شيء من التاريخ غير الموثق: المعهد الديني الإسلامي بأغوردات - الحلقة الأولى
بقلم الأستاذ: الحسين علي كرار - كاتب ارترى
لمحة تاريخية عن تأسيس المعهد 1962م
تعتبر مدينة أغوردات من المدن ذات الأنهر الموسمية، التي يقسمها نهر بركة إلي قسمين،
وإن كانت المدينة في معظمها تقع علي شطره الجنوبي وتتخللها أشجار الدوم والبساتين ابتداءً من قارعوبل ومرورا بنهر ياقي الرافد، ومشروع تكرريت الكبير، حيث كانت الاستثمارات في البساتين كبيرة وخاصة مشاريع الإيطاليين، التي كان يزرع فيها الموز والطماطم والفلفل الأخضر والتي كانت تعبأ في المدينة ثم تصدر إلي الدول الأوروبية، وكذلك الثروة الحيوانية وخاصة الأبقار التي كانت تباع في الزريبة والتي كانت تشكل مع انشطة أخرى عصب الحياة الاقتصادية للمدينة، وكانت شركة أنكودي للمعلبات العميل الأكبر، وكانت الابل تُسوَّق في الزريبة ثم تصدر إلي السودان عن طريق الوكيل خالد علي قيد لصالح علي أزرق في كسلا، بالإضافة إلي الحركة التجارية النشطة، ففي أثناء النهار كانت تعج المدينة بالحركة بسبب المتسوقين القادمين من الضواحي وبعد العصر كانت تقل الحركة برجوع هؤلاء إلي قراهم، وفي يوم الأحد كانت تزدحم شوارعها بعمال السواقي الذين يأتون لقضاء حوائجهم، وكان معظم تجار الملبوسات والمواد الغذائية من الجالية اليمنية الكريمة التي كانت جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، و كان هناك من يعمل من أبناء المدينة بالتجارة كالسادة حامد شريف الذي كان مورد السكر الأثيوبي (ونجي) وقتلته أثيوبيا يوم الأحد المشئوم، وعبدالله مريقاي وإسماعيل الأزهري وإبراهيم كلفي وأبوبكر حجاج وغيرهم من التجار.
وكذلك كانت هناك عائلات متخصصة في المهن. ففي سوق الصاغة، كانت اسرة كلٌ من آل صائغ، آل جابر، آل ليمان، آل شنان، وآل شهابي، وفي سوق المواشي آل جباداي، وآل ركا، والدلالين الوسطاء حيث كانت الابقار تساق اسبوعيا الى سوق اسمرا.
وهناك أسواق متخصصة، سوق الخضار واللحوم، واسكدورية الخردوات، وسوق السمن والتجليد والحدادة وسوق العيش وسوق البروش، بالإضافة لأشهر المطاعم يتقدمها مطعم الشيباني وأشهر فوّال حسين القودري، ومن المقاهي المشهورة قهوة آل قشاري التي كانت تفتح علي جامع الأرواح، كما كان يفتح عليه ايضا مكتب شيخ السوق عثمان همد ومكتب البلدية الذي كانت تستخرج منه البطاقات الشخصية، وهي ساحة واسعة رملية تتوسط المدينة وكانت مصلي العيد وكان ملحها وطعمها الظريف (آدم بلمات) المصاب بالنفسيات، وفي صباح كل يوم يجلس تحت شجر النيم يشاكس المارة ويشاكسونه، وقد سميت هذه الساحة بجامع الأرواح، حيث يجتمع فيها الناس في المساء ويجلسون علي الرمال في حلقات للدردشة وحل بعض المشاكل الاجتماعية ومخالصات المبالغ في عمليات البيع والشراء التي تمت بالنهار في سوق الزريبة وغيرها، وكان في المدينة كذلك مشايخ يثرون الحياة الاجتماعية والدينية بمواعظهم كالشيخ حامد عبد الهادي مفتش التعليم وأبو الحسن محمد صالح فكاك أمين مستودع التعليم، والشيخ الحسين عرطا إمام المسجد وصاحب الدروس المنتظمة بعد صلاة العصر والأستاذ عبد القادر خليفة والقاضي الأمين عثمان (المفتي حاليا) الذي سبقه القاضي إدريس والشيخ حاج علي وكان شيخا متجولا ومن أصول دولة النيجر.
