سلسلة قضايا بسيطة و مهمة 2-10

بقلم الأستاذ: علي عافه إدريس - كاتب ومحلل سياسي ارتري

القيود التي تقيد عقولنا !!! كلنا يدعي أنه يفكر تفكيرًا حراً لا تحيز فيه تجاه الموضوعات والقضايا الخاصة والعامة، لكننا لسنا كذلك،

فإنما نحن نفكر ضمن الأنماط المخزنة في عقلنا الباطن حيث تمنعنا تلك الأنماط من الخروج عن مساراتها، فلو كنا نفكر تفكيرا حرا لا تحيز فيه، لماذا في كل مرة نحاول التفكير في إيجاد حلول مختلفة للخروج بنتائج مختلفة ننتج نفس النتائج السابقة رغم أن الحلول التي استخدمناها ظاهرا كانت مختلفة ؟

القيود على العقل البشري كثيرة وهي أنماط مكتسبة ممن حولنا وسنتحدث عن أهمها في نهاية البوست، وقبل هذا يجب أن نقرب الصورة لفهم تلك القيود.

كثيرا ما نسمع فكّر خارج الصندوق! أو مدحا وإشادة عند الإبداع يقال لك هذا تفكير خارج الصندوق، والصندوق المقصود هنا هو الأنماط التي تقيد العقل البشري، فهي التي يدفعنا العقل الباطني للاستسلام لها باعتبارها مناطق آمنة ومجربة، فنصبح كفيل السيرك المقيد بحبل تستطيع عنزة قطعه والتحرر منه ومع هذا يبقى ساكنا ظنا منه أنه لا يستطيع الإفلات منه لان منذ صغره قد حاول الإفلات ولم يستطع فاستسلم وهو كبير باستطاعته تدمير كل شيء لأن ذلك القيد انتقل من رجله لعقله.

ومن أمثلة القيود الذهنية أيضا، أن مزارعا عندما وصل إلى بيته تذكر أنه قد نسى الحبل الذي يربط به حماره في المزرعة، وبحث عن حبل في بيته فلم يجد فذهب لجاره ليعيره حبلا فلم يجد عنده لكن الجار نصحه بأن يوقف الحمار في المحل الذي يربطه فيه عادةً وأن يقوم بنفس حركات ربطه فنفذ نصيحة جاره ولم يتحرك الحمار طيلة الليل وفي الصباح جهز حماره بالبردعة وأوعز له بالتحرك لكن الحمار رفض التحرك وكلما ضربه أخذ يدور في نفس محله وبعد أن يئس من تحركه ذهب لجاره وأخبره فقال له أنك لم تفك قيده فقاله لكنه غير مقيد، فقال له لكنك بالأمس مثلت انك قيدته فأذهب ومثل انك تفك قيده فنجحت العملية وتحرك الحمار.. هذه الحكاية كثيرا ما يستدل بها على غباء الحمار، وهو استدلال ليس صحيحاً، فالحمار ليس غبياً كما أفهمونا، والقصة هنا يستدل بها على القيود الذهنية التي قيدته عبر تكرارها.. وهذا أيضاً ما يحدث للإنسان رغم تميزه بالعقل الراقي فعقله هو الأخر يتقيد عبر الأنماط التي يكتسبها طيلة حياته وتقبع في عقله الباطني، والذي يفرق بينه وبين ذاك الحمار ليس ذكاءه وغباء الحمار إنما هي مقدراته العقلية الراقية لهذا سوف لن يستدل على قيود عقله بربطه بحبل، إنما الاختبار يكون على قدر تميزه العقلي، فيجرب مثلا في إيجاد حلول معينة لكنه يفشل في إيجادها رغم التخصص و الدرجات العلمية العالية التي يحملها في ذلك المجال.

في الحقيقة لا أود أن أحول الموضوع لبحث علمي فكل ما أرجوه منه هو فتح آفاق جديدة وعلى القارئ إذا أراد الاستزادة من ذلك فالدراسات والأبحاث كثيرة ومذهلة والانترنيت مليء بها، لكن قبل ذكر تلك الأنماط بودي التحدث قليلا في كيفية مواجهة هذه المعضلة.

أول طرق المواجهة لتجاوز تلك الأنماط هو التعمق في معرفتها، وثانيها عدم الاستسلام للعقبات التي تعترض طريقك والمثابرة على مقاومتها وافتراض أنها أساسا غير موجودة فهي حقيقة غير موجودة بنسبة تصل لـ 85% إنما الأنماط في عقلك الباطن هي التي تصور لك وجودها لدفعك للمنطقة الآمنة و الطريق الوحيد للوصول للمنطقة الآمنة بالنسبة لعقلك الباطن هي سلوك طريق تلك الأنماط.
ومن مؤشرات أن الحل الذي توصلت إليه حل جديد و أنك خارج تلك الأنماط، هو عدم الاطمئنان للحل الذي توصلت إليه فطالما أنت في قلق حياله فهو حل جديد فأصبر عليه فذلك القلق والتخوفات هي مؤشر الابتكار وأنك قد أنتجت حل جديد، بينما الاطمئنان مؤشر سيء ومعناه أن عقلك الباطن قد نحج في دفعك للمنطقة الآمنة وأنك بصدد إنتاج نفس الحلول السابقة، وربما بعضكم جرب الفرق بين شعور قيادة سيارته في طريق معلوم لديه وطريق آخر لأول مرة يسلكه ففي الطريق الذي لا تعرفه تكون نسبة انتباهك وتوترك عالي جدا والترقب والانتباه هما سيدا الموقف بينما في الطريق الذي تعرفه حالة الاسترخاء والبحث في أدراج السيارة عن شريط كاسيت أو سي دي أو التلهي بالموبايل.. ففي الطريق الذي لا تعرفه أنت خارج منطقة الأنماط لهذا القلق سيد الموقف بينما في الطريق الذي تعرفه فأنت في منطقة الأنماط التي يعرفها العقل الباطن جيدا لهذا أنت مسترخي.

