ملكية الأرآضي في إريتريا بين العرف وتطبيق القانون
بقلم الأستاذ:إبراهيم إدريس - كاتب وناشط حقوقي وسياسي - لوزان - سويسرا
ظلت ملكية الأرآضي في إريتريا، ثابتة منذ تاريخ سحيق موغل في القدم، ومن بداية ظهور كياناتها
الأولى العشائرية والتوتمية الزراعية الرعوية، والمتوارثة أبا" عن جد عبر سلآلاتها البشرية المختلفة ومكوناتها الإجتماعية التقليدية.
حيث أن أساس ملكية الأرض في إريتريا تاريخيا" يرجع إلي القبيلة والقرية ومجموع التكوينات الإثنية المختلفة، والأرض بهذه الوضعية تعبر عن كيان الإنسان الإريتري وهويته منذ نشأته، لإرتباطه الوثيق بها، فهي ترفده بالعيش الكريم وأسباب الحياة، وكانت تحكم الأرض بالأعراف المحلية القديمة والتقاليد الأهلية، فهى تقوم مقام القانون في فض المنازعات بشأن ملكية الأرآضي، وقد تواضعت تلك المجموعات القبلية الأهلية علي هذه الأعراف ومنها علي سبيل المثال، ما يعرف (بالرستي) ويعني الملكية الفردية و(الديسا) ويعبر عن الملكية الجماعية حيث يتقاسم الأهالي ريع الأرض بعد كل سبع سنوات فيما بينهم، دون أن يكون هناك أي إحتكاكات أو نزاعات بشأنها.
وهذه الأعراف والتقاليد المتوارثة كانت بمثابة القوانين غير المكتوبة، وتستمد مشروعيتها من الضمير الشعبي والأخلاقي، لأعيان ووجهاء الأدارات الأهلية التقليدية لمختلف القبائل الإريترية، بوصفها حكومات محلية تعنى بكافة الشؤون الإجتماعية والإقتصادية والعدلية و مقومات الإستقرار وبقية أمور حياتهم الأخرى.
وقد توالى علي دولة إريتريا الإستعمار البرتغالي والتركي المصري والإيطالي والإنجليزي والإثيوبي، وقد أبقى هذا الإستعمار علي ملكية الأرآضي كما هي عليه وفقا" لتلك الأعراف والتقاليد الأهلية، لفهم الإستعمار الجيد لقدسية هذه الأعراف الأهلية التي تحكم الأرض، ولم يتدخل فيها بصورة مباشرة، وعلاقته بها كانت فوقية في حدود الإستفادة القصوى من إنتاجها الزراعي والحيواني، وبما يضمن مصالحه ولايضر بإنسانها، لأن إستراتيجية الإستعمار في إدارة الشأن الداخلي للمستعمرة كانت تتجنب التدخل المباشر في ملكيات الأهالي التاريخية للأرض، معتمدة" علي أعرافهم وتقاليدهم التي تحكمها.
حيث أن تغيير ملكية تلك الأرآضي والإستيلاء عليها من شأنه أن يألب الشعب علي الإستعمار و يعجل بمقاومته، لذلك كان يتعايش بذكاء سياسي مع الأوضاع الموروثة والمستقرة، فيما عدا سياسات الإستعمار الإثيوبي تجاه الأرض، حيث كان يستهدف الأرآضي الإريترية الخصبة، وقد مارس الأمبراطور هيلي سلاسي سياسة (الأرض المحروقة) وقام بقذف المدن والقرى بالطيران والقنابل الحارقة علي الأرآضي الزراعية و الحيوانات في مراعيها، لتفريغ الأرض من قاطنيها وشهدت تلك الأيام الحالكة أكبر حالة لجؤ ونزوح في أفريقيا، مما عجل بإشعال فتيل المقاومة وتفجير الثورة الشعبية الباسلة لجبهة التحرير الإريترية بقيادة الشهيد البطل حامد إدريس عواتي وصحبه الميامين في مطلع ستينات القرن القرن الماضي.
