس خلقوا غير متساوين والطبقات العليا مستعدة للثورة هي الاخري اذا ما فرضت عليها مساواة غير طبيعية مثلما أن الطبقات الدنيا قابلة للثورة اذا ما كان التفاوات شديدا علي نحو غير طبيعي" (٨).

هذا التفسير المنطقي يعكس نفسية بعض وجهاء القوم عندما يتم إستهداف سلطتهم او مكانتهم الأجتماعية التي قد تكون متوارثة ابا عن جد ولعدة قرون. فتجده علي إستعداد تام لفعل المستحيل من اجل الحفاظ علي عرشه او استعادة منصبه وهذا ما جرى وما زال يجيرى في بلدان الربيع العربي وسابقا في ارتريا في فترة تقرير المصير عندما اختار بعض زعماء القبائل (الشماقلي) الإنضمام الى اثيوبيا عكس اختيار طبقة المحكومين (التجري) الاستقلال.

قد يستغرب البعض ولكن هذه هي سنة الحياة ويتكرر المشهد في كل مرة يفقد فيها احد الملوك او كل من له سلطة او جاه مكانته الإجتماعية وهي حالة خطيرة قد تؤدي الي خيانة امة بأكملها من اجل الحفاظ علي منصب او مكانة اجتماعية. وهذا ما حصل مع حفيد يوهنس الذي لم يخالف التوقعات والتاريخ الاثيوبي مَلِيء بهذه التحالفات "وكان من تحالفات (يوهانس) في هذا السبيل التحالف مع الإنجليز ضد تيدروس ملك (شوى) الذي كان هو الاخر متحالفا مع الإنجليز، في بداية أمره؛ للإستيلاء على مصوع" (٩).

فمن اجل الظفر بمنصب حرص علي عدم تفويت الفرصة عندما سنحت له فأختار التحالف مع الرجل الأبيض ورفض أوامر الإمبراطور الذي طالبه فيها هو والرأس سيوم منقشا حاكم المنطقة الغربية لأقليم تجراى بالانسحاب وعدم الاشتباك مع الغزاة. ولكن غوغسا كان له رأي اخر فقرر التحالف مع الطليان حرصا علي استعادة مكانته المسلوبة. فقام بالاشتراك مع الطليان في معركة إحتلال مدينة مقلي إحدى المدن الكبري في الاقليم. فتمت مكافئته من قبل الطليان واصبح من المقربين ونال المكانة المرموقة التي كان يَصْبوا اليها وهي لقب رأس وتعني قائد الجيش. ومنذ ذلك الحين سجل إسمه كخائن في التاريخ الاثيوبي ومازال يعرف بهذه الصفة الي يومنا هذا.

إستمر الوضع علي هذا الحال حتي بعد وصول المحتل الانجليزي و دخولهم اديس اببا عاصمة اثيوبيا بعد هزيمة الطليان في الحرب العالمية الثانية وذلك في عام ١٩٤١. لم يتبدل الحال كثيرا بالنسبة لغوغسا حتي بعد التغير الذي حصل في المنطقة نتيجة لهزيمة النازية، فقرر الانجليزي تعينه حاكما علي إقليم تجراى مناصفة مع الرأس سيوم منقشا ولكن لغاية اخري هذه المرة وهي فصل اقليم تجراى وضمه الي ارتريا وتكوين كيان جديد تحت مسمي "دولة تجراى الكبري" والتي لم ترقي للرأس سيوم منقشا فقابل الفكرة ببرود وذلك ايمنا منه بأن التقسيم سيضعف من مكانة اثيوبيا ولذلك اتجه الإنجليز لهيلي سلاسي غوغسا حفيد يوهنس الرابع ليقود المشروع ولكنهم تفاجؤ بوجود اتصالات بينه وبين الطليان حتي بعد انتهاء وجودهم في المنطقة فقاموا باعتقاله في اسمرا عاصمة ارتريا لفترة ومن ثم تم إرساله الي جزر سيشل احدى المستعمرات الانجليزية في المحيط الهندي" (١٠).

وبأستبعاد غوغسا من المشهد طويت صفحة فصل اقليم تجراى وضمه الي إرتريا ودخلت المنطقة مرحلة جديدة من التغيرات بعد عودة الإمبراطور الهارب هيلي سيلاسي من منفاه الي اديس أببا بمساعدة الأنجليزي وبالتالي عاد التاج الي حكام الأمحرا المتنفذين مجددا. وبالرغم من هذه التغيرات والدعم الذي حصل عليه الأمبراطور من الحلفاء لم تثني هذه التهديدات اصحاب الفكرة عن المضى قدما نحو هدفهم وظلوا يعملون بثبات حتى بلوغ الغاية المرجوة وهي دولة تجراى الكبرى.

----------------------------------------------------------
المصادر:

١. تجراي تجرنية الفكرة ودوافعها - مقال أ.د.جلال محمد صالح.

٢. فرانسيسكو الفاريز - حكايات أو روايات البعثة البرتقالية الي الحبشة ١٥٢٠-١٥٢٧ ص٧٣.

٣. ارتريا والتحديات المصيرية حامد صالح تركي ص٧٥-٧٦.

٤. مصدر سابق... تجراي تجرنية الفكرة أ. د. جلال محمد

5. Richard greenfield pre-colonial "and colonial history" In behind the war in Eritrea, edited by Basil Davidson pg 19.

6. The infamous Haile Selassie who betrayed Ethiopia by siding with the Italians in 1935

٧. المصدر السابق...

٨. ويل ديورانت. ابطال من التاريخ، مختصر قصة الحضارة، دار الكتاب العربي.

٩. مصدر سابق... تجراي تجرنية الفكرة ودوافعها - مقال أ.د.جلال محمد صالح.

١٠. Haili Selassi I, Volume II, p.174

Top
X

Right Click

No Right Click