في ذكرى الإستقلال ماذا جرى وماذا نقول؟
بقلم الأستاذ: سليمان فايد دارشح - كاتب وبـاحث ارترى
بسم الله الرحمن الرحيم
كان الشعب الإرتري يعي جيداً، أن الإستقلال ليس غاية في ذاته، ولكنه وسيلة لحرية الشعب
وبناء مجتمع جديد يقوم علي الديمقراطية والعدالة والمساواة، لذلك كان تصوره وهو في غمرة كفاحه ضد المستعِمر لتحرير بلاده، أنه بمجرد أن يتحقق الاستقلال، وتؤل أمور البلاد إلى أيدي أبنائها ويتولون مسؤولياتها بأنفسهم، سيزول كل أو أكثر ما خلفه المستعمِر فيها من عوامل التأخر المختلفة، وتقام فيها دولة المؤسسات الدستورية القانونية، ويشترك فيها المواطنين في القرار والمراقبة.
ومن أجل ذلك التصور الجميل صعد الشعب من وتيره نضاله، وقدم تضحيات جسام، وبطولات نادره في معارك التحرير، وكانت فرحته يوم 1995/5/24م كبيرة بتحرير كامل التراب الارتري من براثين الاحتلال البغيض، وتعاظمت فرحته يوم إعلان استقلال بلاده رسمياً في 1993/5/24م، بعد النجاح المنقطع النظير لعملية الاستفتاء الذي شاركت فيه بحماس شديد الجماهير الارترية بمختلف اتجاهاتها السياسية والتنظيمية.
وللأسف الشديد تلاشت كل هذه التصورات والآمال عند اعتلاء الجبهة الشعبية سدة الحُكم، حيث أنها اقدمت بشكل سافر وبدون أي وجه حق علي انفراد بالحُكم، وإقصاء شركاء النضال الأخرين، شقت وحدة الصف الوطني، وهذه الممارسات المتنافية مع القيم والمبادئ والأخلاق، هي قمة الغباء، أدت بالنتيجة إلي ضرب الإستقلال عشية إعلانه ضربة موجعة قاتلة.
لذلك سعت الجبهة الشعبية في ذلك الوقت المبكر من عمر الاستقلال لجمع الناس حولها بالترغيب والترهيب، وفوق ذلك كله وجدت في الطائفية جماهيرها الجاهزة، ما أغناها عن جمع الناس بأسلوب التوعية أو اسلوب الإقناع والحوار، أو قبول الأخر، وبالتالي لم يكن في تفكير الجبهة الشعبية في ذلك الوقت، أرساء مبادئ أسس الديمقراطية، ووضع برامج وخطط لتنمية وازدهار البلاد، والعمل علي توطيد الوحدة الوطنية، بل كان همها وتفكيرها منصب في تحقيق مصالح أفرادها الخاصة، والحفاظ علي بقاءها في سدة الحُكم لفترة أطول لتعربد في البلاد.
واليوم.. قد مضت واحد وثلاثون عاماً علي طرد وإجلاء جنود الاحتلال من هذا البلد، ها هو نجده واقفاً في مكانه... لا.. بل تقهقر إلى الوراء، ونكص علي أعقابه؟ ماذا جري؟ وماذا نقول؟.
هل نقول: أن إرتريا من دون العالم التي إستقلت معه وبعده، قد أفلت زمام الحُكم من أيدي أبنائها، وتاهت نظراتهم عن الطريق السليم، وتنكبوا الجادة، وركبوا علي قارب اختلط حابل ركابه بنابلهم، وهو يسير ويتمايل بلا دليل أو ربان، ولا يدري أحد أيان يرسى ويحط رحاله؟؟.
أم نقول: أن أبنائها الذين تولوا الحُكم منذ جلاء المستعمِر وحتى يومنا هذا كانوا يفتقدون الرؤي الصائبة، والأهداف الوطنية الواضحة، والنظريات البينة، والنيات السليمة، والبرامج المحددة، والأذهان المتفتحة، والأفكار النيرة، والنظريات المستقبلية والعزائم الماضية، والعقول المتجرد، والمطامح المتطلعة، والإصرار العنيد من أجل فعل شيء لهذا الوطن الذي نهبوا منه الكثير، ولم يعطوه سوي النذر، ومضو به يتخبطون، ويلعبون بمصائره إلي أن أوصلوه إلي الدمار والخراب في كل بنية من بنياته الأساسية إلي أن تأخر كثيراً وطويلاً عن البلاد التي استقلت معه وبعده، وها هو اليوم يندب الشعب الإرتري حظه العاثر، وخيبة امله في بنيه!!!.