وإمتدادا" لهذا النهج الإستعماري الإثيوبي القمعي البغيض وسياساته التي إستهدفت الشعب الإريتري، بإتباع سياسة الأرض المحروقة ومن بعدها عملية (النجم الأحمر) بواسطة منقستو هيلي ماريام، التي قضت علي الأخضر واليابس،ظنا" منهم في التعاطي مع مفهوم الأرض في إريتريا، إمكانية القضاء علي الشعب وكسر إرادته وإخماد حريق ثورته إلي الأبد، وضم الأرض بالكلية إلي إثيوبيا وإعتبار إريتريا إقليما" متمردا" تم ترويضه ودخوله بيت الطاعة في الإمبراطورية الإثيوبية العجوز.
وإمتدادا" لذات السياسات الإستعمارية البائسة، لقد تفتقت ذهنية الملاريا الدماغية للدكتاتور أسياس أفوريقي، وإستلهم من التراث الإستعماري الإثيوبي فظائع الكماندوس والطير سراويت في قهر وإحتقار الشعب الإريتري، وسار علي دربهم، بضرب ثوابته الإجتماعية والإقتصادية وتجريده من كرامته وحريته في التملك والتنقل وتمسكه بأرضه، بإتباع ذات السياسات الإستعمارية القاضية بتفريغ الأرآضي من سكانها الأصليين، وزآيد حتى علي الإستعمار الإثيوبي وتفوق عليه، بإستهدافه المباشر للأرآضي والإستيلاء عليها بالتغيير الديمغرافي المنظم في التركيبة السكانية، بعمليات التجريف وهدم المنازل والتهجير والتشريد للسكان الأصليين، و بإجراء عمليات الإحلال والإبدال لفاقدي النضال والكفاح المسلح من عضويته في الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا وإعادة توطينهم في أرآضي الغير في منطقة المنخفضات والقاش بركه الخصبة والغنية بمصادر المياه الموسمية و المياه الجوفية الكبيرة، وبناء الكنائس فيها، بحجج التنمية الإقتصادية والمزاعم الكذوبة والزآئفة، وحتى يضفي علي هذه الإنتهاكات الشرعية القانونية أصدر قانون الأرآضي لسنة 1994، حيث تتناول المادة (58) في الفقرة (1) جاء فيها بأن الأرآضي ملك للدولة، وقد جاء في الفقرة (2) من القانون المشار إليه أن حق الإنتفاع يتم بموافقة الحكومة فقط، أي إن الحكومة هي صاحبة الحق بالتصرف في الأرآضي بكافة أنواع التصرفات الناقلة للملكية كالبيع والرهن والبدل والمقايضة والإجارة.
وبناءا" علي هذا القانون تم تطبيقه وتنفيذه علي أرض الواقع بالمخالفة للقانون نفسه وبالإضافة لمخالفة ما إستقرت عليه الأوضاع والأعراف والثوابت الإجتماعية المشار إليها آنفا"، حيث تم تأميم ونزع جميع الأرآضي الزراعية الخصبة من ملاكها الأصليين ومنحها (للكبساويين) من سكان المرتفعات بدون وجه حق، كوعد (بلفور) الشهير في أرض فلسطين بإقامة وطن لليهود والصهاينة، بإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
وتنفيذا" لهذا القانون سئ السمعة، قامت العصابة الحاكمة في إريتريا بمصاردة الأرآضي وتهجير غالبية سكانها، وخاصة" في المنطقة الزراعية الخصبة في المنخفضات الشرقية والغربية والقاش بركة والساحل ودنكاليا، وتم تسليمها للمستوطنيين الجدد من الوافدين من المرتفعات الإريترية، لإقامة مشاريع زراعية فيها، لأن إصدار القانون نفسه كان لهذا المخطط وأن الغرض منه مكشوف ومفضوح، يهدف إلي إثارة النعرات القبلية وتأجيج الصراع الإثني والجهوي وخلق فوارق طبقية مستفزة بين مكونات الشعب الإريتري، ليسود في الحكم إعتمادا" علي هذه التناقضات المصنوعة، وقد قام النظام الحاكم بعمليات التمويل لهذه الفئات من أتباعه من خزانة الدولة ومن قوت الشعب، بهدف التمكين لتلك الفئات بصورة إنتقائية تنفيذا" للمشروع الطائفي العنصري، تماما" كالذي يحدث في الأرآضي الفلسطينية بإقامة المستوطنات للصهاينة وتجريف الأرآضي ومزارع الزيتون وطرد سكانها الأصليين...