وقبل الختام سأورد بعض النماذج لتلك الأنماط التي تحدث عنها العلماء والمفكرون..

الفيلسوف اليوناني هرقليطس قال أن الناس يبحثون عن العلوم في عوالمهم الخاصة الضيقة، وليس في العالم الكبير الواسع و المشترك.
وهو يقصد أنهم يفكرون ضمن الأنماط التي اختزنتها أدمغتهم وحاله هنا أشبه بحال من يبحث عن آلة تساعده في إصلاح باب بيته لكنه يصر في البحث عنها في بيته توقعا منه أن يكون أسلافه (جده أو أبوه) قد امتلك واحدة، فهو يعرف أنهما عندما كانا حيين كانا دائما يبحثان في البيت ويجدان حاجاتهما بينما لو خرج من بيته لدكان العدد لوجد ما يبحث عنه وبدائله أو بإمكانه صناعة آلته الخاصة به لكنه يصر على البحث في بيته طيلة الوقت ويكرر ذلك لسنوات طويلة، والمقصود أن الإنسان عندما يبحث عن حل ما، يبحث عنه في الأنماط المخزنة في دماغه ولا ينطلق للعالم الرحب.

أما المفكر والفيلسوف البريطاني فرنسيس بيكون تحدث عن ذلك بالتفصيل وقسم الأنماط المختزنة إلى أربعة أقسام وسماها أصنام.

أولا: أصنام القبيلة: وهو لا يقصد بها القبيلة بمفهومها الحالي إنما يقصد الجنس البشري كله، و أنماط التفكير التي يشترك فيها الجنس البشري كله، وتلازم طبيعة البشر الخالصة و أن الذهن البشري موضوعيًا متحيز بل "تخيم عليه" سحب الانفعالات والرغبات، حتى أن الناس لديهم استعداد عجيب لأن يعتقدوا فيما يرغبونه.

ثانياً: أصنام الكهف: وهي خاصة بكل إنسان لوحده، فكل منا يعيش في كهف صغير خاص به، أو يعيش في مغارته الخاصة، وله طريقته الخاصة في التفكير، ترجع إلى الوراثة، والتربية، والعادات، والظروف الخاصة بكل منّا، لذلك يغالي بعض الناس عادة في التشابهات بين الأشياء، بينما يغالي بعضهم في الاختلافات بينها، ويحب بعضهم القديم بإفراط ويحترمون السابقين، في حين أن بعضهم أسرى لما هو جديد من كل نوع.

ثالثا: أصنام السوق: وهي أكثر الأصنام إثارة للمشكلات وهي الأفكار المكتسبة نتيجة الاحتكاك بالآخرين، حيث يتقابل الناس عادة، ويتفاهمون عن طريق اللغة، ولأن الكلمات يكون أصلها في عقل الإنسان العادي، فكثير ما لا تكون مناسبة لبحث علمي دقيق، فتكون النتيجة أن الناس يتجادلون حول كلمات يعجزون عن تعريفها بطريقة مناسبة، فبعض الكلمات الموروثة من آراء غامضة من الماضي.

رابعا: أصنام المسرح: وهي تلك التي تتسرب إلى عقول الناس من معتقدات الفلسفات المختلفة والأفكار السابقة، فجميع المذاهب التي وصلت إلى عصرنا لم تكن سوى مسرح كبير جدًا يمثل عوالم من خلق الله نتأثر بشدة بكل تفاصيله.

كل تلك الأصنام (الأنماط) تسبب القيود الذهنية بإرغامك على التسليم للعقبات التي تعترضك، على الرغم من أنها قد لا تكون تلك العقبات موجودة أصلا، و نسبة كبيرة من سلوكيات المرء تتأثر بالعقل الباطن الذي يمكن المرء من القيام بالعديد من الأمور بشكل آلي وتلقائي، كما يعمل العقل الباطن على محاولة إبقاء المرء ضمن ما يعرف بـ"المنطقة الآمنة". والمنطقة الآمنة منطقة مهمة نستدعي منها كل الأمور المكررة في حياتنا لنقوم بها بكل يسر وسهولة لكنها بالمقابل مضرة عندما نحتاج لابتكار الحلول لأنها في كل مرة نحاول تعيدنا لنفس النقطة التي انطلقنا منها، كما أن القيود الذهنية تجعلك غير واثق بنفسك وبقدراتك.

ولكم مني كل الود والتقدير والاحترام وآسف على الإطالة فالموضوع مهم جدا، وقد حاولت الاختصار لكن لم أستطع ذلك.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Top
X

Right Click

No Right Click