ربيع إثيوبيا وعود وآمال وتحديات

بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - باحث وكاتب صحفي

هل يضمن اختيار رئيس وزراء من أكبر القوميات استقرار البلاد ؟

ربيع إثيوبيا وعود وآمال وتحديات

تعيش إثيوبيا منذ اختيار الدكتور ابي أحمد علي (42 عاماً) رئيس المنظمة الديمقراطية لشعب الأورمو رئيساً للوزراء في أبريل الماضي، أجواء من التفاؤل والهدوء النسبي بعد سنوات من الاضطراب والقلق والخوف. فهل بإمكان رئيس الوزراء الجديد أن يحول أجواء التفاؤل والهدوء النسبي هذه إلى إصلاحات سياسية واقعية تحقق التطلعات الشعبية والاستقرار الدائم للبلاد ؟

قبل ابي أحمد، تقلد منصب رئيس الوزراء، منذ الإطاحة بنظام منغستو هيلي ماريام في مايو 1991، ثلاثة أشخاص، الأول تمرات لايني (1991 - 1995)، وهو ينتمي لقومية الأمهرا(27% من السكان) ممثلاً للحركة الوطنية الديمقراطية للأمهرا، ملس زيناوي (1995-2012) المنتمي لقومية التغراي (6.1% من السكان) ممثلاً للجبهة الشعبية لتحرير التغراي ثم هيلي ماريام دسالن (2012-2018) من قومية ويالاتا (2.3% من السكان)، ممثلاً للحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا. التنظيمات الثلاث تشكل بالإضافة إلى المنظمة الديمقراطية لشعب الأورمو، الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية الحاكمة.
استقال هيلي ماريام دسالن من رئاسة الوزارة في 15 فبراير بسبب احتجاجات انتشرت في أنحاء متفرقة من البلاد ودامت ثلاثة أعوام. برر دسالن استقالته بالرغبة في فتح الطريق أمام الإصلاح والاستقرار.

توقع الكثير من المراقبين حينها أن يكون منصب رئيس الوزراء هذه المرة من نصيب المنظمة الديمقراطية لشعب الأورمو المكون الرابع للتحالف الحاكم، ليس فقط لأن المنظمة هي الوحيدة بين تنظيمات التحالف الحاكم التي لم تحصل على المنصب من قبل (لابد من الإشارة إلى أن منصب رئيس الوزراء عندما ناله الأمهرا لم يكن المنصب التنفيذي الأول)، لكن أيضاَ لأن الأورمو هم القومية الأكبر وهم الذين شهد إقليمهم الاحتجاجات الأقوى والأكثر استمرارية والتي أفضت في النهاية إلى استقالة رئيس الوزراء، دسالن. من جانبها، سعت المنظمة الديمقراطية لشعب الأورمو من أجل ضمان أن يكون لديها مرشحاً لرئاسة التحالف الحاكم والذي يكون بحكم المؤكد رئيساً للوزراء. المرشح لرئاسة التحالف يجب أن يكون رئيساً لمنظمته وأن يكون عضواً في البرلمان ليكون مرشح التحالف لرئاسة الوزارة حسب الدستور الإثيوبي الذي يشترط أن يتم اختيار رئيس الوزراء من بين أعضاء البرلمان. بما أن رئيس المنظمة حينها، لما ماغريسا، ليس عضواً في البرلمان، قامت منظمة الديمقراطية لشعب الأورمو بعد أسبوع واحد فقط من استقالة هيلي ماريام دسالن، بتغييره واختيار الدكتور ابي أحمد العضو في البرلمان رئيساً لها.

لم يكن ابي أحمد مرشحاً مناسباً للمنصب لأنه ينتمي للقومية الأكبر (34.5%) وفقط، بل لأنه أيضاً ابن المؤسسة الحاكمة حيث انتمى للجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية في 1991 عشية سقوط نظام منغستو وهو لا يزال في الخامسة عشر وترقى من رتبة الجندي حتى وصل إلى رتبة عقيد في الجيش وعمل في الاستخبارات مديراً لوكالة أمن المعلومات وصار وزيراً للعلوم والتقانة في 2015. وابي أحمد حاصل على الدكتوراه عن أطروحة عن حل النزاعات التقليدية في إثيوبيا وهو بجانب كل ذلك مسيحي والده مسلم ينتمي للأرومو وأمه مسيحية تنتمي للأمهرا ويتحدث ثلاث من اللغات الرئيسة في البلاد (افان لغة الأورمو، الأمهرية والتغرينية).