وبالنظر للمفهوم الصحيح والتطبيق السليم للفقرة التي نصت علي: (أن الأرآضي ملك للدولة)، هذا القول حق أريد به باطلا".
إن هذا النص من الناحية القانونية البحته سليم، وقد أخذت به عدة تشريعات قانونية مشابهة في المنطقة العربية وخاصة قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984 المستمدة معظم مواده من القانون الأردني وغيرها من الدول الإفريقية كذلك.
وتعني هذه الفقرة بسط سلطان الدولة علي كافة أرآضيها وثرواتها تحت الأرض ومافوقها كالثروات الغابية والمياه الجوفية والمعادن والحيوانات البرية والسواحل والثروات البحرية في مياهيها الإقليمية، وذلك وفقا" لمفهوم الدولة طبقا" للقانون الدولي الذي تتكون منه الدولة من وجود الأرض والشعب والسلطة الحاكمة، وتمثل الأرض أحد أهم أضلاع هذا المثلث، حيث أن التوصيف القانوني لملكية الدولة للأرض، هي ملكية حكمية لأغراض التنظيم والتقنين الرسمي والقانوني لملكية الأفراد والجماعات وحقوقهم العينية علي الأرض، دون إجراء أي تغييرات جديدة من شأنها زعزعت الأوضاع القآئمة ونسف ما إستقرت عليه تلك الملكيات، والفصل في المنازعات التي تنشأ بسبب النزاع في الملكية وتفصل فيه السلطة القضائية المختصة، إستنادا" علي الأعراف السائدة والتقاليد الإجتماعية للأهالي، وكافة مستندات الأثبات العتيقة وصكوك حجية الملكية.
غير أن النظام الحاكم ظل سادرا" في غيه، مغترا" ببريق السلطة وشهوة الحكم، علي غير هدي القانون والعرف والأخلاق، وفي ظل إقصاء أصحاب الأرض بمنعهم من حق العودة إلي أرآضهم وغياب الوعي الجمعي بالحقوق المتعلقة بملكية الأرآضي وأهميتها والتطبيق المنحرف للقانون وإستغلاله في غياب دولة القانون الراعية للحقوق الأساسية، وفي غياب العدالة الإجتماعية وكافة الأجهزة العدلية ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والنقابات والصحافة الحرة، قد إبتلع النظام الحاكم كافة الأرآضي تنفيذا" لمشروعه العنصري الطائفي، وإستهدافه المنظم في إفقار السواد الأعظم من السكان في منطقة المنخفضات وقاش بركه وغمط حقوقهم التاريخية في الأرض، ولم يسر تنفيذ هذا القانون الجديد في المرتفعات (الكبسا) الأرآضي في حماسين وسراي وأكلى قوزاي، حيث تم الإبقاء علي أملاكهم كما كانت عليه في السابق، يحكمها القانون العرفي القديم.
إن إستمرار سياسات النظام الحاكم في الإستيلاء علي الأرآضي ونهبها بموجب تلك القوانين الجائرة وفرض سياسة الأمر الواقع علي الأرض في مصادرتها وتهجير أصحابها والتوطين القسري فيها، لا يضفي عليها الشرعية القانونية والأخلاقية، وأنها تخالف القانون الدولي والإتفاقيات والمعاهدات الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي تنتمي دولة إريتريا إلي عضويتها، بالتالي النظام الحاكم ملزم بتلك الإتفاقيات والمعاهدات والقرارات.
وأهمها إتفاقية لاهاي لسنة 1907، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، وإتفاقية جنيف لسنة 1949، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان لسنة 1979، الذي يستثني الملكيات القديمة.
لكن عزاء الشعب الإريتري، في إستعادة حقوقه المسلوبة لا سقف له، وقد سبق أن إنتفض لكرامتة وهويته وطرد الإستعمار الإثيوبي بحول الله وقوته، ثم بإرادته قام بتفجير ثورته المجيدة ونال إستقلاله، ولن يعجزه هذا الطاغية الفاشستي ونظامه العنصري.