المعاق الذي بصق في وجه الجلاد
بقلم الإعلامي الأستاذ: إبراهيم حالي - صحفي وكاتب إرتري
ما أعتي امبراطورية الليل فهي متسلطة ككل الامبراطوريات البشرية، لكنها تختلف في أن جيوشها لا تتهاون
في اداء مهامها المتمثلة في التنكيل بأبناء النهار الذين يتحولون الي حملان وديعة أمام جبروتها، وككل المؤسسات الفاسدة للامبراطوريات الظالمة، يمكن للانسان أن يدفع ثمن ما تعتقده انتهاكا لحرمات أمنها طالما تشاطره العيش في هذه البسيطة.
إدريس سعيد أبعري: نص من مجموعته القصصية - عظام من خزف.
شخصية ادريس الودودة كانت تختلف عن بقية المقاتلين الذين عرفتهم في زمن مبكر من عمري في منزلنا أو من التقيتهم في مكاتب الجبهة الشعبية في بورتسودان. الا أن ابعري كان مختلفاً عنهم تحس بالالفة والامان معه من أول لقاء، كان يجسد شخصية المقاتل الرؤوف الذي التحق بالثورة من أجل رفع الظلم والمعاناة عن شعبه، ودوماً كان يبعث الامل والتفاؤل في كل من يلتقيه من اللاجئين الاريتريين هنالك. بإبتسامته وحديثه السلس كان طيب الكلم وجميل المعشر كما كان يتمتع بروح مرحة وظل خفيف.
أبحثوا عن معني الوطن وإستحقاقاته وحقوقه وواجباته ؛تجدوا ادريس أبعري حاضراً بمقالاته.
وأبحثوا عن المقاتل المؤمن والمؤتمن علي قضيته وعلي شعبه يأتيك ادريس ابعري بخدماته وتصديه لقضايا شعبه في بلاد اللجوء رغم إعاقته.
وابحثوا عن المفكر الذي لم تضعه الظروف والعواطف في طريق النضال والالتحاق بالثورة انما الفكر هو من كان بوصلته نحو أهدافه وتضحياته وكان يدرك محطات وصوله وثمار نضالاته هكذا كان ابعري، فحضوره طاغ في كل المناحي.
وعندما ضلت بوصلة ا لثورة طريقها بعد التحرير وقف رافضاً الادلجة والباس الهوية ثوب واحد وإجبارها للتحدث بلسان واحد فكان رافضاً لهذا المسخ المشوه للهوية، وشجاعاً في طرح روآه ومواقفه بكل شجاعة، حيث تنحي ابعري الودود والحبوب واللطيف تاركاً الساحة والمساحة ل أبعري المقاتل الشرس والمفكر الذي لا يساوم في ثوابته ومبادئه ولا يهادن في استحقاقات الوطن، فإنتفض واقفاً شامخاً كشموخ أدال، بنضاله بإعاقته بمقالاته التي ناقش فيها المحرمات بموضوعية وحجج وبراهين منطقية وأكاديمية.
وبصق في وجه الجلاد ومشروعه الاقصائي، لم تغريه الوجاهة ولا المكاتب والمناصب والحياة الرغدة فإختار الخيار الاصعب والصدام المباشر والوقوف بشراسة والثبات علي مبادئه التي افني زهرة شبابه فيها ودفع فيها أغلي ما يملك من جسده النحيل ًسالت دماءه فيها وتهشمت عظامه حتي لازمته الاعاقة الدائمة لكنها لم تؤثر لا علي نفسيته ولا علي مستوي تفكيره ولم بتزحزح قيد أنملة عن مواقفه المبدئية ولا ثوابته الوطنية وإختار التحدي وقول كلمة الحق بدلاً المهادنة أوالمداهنة وهذا كان ديدنه.
رغم إخفاءه القسري لازال أبعري شامخاً تعلو قامته قامة جلاده، وبالتأكيد سيدون إسمه في أنصع صفحات التاريخ، في الوقت الذي سيرمي فيه الجلاد يوماً ما في مزابلها.
ادريس ابعري ذاك المعوق العملاق الذي يمثل ويجسد الانسان في حريته وإيمانه ومواقفه الثابتة ومبادئه التي لم تتبدل أبداً، والذي لم تجرفه العواطف انما كان يعي تماماً وبشكل فكري ومؤسس أهداف نضاله والنتائج التي كان يريد الوصول اليها.
من يعرف ابعري وبشاشته ضحكته حد تجعد خدوده التي ترسم خطوطاً مثل شعاع الشمس في طرفي عينيه الغائرتين لحظتها لن يجد الا إنسانا صادقاً صدوقاً متصالحاً مع نفسه والآخرين متسقاً مع أهدافه ومبادئه.
ودوماً عندما كنت التقيه، ويخاطبني بوجه منشرح وضاحك كعادته مع الكل قائلاً ازيك حالي (كفو هليكا امكا كفو هليت) التي لم تبارح ذكرياتي البتة، وسألني في لقاء لنا عندما كان في الشؤون القنصلية بضاحية (كمسارياتو حماسين) في تسعينات القرن الماضي في أسمرا أين أنت وماذا تفعل؟
فقلت له اني التحقت بأمانة الاعلام، اتسعت ضحكته وتجعدت خدوده أكثر وضاقت حدقات عينه التي كانت تشع فرحاً وغبطة بالخبر، وكأن لسان حاله يقول هذا ما ناضلنا من أجله، وهاهي الاجيال تتسلم مهامها.