وخطورة ما يحدث ويجري الأن في إرتريا، ليس هو تهديم وتخريب البلد واقتصادها وما يتبع فحسب، بل هو تهديم وتخريب الإنسان نفسه، هذا الإنسان الذي هو أساس البناء، وعماد وباني الاقتصاد، وكل الركائز التي تقوم عليها أي دولة.. خطورة ذلك أن يتهدم ويتخرب هذا الإنسان من الداخل، كما تخرب وتهدم من الخارج، وتتداعي كل معنوياته، وتتحطم إرادته، ويصيب الشلل كل فعالية عنده، ويصبح مجرد شبح يتحرك بلا إرادة أو فعل، مجرد صورة لإنسان كان، لا يدري من أمر نفسه ولا من أمر بلده شيئاً!!
وستمضي الأيام والشهور والسنوات والبلاد في تخلفها وقعودها عن إدراك غيرها من الدول الأخرى، لأنه إنسانها، وبانيها ودافعها للأمام، مقهور محطم المعنويات، لا يمتلك مصيره وقراره، يعيش ليومه، ولا يعرف له غداً أو مستقبل، لأنه مغيب الوعي، فاقد الإرادة، يملأ قلبه الخوف والخورُ والتردد، وغير قادر علي النزول للشارع بقوة وشجاعة وثبات لإسقاط النظام الدكتاتوري المتسلط علي رقبتهُ.
علاوة علي ذلك استمرت الطغمة الحاكمة في أسمرا خلال هذه السنوات العجاف في دربها المخرب، تزل النفوس وتهين الرجولة وتطأطئ الرؤوس، وتدوس الكبرياء، وتجعل الأغلبية من الشعب، حفاة عراة مشردين، فأصبح هذا الشعب اليوم يعيش في أسوا حالته من الحرمان، وقد انعكس ذلك في حياته اليومية والمعيشية، إضافة إلي انعدام كل الخدمات الأساسية المتمثلة في الكهرباء والماء والصحة والتعليم، مع العجز التام من قبل النظام، في توفير سبل الحياة الكريمة، بل قيامه بمحاربة المواطنين في حلهم وترحالهم، والتضييق عليهم في حياتهم اليومية، كأنهم ليسوا مواطني إرترياً، كما عمل النظام إلي تحويل البلاد إلي سجن كبير يئن تحت وطأته المناضلين الشرفاء الأحرار من أبناء إرتريا، كما شهدت البلاد هروباً متزايداً ومستمر من دول الجوار.
وبهذه الممارسات العدوانية المختلفة ساقت الطغمة الحاكمة في أسمرا هذا البلد وناسه المنكودي الحظ إلي مصير مظلم، كثيف الظلام، ولم يشهدوا مثله من قبل، ولا سمعوا بشبيهه قط، حتى في أبشع أيام المحن الذي قيل ضربت البلاد، ومرت بأهلها، وفي كل تاريخهم!!.
وهنا نقول: لهؤلاء الظلمة أين المفر لكم؟
سوف تدور عليكم الدوائر عاجلاً أو أجلاً، لتجدوا أنفسكم ملقاة في مزبلة التاريخ نسياً منسياً، بعد أن تجردتم من كل ما كنتم تنعمون به وتتمرغون فيه.. ألا تدركون أيها الجهلة، بأن الليالي من الزمن حبالي مثقلات يلدن كل عجينة، وبأن الدهر دولاب يدور، وإن ما سرق تحت جنح ظلام الليل، لأبد أن يعود لأصحابه الشرعيين، عندما يبزغ الفجر، وتتضح الرؤية، ويظهر الحق الأبلج، بعد تغيب طال، وتعتيم استطال.
ويبقي القول: أيها الهقدف الطائفي اللعين المسخوط.. يئس اليوم الذي حطك ضيفاً ثقيلاً علي هذا البلد المبارك المعطاء.. وعلي هذا الشعب الكريم المتسامح الطيب.. يا سارق القوت من أفواه المحرومين والجوعى.. يا ناهب العافية من جسوم المرضى.. يا مزعزع الأمن والأمان والاستقرار والسلام.. يا زارع الفتن والأحقاد والطائفية.. يا ممزق الوحدة الوطنية، فالتسقط اليوم قبل الغد، لترتاح النفوس، وتهدأ العواطف، وتجمع الزنود لتبني وترمم ما هدمته، وتعمر ما خربته.