لكن المفارقة كانت أن اختيار ابي أحمد لمنصب رئيس التحالف الحاكم لم يتم بنفس السلاسة التي تم بها اختيار أسلافه. فبينما تم اختيار هؤلاء بالأجماع، انتخب ابي أحمد بعد جدل ومنافسة غير معهودين داخل الجبهة الحاكمة. حصل أحمد على 108 صوتاً من مجموع عدد الحاضرين في اجتماع اللجنة المركزية للجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية الذي بلغ 169(العدد الكلي لأعضاء اللجنة المركزية للجبهة 180) بينما حصل منافسه الرئيس المنتمي لتنظيم للحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا على 59 صوتاً. تم تنصيب ابي أحمد في البرلمان دون أية منافسة بسبب سيادة الديمقراطية المركزية التي تفرض على أعضاء الجبهة الحاكمة الالتزام بقرارات القيادة. وقد أشارت بعض المواقع الإلكترونية الإثيوبية إلى أن أغلب ممثلي جبهة التغراي في القيادة صوتوا لصالح المرشح الآخر.

المحاصصة الاثنية... توليفة سياسية فريدة:

تشبه الجبهة الثورية الحاكمة في إثيوبيا الجبهات التي تشكلها الأحزاب القائدة في الأنظمة شديدة المركزية حيث تكون السيطرة لحزب واحد من خلال هيمنته على الأمن والجيش واستخدامه أيدولوجية ما للتغطية على ضآلة تمثيله الوطني. لكن الحالة الإثيوبية تختلف في أن الجبهة الشعبية لتحرير تغراي لم تستخدم أية أيدولوجية لفرض هيمنتها على الجبهة الحاكمة بعد أن تخلت عن الأيدولوجية الماركسية اللينينية (النسخة الألبانية) التي كانت تتبناها أبان فترة كفاحها المسلح ضد نظام منغستو هيلي، عند تسلمها السلطة في 1991 ومواجهتها حقائق الواقع الدولي الجديدة بعد انتهاء الحرب الباردة وحاجتها للتعامل مع الغرب.

أبقت جبهة التغراي على الجانب التنظيمي لهذه الأيدولوجية؛ الديمقراطية المركزية، وعلى المحاصصة الاثنية لقيادة التحالف التي لا تتناسب مع الثقل السكاني والبرلماني لمكوناتها (الأورمو 180، الأمهرا 138، قوميات الجنوب 123 والتغراي 38 عضواً في البرلمان) بينما لتنظيمات الجبهة الحاكمة الأربع عدد متساو في القيادتين التشريعية والتنفيذية (45 في المركزية و9 في التنفيذية لكل منها).

اكتسبت الجبهة الشعبية لتحرير تغراي قوتها من قيادتها للنضال المسلح ضد نظام منغستو الديكتاتوري. عندما أطاحت الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية بنظام منغستو هيلي ماريا في مايو 1991، كان 90% من قوات الجبهة من المنتمين للجبهة الشعبية لتحرير تغراي وكانت الـ 10% المتبقية من منتسبي التنظيمات الأخرى المتحالفة معها. بدت جبهة التغراي حينها منقذة للبلاد من بشاعة ممارسات نظام منغستو ومحررة لقومياتها من هيمنة قومية الأمهرا التي دامت لعقود طويلة. بجانب هيمنها على الجيش والأمن والاقتصاد، لعبت شخصية زعيم الجبهة الراحل ملس زيناوي الكاريزمية ومهاراته العالية دوراً كبيراً في ضمان استمرار سيطرة الجبهة على التحالف الحاكم وعلى مقاليد السلطة في البلاد.