هكذا كانت مدينة أغوردات جاهزة ماديا وذهنيا لإنشاء المعهد الديني وتحمّل تكاليفه، ففي عام 1959 عندما تم بناء المسجد كانت هناك خلوة لقراءة القرءان في المسجد بإدارة الشيخ محمد إبراهيم المؤذن، وفي مرحلة تالية اتخذ من المسجد الأستاذ محمد عبدالله عثمان أول مركز لتعليم الكبار ولهذا كان الفصل الأول في المعهد عند البداية من الأعمار الكبيرة ولكن ما تلاه من فصول كان العد بالتنازل حيث أصبح الطلاب من الأطفال، والأستاذ محمد عبدالله هو خريج مدرسة كسلا الثانوية الأهلية ومن سكان المدينة وأصبح فيما بعد أحد المعلمين في المعهد ثم انتقل بتلامذته من المسجد إلي منزل محمد قاضي وهو خاله وخال آل حميدان وقد تبرع محمد قاضي بقطعة أرض كانت قريبة من المسجد كوقف تم بناء معهد الطالبات فوقها في مرحلة لاحقة، ومن هذا المنزل انتقلت سبورة المعهد إلي مبانيه الحديثة، وعندما وصل الشيخ عبدالله ازوز من أم درمان بعد أن أكمل دراسته في معهد أم درمان العلمي الذي تغني به شعراء السودان وأصبح في ما بعد جامعة أم درمان الإسلامية، كانت مدينة أغوردات جاهزة لاستقباله لتأسيس المعهد الديني الإسلامي بها وتحمّل نفقات البناء وتوفير المعلمين علي نفقة المحسنين حيث كانت السيولة متوفرة بقوة حركة سوق المواشي وسوق الخضروات والفواكه ونشاط الحركة التجارية، وكذلك الأوقاف الكثيرة التي كانت للمسجد ودخلها الزائد عن حاجته فقد بلغت وقتها أكثر من ثلاثين بابا (دكان)، فهي كانت تغطي رواتب العاملين في المسجد وكذلك معلمي المعهد فيما بعد وقد زاد عدد الأوقاف بكثير.
استقبلت مدينة أغوردات بأعيانها الشيخ عبدالله أزوز، نذكر منهم الشيخ محمد أكد هرودة وكان محافظ المدينة والشيخ عثمان عبد الرحمن شفراي والشيخ دبساي قرزا والشيخ عبد الرقيب محمد صادق، وقد تزوج الشيخ عبدالله من ابنة الشيخ عبد الرقيب، إذ كانت النفوس صافية وكان الحب في الدين لوجه الله يملأ القلوب فنجد هنا أن الشيخ عبد الرقيب كان صوفيا وخليفة الطريقة الختمية في أغوردات بينما كان الشيخ عبدالله أزوز محسوبا علي السلفية، لأن الناس كانوا يقبلون بعضهم دون تكفير هذا أو ذاك، فقد بدأ الشيخ عبدالله التدريس في السنة الأولي في داخل المسجد الكبير ومنزل محمد القاضي مع الأستاذ محمد عبدالله، وكانت هناك قطعتان من الأرض غرب المسجد إحداهما مملوكة لأحد المحسنين اليمنيين وكان يسكنها مؤذن المسجد الشيخ محمد إبراهيم فتبرع بها المحسن لبناء المعهد، والأخرى كانت مملوكة للشيخ محمد القاضي كما تم ذكره - فتبرع بها كذلك للمعهد وفيما بعد بني فوقها معهد البنات، والذي كان يديره كذلك الشيخ عبدالله وهو مكون من أربعة فصول ومكاتب المعلمات والمنافع الحديثة والكفتيريا، وهكذا بدأت اللبنة الأولي لهذا المعهد الذي ترك أثرا كبيرا كما سنري في تلك المرحلة الذهبية القصيرة التي تعطلت بعد قيام الثورة ووصول الطائفيون للحكم، والمعلومات هنا للتوثيق، فقد تم جمعها من أشخاص عاشوا تلك المرحلة أو كانوا طلابا ومنهم الأخ أبو بكر حجاج والشيح أحمد محمد إبراهيم مؤذن المسجد ومحمد صالح عثمان همد ويوسف أحمد ومختار الحسين والقاضي حاج احمد عثمان الذي كان زميل دراسة للشيخ عبدالله ازوز في معهد أم درمان العلمي.
