وقفات مع مؤتمر "كرن" الوطني التأسيسي
بقلم الأستاذ الشيخ: إسماعيل إبراهيم المختار - عضو لجنة الفقه في الهيئة الاسلامية في مانيتوبا
مدينة كرن الأرترية هي من أبرز وأعرق المدن في أرتريا.
مدينة أصيلة في محتدها، شامخة في وطنيتها، باسلة في مواقفها. يكفيها فخرا أنها كانت موئل شخصيات صنعت التاريخ، وتركت أمجادا لا تنسى ولا تمحى على مر الأيام والأزمنة. يكفيها فخرا أنها كانت مسقط رأس المصلح الإجتماعي، والزعيم السياسي إبراهيم سلطان، الذي بدأ مسيرته الإصلاحية بالدفاع عن المستضعفين "التجرى"، ثم تصدر العمل الوطني للحفاظ على الكيان الأرتري من التشرذم، والوقوع في براثن القوى الطامعة. ويكفيها فخرا أيضا أنها كانت موئل العلامة الفقيه القاضي موسى عمران، العالم المجاهد الذي وظف علمه وجهده في خدمة شعبه، فكان من مؤسسي حزب الرابطة، ومن أبرز المنافحين عن الحقوق الوطنية في أول برلمان أرتري منتخب.
مؤتمر كرن:
ومن أبرز مفاخر مدينة كرن إنعقاد أهم مؤتمر أرتري في ربوعها في شهر ديسمبر عام 1946م. وقد شارك في هذا المؤتمر ما يقارب ال 8 ألف شخص من "العلماء، والقضاة، وعمد ونظار القبائل، من كل أنحاء القطر. وقد عقد المؤتمر في أرض فسيحة نصبت فيها السرادق الكبيرة، وزينت بأبدع الزينات، ووضعت الثريات الكهربائية في جوانبها المختلفة، وصفت فيه أعداد كبيرة من الكراسي، وكان تجمعا فريدا يكاد يكون الأول من نوعه في القطر". وقد خرج المؤتمر بقراره التاريخي بتأسيس أول حزب وطني، حزب الرابطة الإسلامية الأرترية، وصارت كرن مقر الحزب مع فروع في كل مدن أرتريا، "وبذلك أصبحت ”الرابطة الإسلامية الأرترية“ أول حزب أنشأه الشعب في القطر الأرتري، والحزب الوحيد الذي احتل خريطة أرتريا من حدود السودان إلى حدود الصومال والحبشة".
وقد تلى هذا المؤتمر، مؤتمر آخر عقد في شهر يناير 1947م في مدينة كرن، وفيه تم إختيار إبراهيم سلطان سكرتيرا، والسيد أبوبكر المرغني رئيسا لحزب الرابطة. تلى هذا إنشاء جريدة "صوت الرابطة الأرترية"، "وهي أول صحيفة عربية حزبية، وصار صاحبها بشير عثمان بشير، ومحررها ياسين محمد سالم باطوق، ومحمد عثمان الحيوتي".
وهذا المؤتمر معلم تاريخي كان له أثر بعيد في بقاء الكيان الأرتري موحدا، وفي إحياء جذوة المقاومة الوطنية. ومؤتمر بهذه الأهمية جدير بالدراسة واستلهام المعاني منه. وفيما يلي وقفات مع هذا المؤتمر.
هل كان مؤتمر كرن مؤتمرا طائفيا أم مؤتمرا وطنيا ؟
مؤتمر كرن كان مؤتمرا شاركت فيه كل العناصر الإسلامية في أرتريا. وكان مؤتمرا يهدف إلى التحاور في مستقبل أرتريا، والخروج بموقف وطني موحد. ورغم أن هدف المؤتمر كان هدفا وطنيا عاما يهم كل أبناء أرتريا، إلا أن المسيحيين لم يشاركوا في هذا المؤتمر، ولم توجه إليهم الدعوة. فهل كان هذا سعيا من المسلمين في أرتريا في الإنفراد بالقرار الوطني، والتكتل ضد المسيحيين، وتكريس الإنقسام الطائفي؟ القراءة العابرة للتاريخ قد توحي بذلك، لكن النظرة العميقة توحي بعكس ذلك. لقد عقد هذا المؤتمر في ظروف إستثنائية، نجمت عن هزيمة إيطاليا، ووقوع أرتريا تحت حكم الإدارة البريطانية. مع دخول البريطانيين نشأت جمعية "حب الوطن الأرترية"، وكانت أهداف الجمعية في بداياتها محدودة، وكان تركيزها على رفع المظالم التي وقعت على الأرتريين من قبل الإيطاليين، والتواصل مع الإدارة البريطانية. وكان المجلس الإداري مكونا من المسلمين والمسيحيين بالتساوي، ويرأس الجمعية "قبرى ولدى مسقل" وينوب عنه عبدالقادر كبيرى. وكان ضمن الأعضاء إبراهيم سلطان، و"ولد آب ولد ماريام".