فقال لي شد حيلك الوطن يحتاج الي بناء وهذه هي مهامكم.
وسألني عن الوالدة ؟ فقلت له انها في اغردات،فمازحني علي طريقة أهلنا في سمهر (غربية هليت) ثم افجر ضاحكاً وقهقه بأعلي صوته حتي ظهرت اسنانه كلها واختفت عينيه ولم يبان منها الا دموع السعادة والانشراح، كان هذا بالطبع قبل أن يعلم اخفاءه القسري وقبل أن يغدر به وبزملائه الدكتاتور الجبان الذي يهاب معوقي الحرب أكثر من ما يخاف من معوقي الفكر والايمان، ومجزرة ماي حبار خير دليل وبرهان.
ابعري لم تقعده الاعاقة من مواصلة النضال البتة وكان نبراساً ومثالاً حياً لمن التحقوا بالثورة في ثمانينات القرن الماضي من مدينة بورتسودان السودانية، رغم إعاقته كان ينتقل بشكل ماكوكي بين مكاتب التنظيم في حي الثورة وترانزيت وسكن، المعوقين، وكذلك الميدان ويحشد للثورة والوطن هنا وهنالك يتجول بين اللاجئين دون تعالي وكأنه واحداً منهم ضاحكاً مع هذا وممازحاً ذاك دون تكلف او عناء يعين هذا ويسند ذاك ويتصدر مشاكلهم لدي السلطات السودانية وكأنه سفير او قنصل دون تزمر او شكوي، لم يمّن علي أحد بخدماته رغم إعاقته وتضحيته بجزء عزيز من جسده علي أحد بل كان دوماً علي استعداد لتقديم الاكثر بوجهه البشوش والضحكة التي لا تفارقه متي ما التقيته لدرجة اني لا استطيع تخيله دونها.
ادريس لوحة جسدت الوطن والوطنية ونكران الذات والتي دوّنها في يوميات المقاتل في الثورة التي نسجها في مجموعته القصصية (عظام من خزف)،
والتي حكي فيها معاناة الجرحي وآلامهم وتوقهم للحرية وشوقهم للرفاق في الخطوط الامامية للحد الذي فيه يغادرون المشافي بعد غش الاطباء بالتظاهر بالشفاء.
فهل انضم ابعري لسبحة العظام تلك التي نسجت ونظمت معزوفة الحرية "المختطفة " في دوزنة خرافية ولحن شجي انبثق من آلامهم وآمالهم الحرية التي ظنها البعض مستحيلاً وأمثاله ورفقاءه جعلوها ممكنة وواقعاً مجسداً؟
هل انضم لتلك العظام التي عنون بها مجموعته القصصية "عظام من خزف" ؟ ام ما زال هنالك في غيابة الحب الذي وضعه فيها إسرائيل إرتريا وإخوته الخونة ألمتواطئين، كنبي الله يوسف في انتظار أن تلتقطه سيارة من المواطنين الاحرار او المقاتلين الشرفاء؟
وأنا علي ثقة وإن عاد سيعود شامخاً كشموخ دنقير وعلي استعداد لبذل المزيد وسينثر العدل كما فعل عزيز مصر،
فأمثال أبعري معدنهم أصيل وعزيمتهم لن تلين ومواقفهم لن يبدلها السجن او قسوة الجلاد.
الحرية ل ادريس سعيد ابعري ولكل المعتقلين الاحرار وكل المعتقلات الحرائر.
كسرة
ومن ثم يأتي البعض متكئاً علي وسادته من عواصم الجليد والضباب ومن خلف لوحة المفاتيح ليحدثنا عن السيادة ويلقي علينا محاضرات في الوطنية،
ويعقد أخرون بإسمها منتديات في فنادق فاخرة ذات الخمسة نجوم في عواصم أوربية ويصرف عليها ببذخ صرف من لا يخشي الفقر وكأن عاصمة بلادنا ليست أسمرا المدمرة وأن شعبنا ليس ذاك الذي يفترش الارض ويلتحف السماء ويحتل المرتبة الثانية في اللجوء والتشرد!!!
ثم ماذا بعد "شيراتون بروكسل"؟ النتيجة هي تبني خطاب اسمرا السياسي في تناسق تام مع السلطة هنالك بإسم السيادة وينسي أصحابها وصناعها القابعين في غياهب السجون بتهمة الخيانة. في محاولة لاعادة إنتاج النظام أو مشاركته في تزوير صفحات التاريخ.
وهنا تحضرني رواية "لعبة المغزل" للروائي حجي جابر والتي يصور ويحكي فيها كيف أن المنتصر يزور التاريخ.
وقولي لهولاء ان مهمتنا ليس التماهي مع الجلاد او مشاركته تزوير التاريخ او تزييفه، بل انتزاع القلم منه وأعادته لمن غيبوا لأنهم قالوا الحقائق في وجهه، وهم الاحق والاصدق في كتابة التاريخ بل هم صناعه في الاصل.
للتواصل مع الكاتب:عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.