في 1995، تم تقسيم البلاد وفقاً للدستور الذي أقر في نفس العام، إلى 9 أقاليم تشكل أي منها على أساس اثني كما أعطى الدستور أية قومية الحق في تقرير المصير بما في ذلك حقها في الانفصال. كان هذا تحولاً تاريخياً في الطريقة التي ظلت تحكم بها إثيوبيا منذ تكوينها بحدودها الحالية في ظل حكم الإمبراطور منيليك الثاني في نهاية القرن التاسع عشر. صارت القوميات الكبيرة تحكم نفسها بنفسها بعد أن كان حكامها يعينون من أديس أببا، وصارت هذه القوميات تستخدم لغاتها بعد أن كانت اللغة الأمهرية هي اللغة المستخدمة في دواوين الدولة والتعليم في كل أنحاء البلاد.

بدت هذه الصيغة مناسبة لإثيوبيا فقد حافظت على الاستقرار الداخلي نسبياً (لعب توقف الحرب في إريتريا التي دامت 30 عاماً دوراً كبيراً في ذلك). وحققت الجبهة الحاكمة خلال ربع قرن من حكمها إنجازات غير مسبوقة في تاريخ إثيوبيا فقد وصل متوسط مستوى النمو الاقتصادي في البلاد خلال السنوات من 2005 إلى 2016 إلى 10,5%، بينما كان متوسط النمو الاقتصادي في الإقليم 5.4%، (يتوقع صندوق النقد الدولي أن يكون معدل النمو الاقتصادي في إثيوبيا هذا العام، 8.5% ليكون الأعلى في أفريقيا). انخفض معدل الفقر في البلاد من 53% في عام 2000 إلى 33.5% في عام 2011، ازداد عدد الملتحقين بالمدارس الابتدائية أربعة أضعاف، انخفض معدل وفيات الأطفال إلى النصف، وزاد عدد الأشخاص الذين يحصلون على المياه النظيفة إلى أكثر من الضعف. كما صارت البلاد قوة إقليمية فعالة لعبت أدوراً مهمة في حفظ السلام وفي التأثير على توجهات وخيارات الدول المجاورة لها.

تغيير هادئ وبطيء لكنه عميق:

أثارت التوترات السياسية التي شهدتها إثيوبيا قلق المجتمع الدولي بسبب الأهمية الجيوسياسية لهذا البلد. فإثيوبيا هي البلد الثاني في القارة الأفريقية من ناحية عدد السكان بعد نيجيريا إذا يبلغ عدد سكانها حوالي 108 مليون يتوزعون على أكثر من 80 مجموعة قومية. ولإثيوبيا حدوداً ومجموعات اثنية مشتركة مع كل بلدان القرن الأفريقي الكبير، السودان، جيبوتي، الصومال، إريتريا، جنوب السودان وكينيا.

بالنسبة للغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، تعتبر إثيوبيا الشريك الأكبر في مكافحة الإرهاب في المنطقة؛ خصوصاً في الصومال، ضد حركة الشباب المتطرفة. كما تحتل إثيوبيا أيضاً مكانة معنوية كبيرة لدى الكثيرين في الغرب كونها أقدم بلد مسيحي في المنطقة ولعراقتها الحضارية. ولعبت إثيوبيا دوراً مهماً خلال العقدين الماضيين في عمليات حفظ السلام الدولية وهي تساهم بقوات حفظ سلام في السودان كما إنها مقر كل المفاوضات حول عملية السلام في جنوب السودان. وإثيوبيا هي مقر الاتحاد الأفريقي منذ أن أنُشئت المنظمة أول مرة في عام 1964 تحت مسمى منظمة الوحدة الإفريقية، تترأس منظمة الإيقاد منذ 2008 وهي مقر للعديد من المنظمات الدولية المهمة مثل لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا.

