ماذا يحدث في شرق السودان بين التنافس القبلي انعدام حساسية المركز والتدخل الإقليمي - الجزء الاول
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - باحث وكاتب صحفي
بسبب سيادة أنماط العلاقات القبلية اجتماعياً في مدن شرق السودان والمنافسة على الموارد والسلطة،
وبسبب الفقر وانتشار الأمية تبرز من وقت إلى آخر صراعات بين بعض المكونات القبلية للإقليم عادة ما يتم احتواؤها بالاستناد إلى التقاليد القبلية لكن هذه الصراعات والتوترات تعود مرة أخرى لأن ما تفعله تلك التقاليد غالباً ما يكون مجرد تهدئة للخواطر؛ خصوصاً بالنسبة للتوترات النابعة من التنافس على السلطة والموارد حيث تتجاوز الخلافات هنا أطر القبيلة جغرافياً وسياسياً وقانونياً فتقع مسؤولية معالجتها في صميم اختصاص الدولة.
سأحاول في هذا المقال وضع تلك التوترات في سياقها وخلفيتها محلياً، دور المركز الرسمي والنخبوي وطبيعة ودواعي التدخل الإقليمي في ظل المتغيرات السياسية والجيوسياسية، واحتمالات تأثير كل ذلك على استقرار السودان وخياراته السياسية.
التصور عن الآخر.... القبيلة مكان الدولة:
من المسائل المألوفة في السودان وصف الأشخاص المنتمين للمناطق الحدودية والتي بها تداخل قبلي بإنهم ليسوا سودانيين عند الاختلاف معهم حول أي أمر. لكن حسب علمي لم تصف قبيلة كاملة بين قبائل السودان بأنها ليست سودانية سوى قبيلة البني عامر. سأعطي هنا مثالاً على ذلك. كلنا يعرف أن إبراهيم محمود الذي كان مسؤولاً كبيراُ في النظام المخلوع كان يوصف بأنه إريتري من قبل الكثيرين في وسائل التواصل الاجتماعي والرجل ينتمي للبني عامر وهو سوداني أباً عن جد لا أرى سبباً لوصفه بأنه إريتري سوى لكونه ينتمي لقبيلة حدودية هي البني عامر.
وُصف سياسيون آخرون بأنهم أجانب وكان أخرهم حميدتي عضو المجلس السيادي وقائد الدعم السريع وقبله علي الحاج لكن قبيلة البني عامر وحدها التي ظلت توصف بأنها ليست سودانية إذ لم نسمع أنه قيل عن قبيلة حميدتي أو قبيلة علي الحاج بأنها ليست سودانية.
من هم البني عامر ؟
يعد البني عامر أحد الفروع الأربعة الرئيسة للبجة (البني عامر، البشاريون، الهدندوة والأمرار). عاش البجة في المنطقة الممتدة من جنوب مصر إلى سواحل البحر الأحمر الغربية لآلاف السنين. ويقال أن البجة من السلالات التي حكمت مصر في عهد الفراعنة. وحسب العالم الجغرافي المصري الشهير الدكتور جمال حمدان في الجزء الثاني من كتابه شخصية مصر: عبقرية الزمان والمكان، البني عامر هم أقرب سلالة بشرية متواجدة الآن إلى قدماء المصريين في عهد ما قبل الأسر.
ظل البجة يتحركون بين المنطقتين المشار إليهما على مر العهود لكن مع تقدم الإسلام من شمال السودان بدأت جماعات منهم بالزحف شرقاً فاحتلت ساحل البحر الأحمر في إريتريا فقطعت علاقة مملكة أكسوم مع العالم الخارجي ووصل بعضهم إلى الهضبة الإثيوبية في القرن الثامن الميلادي ودمر مملكة أكسوم (مملكة أكسوم هذه هي التي دمرت مملكة مروي). أجبرت هذه الجماعات من البجة سكان الهضبة الإريترية وإقليم تقراي على النزوح جنوباً.
وحسب جون سبنسر تيرمنجهام في كتابه (Islam in Ethiopia) أقامت هذه الجماعات من البجة ممالكاً لها في أغلب المناطق التي كانت خاضعة لمملكة أكسوم. هذه الجماعات هي التي شكلت لاحقاً، بعد الاندماج مع جماعات سامية أقل عدداً، قبيلة البني عامر. بسبب تلك الهجرات تبنى أغلب فروع البني عامر لغة التقري السامية وتخلوا كلياً عن لغتهم البداويت بينما استمر آخرون يتحدثونها مع التقري وظلت أقلية منهم تتحدث فقط البداويت.
خضعت قبيلة البني عامر في القرن السادس عشر لمملكة الفونج فيما يشبه العلاقة الكونفدرالية حيث كان ملوك الفونج ينصبون زعيم القبيلة الذي يسمى (دقلل) وهو اللقب لا يزال يحمله حتى اليوم ناظر البني عامر.
ظل البني عامر والحباب يعيشون في إطار السودان التاريخي حتى قيام الثورة المهدية ومجيء الاحتلال الإيطالي الذي اقتطع جزءاً من أراضيهم وشكل مستعمرة إريتريا. لكن علاقات التواصل بين قبائل الحباب والبني عامر لم تنقطع بسبب الحدود الجديدة. الكثير من السودانيين يعرفون أن البني عامر والحباب قبيلتان حدوديتان لكنهم قد لا يعرفون أن قبائلاً بجاوية أخرى مثل الهدندوة والأرتيقة هي أيضاً قبائل مشتركة إضافة إلى الرشايدة.
البني عامر أكثر قبيلة تناولها المؤرخون من بين قبائل البجة أبان مرحلة التحولات الكبيرة التي نتجت عن ظهور الإسلام وانتشاره في المنطقة وهي قد تكون الأكبر بين قبائل البجة (من يعيشون في السودان وإريتريا). البني عامر الذين يعيشون في السودان هم سودانيون أصليون والذين يعيشون في إريتريا هاجر أغلبهم إليها من السودان الحالي في حقب تاريخية مختلفة.
وقد شكل البني عامر والحباب من جانبي الحدود جزءاً مهماً في قوة دفاع السودان في الشرق حيث كان الإنجليز يجندون لهذه القوة من حدود السودان التاريخي إذ يبدو كانوا يعتقدون أن الاحتلال الإيطالي لإريتريا موقتاً كما ظهر لاحقاً في مشروعهم لتقسيمها بين إثيوبيا والسودان خلال احتلالهم لإريتريا في اربعينات القرن الماضي بحيث يكون غربها ضمن حدود الدولة السودانية.
نواصل... في الجزء القادم