مستقبل علاقة ارتريا مع إقليم تغراي - الجزء الثالث
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - باحث وكاتب صحفي
الحرب والصراعات الداخلية في الجبهتين: كان لحرب 1998 تأثير عميق على كل من البلدين.
بجانب عشرات الآلاف الضحايا، خسارة مليارات الدولارات بسبب الصرف المباشر على متطلبات الحرب وخسارة اقتصاديهما المداخيل التي كانت يوفرها تعاونهما في المجال الاقتصادي، تسببت الحرب في انقسامات داخلية في الأطر القيادية للجبهتين.
من التحالف إلى الاقتتال:
كما ذكرُ سابقاً، ساعدت قوات من الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا قوات التغراي في الاستيلاء على أديس أببا وعلى ترسيخ النظام الجديد ووافقت جبهة التغراي على الاستفتاء في إريتريا. في صيف 1992 حدث خلاف بين جبهة التغراي وجبهة تحرير الأورمو التي كانت تعد حينها الشريك الثالث للجبهتين، حول تكوين الجيش الإثيوبي.
بسبب دور جيش التغراي في الانتخابات الإقليمية التي جرت في ذلك العام، توصلت جبهة تحرير الأرومو إلى قناعة بأن تلك القوات مسيسة وغير محايدة لهذا اقترحت حل كل القوات التي ساهمت في إسقاط نظام منغستو وتشكيل جيش وطني على أسس احترافية. انحازت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا التي كانت تلعب دور المسهل لحل الخلاف بين التنظيمين، انحازت للوياني وقالت إن جيش التغراي يجب أن يكون أساس الجيش الوطني الإثيوبي وقد أدى هذا الخلاف إلى إبعاد جبهة تحرير الأورمو من السلطة.
في 1993 وقعت إريتريا وإثيوبيا اتفاقية تعاون وصداقة شملت التجارة الحدودية، استخدام إثيوبيا الموانئ الإريترية والعملة وغيرها من المجالات. ما ذكره أسياس في مقابلته مع تلفزيون الحكومة يوم 17 فبراير بأن ملس زيناوي شاوره خلال مشاركتهما في مؤتمر القمة في القاهرة قبل أن يتحدث حول موضوع مياه النيل مع مصر في 1993 وأنه أطلعه في 1994 على مسودة الدستور الإثيوبي ليأخذ رأيه فيه، الحدثان الذي قصد أسياس من ذكرهما إظهار أستاذيته وتشفيه على الوياني، يبرهنان على أن العلاقة بينه، على الأقل، مع ملس كانت طيبة وتسودها الثقة حتى ذلك الوقت.
أول مؤشر علني لظهور التيار المعادي للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا وسط الجبهة الشعبية لتحرير تغراي ظهر عندما رفض هذا التيار مساعدة إريتريا في قتالها ضد اليمن حول جزيرة حنيش في 1995بينما كان من رأي رئيس الجبهة ملس زيناوي أن إريتريا تقاتل من أجل حقها المشروع ويجب تقديم الدعم لها.
كان هناك تياران يتصارعان داخل الجبهة الشعبية لتحرير تغراي. الأول يقوده رئيس الجبهة ورئيس الوزراء ملس زيناوي والآخر كان يضم مجموعة من كبار قادة الجبهة في ذلك الوقت أهمهم تولدي ولديماريام، سهاي أبرهه واباي سهاي. بينما تركز تيار رئيس الوزراء في أديس أببا، كان أغلب أعضاء التيار المعارض يعمل في إقليم تغراي.
يعتقد بعض الباحثين أن مكان عمل أي من المجموعتين كان له تأثير على مواقفه السياسية. فبينما أتاح عمل رئيس الوزراء وتياره من أديس أببا الاحتكاك بالعالم الخارجي ومعرفة الطريقة التي تدار بها الشؤون الدولية والقوانين والأعراف التي يجب أن تلتزم بها الدول، كان التيار الآخر الذي كان يعمل من تغراي غارقاً في عزلته القديمة، يتمسك بنفس الأساليب والنظريات التي لا تضع أي اعتبار لحقائق الواقع بما في ذلك السياسات التي يجب أن تُتبع داخلياً وخارجياً وحقيقة وجود إريتريا كدولة مستقلة معترف بها دولياً.