كانت الجمعية بداية مبشرة نحو توحيد الوجهة الوطنية. ولكن تدخلات جهات مختلفة في مسار الجمعية، بهدف تقويضها، وتحويل مسارها في خدمة مشروع الوحدة مع أثيوبيا، شل من فاعليتها، وأنهى وجودها. وكانت أخطر كل هذه الجهات، الكنيسة الأرثوذكسية بزعامة البطريارك "مارقوس". وكان هذا البطريارك شديد السطوة - كما يصفه الكاتب "داويت مسفن"، ومتحمسا لمشروع ضم أرتريا إلى أثيوبيا. تدخل الكنيسة عبر بطرياركها حسم الخيار المسيحي لصالح المشروع الإنضمامي. ولم تكتفي الكنيسة بدعم الإنضمام فقط، بل حولته من خيار سياسي، إلى خيار عقدي. أصبحت الكنائس وقساوستها منابر للدعاية لمشروع الإنضمام، وأصدرت الكنسية قرار بفرض "الحرمان الكنسي" على كل من يخالف المشروع الإنضمامي. وبذلك حجرت الكنيسة على مسيحي أرتريا، ولم تترك لهم خيارا آخر غير الخيار الإنضمامي. وقد شكا الأستاذ "ولدآب ولد ماريام" من تدخل الكنيسة في الشأن السياسي في أحد مقالاته، واستهجن إستغلال الكنيسة سلطتها الروحية لفرض خيارها السياسي على المسيحيين، مشيرا إلى أن المشايخ والمفتي لا يفعلون ذلك مع أتباعهم من المسلمين.
مؤتمر "بيت جرجس" الذي انعقد في عام 1946م في ضواحي أسمرة، كان محاولة أخيرة لجمع الصف، والخروج بقرار مشترك، لكن الإجتماع نسف من داخله، وانتهى بالفشل الذريع. هنا تباينت الخطوط، واتضحت المعالم. تدخل بطريارك الكنيسة قطع الطريق أمام المسيحيين وحسم خيارهم، فبقي المسلمون لوحدهم يحملون المشروع الوطني، فكان لا بد لهم من جمع صفوفهم للدفاع عن حقوقهم، وحقوق وطنهم الذي أصبح على مهب الرياح. في هذه الأجواء عقد مؤتمر كرن للدفع بالمشروع الوطني، الذي أصبح المسلمون هم حملته والمدافعون عنه. وبناء على هذا يتضح أن مؤتمر كرن كان مؤتمرا وطنيا خالصا، يحمل هم الوطن ومشروعه التحرري.
ومما يؤكد التوجه الوطني لمؤتمر كرن وحزب الرابطة المنبثق عنه، مبادرة قادة حزب الرابطة للتنسيق مع الأقلية المسيحية التي رفضت السير في ركاب الكنيسة، وانحازت للخيار الوطني. ولذلك شارك زعماء الرابطة في حفل تأسيس حزب "الأحرار والتقدم"، الداعي لاستقلال أرتريا في فبراير 1947م، في مدينة عدي قيح، حيث عين "راس تسما أسبروم" رئيسا للحزب. ولم يكتفي زعماء الرابطة بهذا، بل قاموا بالإتفاق مع قيادة الحزب الجديد "على إتخاذ راية موحدة مكونة من قطعة خضراء، رمزا لراية الرابطة ؛ وقطعة حمراء، رمزا لراية حزب الأحرار؛ مع وضع ميزان بينهما رمزا للمساوات".
وقد أكد على التوجه الوطني لحزب الرابطة وكتب فيه بتفصيل الكاتب الأمريكي د. جون فانوزا في مؤلفه القيم عن فترة الأربعينييات وما بعدها.
مؤتمر كرن والنعرات القبلية:
كان مؤتمر كرن مميزا لا بكثرة حضوره فقط، ولكن بتنوع من شارك فيه. لقد شاركت في هذا المؤتمر القبائل، والفصائل، والتجمعات الأرترية من كل أطراف أرتريا، في مشهد فريد ومميز، عبر عنه الشاعر الأستاذ عبدالحميد إدريس - المدرس بمدرسة صنعفى - حين قال:
أتت ركاب المجد تشفي جراحنا *** وتملأ جو الحياة نشيدا وأنغمــــا
يابلبلا توارى بالأمس عن أعين *** غرد أناشيدا من المجد التليد المفخمـا
وتجمعا من هذا النوع لم يكن من السهل تحقيقه لسببين:
السبب الأول: القوى المتربصة التي بذلت كل جهد للحيلولة دون إنعقاده، وإفشاله قبل ولادته.
السبب الثاني: التنوع القبلي، والعرقي، واللغوي الأكثر ظهورا عند المسلمين. فالتنوع عند المسيحين الأرتريين محدود، فهم في الغالب يتحدثون لغة واحدة، ونمط عيشهم، وتقاليدهم متشابهة إلى حد كبير. أما المسلمون فهم يتحدثون بتسع لغات، وبينهم تباينات قبلية، ومعيشية واسعة. ولذلك يسهل إثارة النعرات القبلية بينهم، وتفتيتهم إلى مجموعات قبلية ومناطقية متنافرة، والحيلولة دون تجمعهم.