لقد تم تأسيس المعهد في العام 1962م وتم بناءه بغرف حديثة واسعة تتكون من أربعة فصول ومكتب للمعلمين ومكتب لناظر المعهد ومنافع حديثة وكافتيريا كان يديرها السيد ياسين صالح قشاري، وساحة كبيرة في الوسط تم بناء عريشة كبيرة فوقها كخلوة لتعليم القرءان الكريم، وكان بأطراف الجدران جداول زينة من الزهور، وقد تم اختيار المنهج الدراسي للتعليم حسب منهج معهد أم درمان العلمي لأن المعلمين كانوا من خريجي ذلك المعهد، وهم الأساتذة الشيخ عبدالله أزوز والحسن عثمان محمد وحامد محمد حامد واحمد محمد نور والأستاذ محمد عبدلله عثمان خريج مدرسة كسلا الثانوية الأهلية، وكان للشيخ عبدالله صلة بمعهد أم درمان لتزويده بكتب المنهج الدراسي سنويا، و الطالب في بداية كل عام كان يدفع مبلغ عشرة دولار أثيوبي - وقتها العملة الأثيوبية كانت بالدولار - مقابل صرف الكتب، ثم تعاد الكتب إلي المعهد في نهاية العام الدراسي وهذا المبلغ كذلك كان يدفعه شهريا طالب القرءان الكريم في الخلوة، ويقول القاضي احمد عثمان الذي درس في معهد أم درمان العلمي كنا كوكبة طلبة منسجمة في ذلك الوقت، هو والشيخ عبدالله ازوز، وإبراهيم أشقر، وبدوي محمد طاهر، ومحمد صالح أدم أزماتي الذي كان في القاهرة ثم انتقل إلي معهد أم درمان، والحسن عثمان محمد، وحامد محمد حامد، وفيما بعد احمد محمد نور، كانوا جميعا رفاق في الدراسة. كان بعضهم يسكن في داخلية المعهد والبعض الآخر كان يسكن في مسجد عبد العزيز بأم درمان ومنهم الشيخ عبدالله، وكان محمد صالح أدم أزماتي يسكن في وادي سيدنا، وهؤلاء فيما بعد منهم من أصبح قاضيا أو واعظاً او معلماً.
هكذا كان المعهد يضج بمعلمين أكفاء مستقرين مادياً ومعنوياً، وكان المقرئ في الخلوة التابعة للمعهد الشيخ محمود إبراهيم إغراي، ثم تركها وأصبح مؤذنا في مسجد كسلا الكبير وقد خلفه الشيخ محمد عبدالله الذي قتلته أثيوبيا في مجزرة أغوردات داخل المعهد وكلاهما كانا من حفظة القرءان الكريم في القرى السودانية حول أم درمان ”ود أب صالح“ و ”أم ضواً بان“. لهذا كان عطاء المعهد قويا، وكانت الخلوة رافدًا مهماً للمعهد تزوده بالطلاب لأن من يقبلون فيه كانوا ممن يعرفون الكتابة والقراءة.
عند تأسيس المعهد كان الطلاب يجلسون علي البروش في السنوات الأربعة الأولي، وفي السنة الخامسة من تأسيسه قام الطلاب بتشكيل لجنة من الفصول الأربعة وقاموا بتبرعات وفرضوا علي كل طالب مبلغ عشرة دولار وبهذه التبرعات تم شراء كنب الجلوس لكل الفصول ومكتب المعلم في الفصل بالإضافة إلي مكتبة (دولاب) خاصة بالطلبة كانت توضع فيها الكتب الثقافية كقصص الأنبياء وقصص الصحابة وغيرها حيث كانت متوفرة بكميات مقدرة، وكان يتم استعارة الكتاب بقرش واحد لمدة أسبوع، وكانت للمعهد أنشطة ثقافية، فمساء كل خميس بعد صلاة المغرب كان الشيخ عبدالله يلقي محاضرة في موضوع ديني معين، ومساء كل أربعاء بعد صلاة العصر كانت تقام ندوة خطابية لتدريب الطلاب وكان يرأسها الأستاذ محمد عبدالله عثمان رئيس اللجنة الثقافية وكان خطيبا وبليغا في المناسبات الإسلامية، وصاحب خط جميل علي السبورة، وكان متخصصا في كتابة إعلانات المعهد، فيحضّر من يريد المشاركة من الطلاب خطابه ويلقيه، وكان الأستاذ يعطي ملاحظاته بعد ذلك، ولهذا في الاحتفالات العامة وفي المناسبات كان يقدم الطلاب مشاركاتهم دون خوف وبجرأة في الإلقاء والتمثيل.