كان تيار مقلي يتمسك بالنظرية الماركسية الألبانية ويتهم رئيس الوزراء بالخضوع للإمبريالية وبالتساهل مع الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا وتمكينها من استغلال إثيوبيا اقتصادياً.
شهد صيف 1997 أول استخدام للقوة في الخلاف الحدودي بين البلدين فقد احتلت قوة إثيوبية قرية عد مروق في إقليم دنكاليا وادعت تبعيتها لبلادها وفي نفس السنة أصدرت إريتريا عملتها الوطنية وأوقفت إثيوبيا استخدام مصفاة عصب.
في مايو 1998 احتلت قوة إريترية منطقة بادمي المتنازع عليها بعد أن تعرض جنود إريتريون لإطلاق النار مما أدى إلى مقتل بعضهم. اتهم تيار مقلي رئيس الجبهة ورئيس الوزراء ملس زيناوي بتجاهل تقارير استخباراتية بأن إريتريا تحضر لشن هجوم عسكري على إثيوبيا. ينسب لملس زيناوي القول تعليقاً على تلك التقارير "وهل جنت الشعبية لتقوم بمثل هذا العمل؟".
تحرك العالم لإيقاف الاقتتال بين البلدين وحل نزاعهما بشكل سلمي. تعاملت أي من الجبهتين مع مساعي السلام الدولية ببراغماتية. رفضت حكومة الشعبية في 1998 المبادرة الرواندية - الأمريكية التي طالبت بالانسحاب الإريتري من بادمي قبل الشروع في المفاوضات. ليس هناك معلومات عن تباين في المواقف داخل قيادة الشعبية حول هذه المبادرة حيث لم تكن هنا أية آليات حزبية أو حكومية تتعامل تدير الحرب وكان رئيس الجبهة والدولة ينفرد باتخاذ القرار بخصوصها، ظهر الخلاف حول الموقف من تلك المبادرة بعد نهاية الحرب.
عندما قدمت منظمة الوحدة الإفريقية في 1999 مسودة اتفاقية للترتيبات الفنية، رأي ملس زيناوي أن توافق بلاده على المسودة لكن بطرحها للتصويت داخل اللجان المركزية للتنظيمات المكونة للتحالف الحاكم، رُفضت المسودة بشكل واسع. صوتت قيادات تنظيما الأمهرا والأورومو بالإجماع ضد المسودة بينما حصلت على صوتين فقط في جبهة شعوب جنوب إثيوبيا. لكن الأهم كان موقف جبهة التغراي التي كانت تتمتع بنفوذ طاغٍ في البلاد.
من بين أعضاء مركزية الجبهة الـ 31 صوت ضد المسودة 17 عضواً ينما صوت بالموافقة عليها 14 عضواً. تم رفض مسودة الاتفاقية التي كان من شأن القبول بها أن يجنب البلدين خوض الجولة الثالثة التي كانت الأكثر شراسة وأفدح ثمناً لكلاهما كما كان من شأن موافقة إريتريا على المبادرة الرواندية - الأمريكية أن يجنب البلدين جولتي القتال في 1999 و2000.
في مارس 2001 عقدت اللجنة المركزية لجبهة التغراي اجتماعاً لتقييم مسيرتها في إدارة الدولة خلال السنوات العشر الممتدة من 19991. اختلف الاجتماع حول الأجندة التي يجب مناقشتها حيث أراد التيار المعارض لرئيس الجبهة أن تتم مناقشة أولاً مسار الحرب واتفاق السلام الذي وقعت عليه الحكومة، رأى رئيس الوزراء إعطاء الأولوية لتقييم فترة الحكم بما فيها الفساد وانعدام الديمقراطية داخل الجبهة. كان التيار المعارض لرئيس الوزراء يعتقد أن زعيم الجبهة خضع للضغوط الأمريكية وأوقف تقدم الجيش الإثيوبي داخل الأراضي الإريترية وإنه كان يجب أن يُترك هذا الجيش يتقدم حتى يدمر نظام الشعبية.