في 2014، تسبب خطة لبلدية أديس أببا لتوسعة العاصمة بضم 1.1 مليون هكتاراً من إقليم أروميا إليها، في انفجار احتجاجات بدأت محدودة وسط طلاب الجامعة لكنها توسعت في نوفمبر 2015 وضمت بجانب طلاب الجامعة، طلاب المدارس الثانوية، العمال، المزارعين وفئات أخرى في الإقليم. استمرت هذه الاحتجاجات على الرغم من أن الحكومة أعلنت في مطلع يناير 2016 عن تجميد خطة توسعة العاصمة، فقد تبنى المحتجون شعارات جديدة. واندلعت احتجاجات أخرى في يوليو من نفس العام في إقليم الأمهرا احتجاجاً على ما اعتبره سكان هذا الإقليم هيمنة للتغراي على السلطة، وعلى ضم منطقة ولقايت إلى إقليم تقراي عند ترسيم حدود الولايات في عقد تسعينات القرن الماضي. كان المتظاهرون في الإقليمين اللذين يقطنهم أكثر من 60% من سكان البلاد يحتجون بجانبهم مظالمهم الخاصة، على الطريقة التي يدار بها الحكم الفيدرالي، سوء توزيع الثروة، الفساد، تزايد عدد العاطلين عن العمل الذي لازم النمو الاقتصادي السريع وسوء توزيع فوائد هذا النمو.

حسب تقارير لبعض منظمات حقوق الإنسان الدولية، قُتل في تلك الاحتجاجات المئات واعتقل بسببها عشرات الآلاف. وبسبب هذه الاحتجاجات أعلنت الحكومة حالة الطوارئ مرتين خلال أقل من عامين. كانت المرة الأولى في أكتوبر 2016 ودامت لعشرة أشهر حيث تم رفعها في أغسطس 2017. تم إعلان حالة الطوارئ الثانية في فبراير 2018، بعد عدة أيام من استقالة رئيس الوزراء، دسالن. خلال الفترة بين الإعلانين (16 شهراً تقريباً) حدث تغيراً مهماً في العلاقات الداخلية للجبهة الحاكمة. بينما تم تمرير الإعلان الأول دون اعتراض في البرلمان، صوت ضد الإعلان الثاني في جلسة البرلمان التي عقدت في 4 مارس 2018، 88 عضواً، امتنع عن التصويت 7 وتغيب عن الجلسة 98 عضواً من عضوية البرلمان التي تبلغ 547 عضواً. ويعتقد على نطاق واسع أن أغلب المصوتين بالضد وأغلب المتغيبين هم من تنظيم الأورمو (تغيب رئيس الوزراء الحالي عن هذه الجلسة التي عقدت قبل اختياره للمنصب). تصويت كل هذا العدد ضد إعلان حالة الطوارئ وتغيب عدد مماثل تقريباً عن جلسة البرلمان كان المؤشر العلني الأول على التمرد على صيغة الديمقراطية المركزية التي ظلت تحكم التحالف الحاكم منذ تأسيسه، وتسلمه السلطة في 1991.

المستقبل... إرث ثقيل وآمال عريضة:

أطلق اختيار رئيس وزراء الجديد موجة من التفاؤل واستقبل الأورمو على وجه الخصوص اختياره بفرح غامر. قام رئيس الوزراء الجديد، بمجرد تنصيبه بجولة في العديد من أقاليم البلاد والتقى بزعماء المعارضة في الداخل، وبعضهم كان قد خرج لتوه من السجن، ودعا المعارضة في الخارج وبعضها يحمل السلاح ضد الحكومة (بدأت الحكومة بالفعل حواراً مع إحدى تلك الجماعات المعارضة في الخارج)، إلى العودة إلى البلاد. كرر رئيس الوزراء في كل تلك اللقاءات، وقبل ذلك في خطاب تنصيبه، التزامه بتحقيق المصالحة الوطنية والإصلاح ومكافحة الفساد مما خفف من التوترات الاثنية والسياسية في البلاد.

غالباً ما سيصطدم رئيس الوزراء في سعيه من أجل التغيير والمصالحة بما يشبه الدولة العميقة التي تشكلت خلال السنوات الـ 27 من حكم الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية والتي ستعمل جاهدة من أجل تقويض جهوده، على الرغم من التأييد السياسي والقاعدة الجماهيرية الواسعة التي يتمتع بها رئيس الوزراء الجديد.

Top
X

Right Click

No Right Click