مؤتمر كرن تجاوز كل هذه العقبات، وجمع شتات المسلمين في إطار وتجمع كبير. هذا التجمع رغم ما تعرض له من ضغط خارجي، وما نتج عنه من إنشقاقات مناطقية لاحقة، بقي في مجمله قويا متماسكا. فقد إنشق عن الرابطة "حزب الرابطة لاستقلال المديرية الغربية" تحت رعاية بريطانية، وانشق عن الرابطة "الحزب الوطني" في مصوع، ولكن هذه الأحزب كانت محدودة تمثل مجموعات صغيرة، وبقي جسم الرابطة بمجمله متماسكا، رغم محاولات بريطانيا توسيع رقعة الشقاق في داخله. فقد حاول البريطاني "فرانك ستافورد" الضغط على زعماء القبائل لفض أيديهم عن الرابطة، ونسف الإجماع الذي انعقد في كرن. ويظهر ذلك جليا في حديثه مع ناصر باشا، ناظر قبائل الأساورته، حيث حاول إثارة النعرة القبلية قائلا: لم تصرون على إتباع إبراهيم سلطان وقد تخلى عنه أبناء منطقته، وكان رد ناصر باشا وغيره، ردا حاسما، حيث تمسكوا بمقررات مؤتمر كرن وإجماعه.
بين السلف والخلف !
لقد أثبت السلف - على الرغم من إنتشار الأمية بينهم - قدرا كبيرا من الوعي بنبذهم للنعرات القبلية، والتكتلات المناطقية، وسعيهم للعمل مع شركائهم في الوطن من المسيحيين الذي إنحازوا للخيار الوطني. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم بالحاح، هل استوعب خلفهم اليوم ما استوعبه أسلافهم؟ الإجابة قد تكون بالنفي إذ نظرنا إلى مايظهر بين الحين والأخر من أحزاب سياسية تحمل - أو تتستر تحت - راية قبلية، أو مناطقية. وقد أصبح حالها كحال من قال فيهم الشاعر:
وتفرقوا شيعا فكل محلة *** فيها أمير المؤمنين ومنبر!
لا مانع أن تكون هناك جمعيات ثقافية تهتم بالجانب التراثي لكل مجموعة قبلية ومجموعة عرقية، أما الشأن الوطني فلا يؤدي التكتل فيه على أساس قبلي مناطقي إلا لخراب الجهد الوطني، وتمكين المتسلط من رقاب الشعب، ومقاليد الأمور في البلاد.
مؤتمر كرن له رسالتان خالدتان:
رسالة للمسلمين: لن يكون لكم شأن، ولن ترتفع لكم راية، ولن تنالوا حقوقكم إلا إذا اتحدتم، وترابطتم، وترفعتم عن الحزازات القبلية، والعرقية، واللغوية.
رسالة لكل الأرتريين - مسلمين ومسيحيين: أرتريا وطن مشترك بينكم، لا يصلح حاله، ولن تستقيم أموره، إلا بالتكافؤ بينكم، وحرصكم على حقوق بعضكم البعض، وتآزركم فيما بينكم، وإلا فتستدفعون، ويدفع وطنكم المشترك ثمنا فادحا!
-------------------------------------------------------------------------------------------------
https://mukhtar.ca/category/صفحة الحوادث
نفس الموقع:
نفس الموقع:
አለም ሰገድ ተስፋይ ፡ አይንፈላለ
Dawit Mesfin, Woldeab Woldemariam, a visionary Eritrean Patriot
አለም ሰገድ ተስፋይ ፡ አይንፈላለ
https://mukhtar.ca/category/صفحة الحوادث
Joseph Venosa, Paths toward the Nation: Islam, Community, and Early Nationalist Mobilization in Eritrea, 1941–1961
التعليقات
شكرا جزيلا الأستاذ إسماعيل على المقال الرائع...
صراحة يعتبر هذا المقال من أصدق المقالات وأروعها في الشأن الارتري...
نعم الجيل الحالي ليس كالأجيال السابقة التي كانت تحترم بعضها البعض وموحدة في مواجهة كافة الصعاب والتحديات واضعة نصب اعينها هدفا واحدا وساميا يتمثل في الحفاظ على الهوية الوطنية دون تهميش فئة معينة وتحرير الوطن من براثن الإستعمار البغيض...
نعم تحرر الوطن ولكن للأسف فقدنا الوحدة الوطنية والشعور بالمسؤولية القومية فضاعت البلاد وتشرزمت العباد وكل يبحث عن قوميته وقبيلته ولكن هيهات...
من المستحيل أن تستقر ارتريا تحت حكم فئة معينة لذا لا بد من الإعتراف بحقوق الجميع سواسية لتنعم الأجيال القادمة بسلام و وئام ووضع نهاية لمسلسل الذل والهوان في المهاجر والمنافي.