وظهر تيار آخر وسط المعارضين من الامهرا الذين رأوا في الحرب فرصة لاستعادة عصب وإذا كان ممكناً إعادة إريتريا مرة أخرى إلى إثيوبيا وقد أبدى هذا التيار حماساً للحرب حيث كان ينشط في الخارج في جمع التبرعات للحكومة التي كان يعاديها. هنا لا بد من الإشارة للمقاومة البطولية التي أبداها الجيش الإريتري في الدفاع عن عصب ورفض قائد إحدى فرق الجيش في تلك المنطقة صالح عثمان أوامر الانسحاب التي صدرت له من مكتب الرئيس. تمكنت هذه الفرقة من منع الإثيوبيين من التقدم واحتلال عصب. لو تمكنت إثيوبيا من احتلال عصب لتغيرت نتيجة الحرب إذ كانت ستساوم للحصول على عصب للانسحاب من المناطق الأخرى وكان من المحتمل أن تجد تعاطفاً دولياً تجاه هذا المطلب.
انسحبت مجموعة الـ 12 المعارضة لرئيس الجبهة من اجتماع المركزية فاتخذت المجموعة المتبقية قراراً بطرد أفرادها من الجبهة. وُضع أفراد هذه المجموعة لفترة قصيرة قيد الإقامة الجبرية المنزلية لكن الشخص الأكثر تشدداً تجاه إريتريا بين أفراد المجموعة، سهاي أبرها الذي كان وزيراً للدفاع في الفترة بين 1991 و1995، قُدم بعد عام للمحاكمة بتهمة الفساد وسجن لعدة سنوات وهو يعيش الآن في المهجر وقد أبدى مؤخراً تعاطفه مع سكان إقليمه ومع زملائه السابقين الذين قتلوا مؤخراً في الحرب.
كانت العلاقة مع إريتريا حاضرة بقوة في خلافات الجبهة الشعبية لتحرير تغراي. كان موقف رئيس الوزراء ملس زيناوي منسجماً مع رؤيته التي عبر عنها للوفد الإريتري عندما جاء مشتكياً من تصريحات أحد قيادات تنظيمه حول استفتاء إريتريا في 1992. كما كان ملس يدعم معالجة سلمية للنزاع وإقامة علاقة تعاون مع إريتريا لكنه لم يتمكن من إقناع قيادات جيشه بالقبول بقرار مفوضية ترسيم الحدود في 2002 وأغلبهم كان من إقليم تغراي.
على الجانب الإريتري، نوقشت الحرب بعد انتهائها فقد كان رأس النظام يديرها لوحده أو بالتعاون مع المقربين منه دون الاستناد إلى مؤسسات حكومية أو حزبية. مع أن التيار الذي رفض طريقة إدارة رئيس الجبهة للحرب كان يشكل أقلية في قيادة التنظيم، إلا أن الرجل تصدى له بقوة ووحشية، اتهم أفراده بالخيانة العظمى وأخفاهم قسراً حيث لم يسمع عنهم أحد منذ تاريخ اعتقالهم في سبتمبر 2001. كان ضمن مطالب هذه المجموعة تفعيل الدستور الذي أُقر في 1997 وقد يكون التهرب من تطبيقه أحد دوافع رئيس الدولة في تفجير النزاع الحدودي مع إثيوبيا، أدت الخلافات حول إدارة الحرب وتطبيق الدستور إلى نهاية تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا الذي غير اسمه في 1994 إلى الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة وتركيز كل السلطة في أيدي أسياس أفورقي وإدخال إريتريا إلى حقبة مظلمة اُرتكبت فيها جرائم ضد الإنسانية وحرم فيها الشعب الإريتري من حقوقه كافة.
تـابـعـونـا... في الجزء القادم