كان الشيخ عبدالله متأثرا كثيرا بالطلبة الارتريين الذين كانوا يسافرون من السودان الى مصر سيرا على الأقدام لمواصلة تعليمهم في الأزهر الشريف، وقد حكى لي أخونا حسن شيخ في جدة في الثمانينات كيف كانت معاناتهم وهم في طريقهم الى مصر حيث لدغه ثعبان في الطريق وورمت قدمه وتعذر أن يواصل معهم المسير، فجاءوا إلي قرية مصرية في الطريق، وشرحوا لهم ظروفهم وكانوا محظوظين كما قال، كان بينهم رجل مهاجر من الرشايدة، فعرفهم وعرف أهله فقال “لهم أعرف والده وأسرته فأهلا بكم، أنتم واصلوا سيركم، سأعالجه وستجدونه بعد يومين معكم”، ذكرت هذا الحدث فقط لتعرف الأجيال كيف كان هؤلاء يغامرون بأنفسهم عن طريق الصحراء بحثا عن العلم، هربا من نظام الاستعمار الأثيوبي وكرها أن يدرسوا لغته الأمهرية التي فرضها عليهم، وبعد ذلك ساهموا بقوة في تأسيس الثورة الارترية التي لم ينعموا بنعيمها ودفنوا خارج الوطن وقلوبهم مملوءة بدمل القهر.
وقد وصل إلى القاهرة طالب المعهد محمد صالح عمر عن هذا الطريق وأرسل من هناك بصورة شخصية وهو واقف على شاطئ النيل إلي الشيخ عبدالله بفرحة وصوله وقبوله في الأزهر الشريف، ففرح بهذه الصورة فرحا شديدا وعرض الخطاب والصورة على طلاب الفصل الثالث والرابع وبكل افتخار يبعث في النفوس الحيوية والبحث عن طلب العلم أينما كان، فذكرتنا هذه الصورة ببيت من الشعر لحافظ إبراهيم.
نهر تبارك مائه فكأنه الروح التي تحيا بها الأجسام
فالذكري والحب والطرب الشديد من الطلبة لمصر لم يكن لنهر النيل بل كان الحب لمصر عبد الناصر التي كانت تشعل الروح الثورية في أفريقيا، وبالأزهر الشريف الذي كان رمز العلم للعالم الإسلامي.
كان الشيخ عبدالله يدرّس مادة الفقه للفصل الثالث والرابع وكذلك حديث الأربعين بعد الحادية عشر وكان يصيب الطلاب شيء من الجوع والملل والكسل لذا كان يأتي بالنكت التنشيطية ويُضحك الطلاب على الرغم من أنه كان صارما وقليلا ما كان يضحك مع الطلاب.
كان شخصا قويا في الإدارة والحديث وكان مهابا ومحبوبا في المجتمع لما كان يقدمه من وعظ وإرشاد ونصح وقد انتقد الجواسيس بشجاعة نادرة بحضور محافظ المديرية إمبابي هبتي بعد صلاة العيد في عام 1966م كما انتقد المراغنة وآل الشيخ مصطفي علي ملاحظات كان يذكرها في وعظه في المسجد، وكانوا يقبلون وعظه بنفس رحبة، لأنه كان رجل دين صادق، وكانوا أهل دين صادقين، كما انه لم يترك جبهة التحرير المهابة وانتقدها من أعلي منبر الجامع لبعض التجاوزات التي كانت ترتكبها، فكان له الكثير من المحبين والمعجبين الذين يزورونه في المكتب بشكل يومي، ولم يُضعف عزيمته القوية مرض السكري الذي كان يعاني منه ويسبب له الفتور الشديد.
وهنا اورد واقعة تدل على ادراته القوية للمعهد، كانت خلوة القرءان الكريم في المعهد أشهر خلوة في أغوردات، وفي هذه الخلوة اختفى اللوح والدواية والشرّافة والعجوة، فقد كانت القراءة من المصاحف، وكانت الخلوة مكتظة بالطلاب، ومن بينهم ابنان للسيد محمد عثمان الميرغني، يرافقهما طفلان آخران (حيران) يحملان السجاد وزمزمية الماء، واستمر الموضوع، فاتصل الشيخ عبدالله بالميرغني فلما حضر أخبره إن ابنيه يجلسان علي سجاد عجمي لم يجلس عليه شيخهما الحافظ للقرءان، وأنتم أهل الدين والعلم فهل يعقل ذلك؟ أما زمزمية الماء والمرافقان فلا مانع في ذلك، فتقبل الميرغني هذا، وعندما سُئل لماذا قبل بالحيران، قال الطفلان مستفيدان بقراءة القرءان حيث يدرسان على حساب الميرغني فإن منعهم سيحرمهم من القراءة.
كما رفض إدخال اللغة الإنجليزية في المعهد كلغة علم حديثة بحجة أن دخولها سيعطي الأثيوبيين فرصة لإدخال لغتهم الأمهرية في مناهج المعهد وهو أمر لم يكن مقبولا.
اللهم أغفر وأرحم لمن توفى منهم جميعا وتقبلهم قبولا حسنا، وأنزلهم نزل الصديقين في جنات النعيم، وعافي وأشفي ووفق من كان منهم حيا لعمل ترضاه يا رب العالمين.
تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة