جدلية السلمية والعنف في الحراك الإرتري
بقلم الأستاذ: أحمد محمد عمر (أبو تيسر) - كاتب وإعلامي سابق بإذاعة صوت الجماهير الارترية - برلين
كيف يمكن التخلص من نظام افورقي ومن ثم إقامة نظام ديمقراطي
على أسس العدل والمساوة والمواطنة في ارتريا؟
هل يمكن تحقيق هذا الهدف عبر الوسائل السلمية والسياسية؟
ام ان العنف الثوري هو المخرج والحل الوحيد لاقتلاع نظام ثبت اقدامه بالقبضة الأمنية والقمع ولا يؤمن الا بلغة القوة؟
لا شك ان الإجابة على هذه التساؤلات تشكل مسألة جوهرية في رسم معالم الحراك الارتري المعارض حاضرا ومستقبلا.
وربما أن تجاهل او بالأحرى تجنب الإجابة عليها شكّل حتى الان أحد العوامل الأساسية في انسداد الأفق امام قوى المعارضة الارترية طوال العقدين او الثلاثة الماضية او على الأقل فشلها في تأطير الحراك الجماهيري ومن ثم رسم استراتيجية تعجل بإسقاط النظام. وحتى الذين لم يتجنبوا الخوض في هذا الجانب انقسموا على أنفسهم بين رؤى متعارضة، فمنهم من يرى ان الحديد لا يفل الا بالحديد وان لا خيار آخر غير العنف الثوري في مواجهة القبضة الأمنية لافورقي، بينما يرى المعسكر الآخر ان النار لا تنطفئ بالنار بل بالماء وان الوسائل السلمية هي أفضل الخيارات في مقاومة النظام.
وقد يصح أيضا ان نفترض وجود تيار وسطي يرى بضرورة الدمج بين السلمية والعنف الثوري وفق مقتضيات الحاجة.
غايتي هنا ليس تقديم رؤية متكاملة حول ما هو أفضل حيث ان ذلك يتطلب دراسات عميقة وحوارات متواصلة بين الأطراف المختلفة وأخذ جميع العوامل بعين الاعتبار، بقدر ما أود استثارة المهمومين بقضايا الوطن وتحريك الساكن في ملفات الفكر الثوري الارتري من خلال مناقشة المزايا الإيجابية والسلبية لـ (السليمة) من جانب والعنف الثوري من جانب آخر بالاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى في هذا الخصوص.
يعتبر المهاتما غاندي الاب الروحي لفكرة النضال السياسي السلمي فهو الذي وضع منهجا متكاملا في اشكال المقاومة السلمية ضد المستعمر البريطاني - وهذا لا يعني اطلاقا عدم وجود مقاومة سلمية ضد الاستبداد قبل غاندي - بل نقصد ان الترويج لفكرة النضال السلمي ووضع الإطار النظري لها يعود الفضل فيها الى المهاتما غاندي قبل غيره. فهو صاحب مقولة "رماني الناس بالحجارة فجمعتها وبنيت بها بيتا"، وهو من قال مخاطبا الانجليز "اتركوا الهند وأنتم اسياد" وهي العبارة التي اُعتبرت تهديدا مبطنا للإنجليز فقاموا باعتقاله مع عدد كبير من أنصاره. كما تنسب اليه عبارة "تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر" والمقصود هنا سيدنا الحسين بن على كرم الله وجهه.
ومن خلال تجريب الأساليب التي ابتكرها غاندي في مواجهة الاحتلال البريطاني ونجاحه في قطف ثمار هذه النضالات تلقفت الفكرة حركة الأفارقة السود في جنوب افريقيا لمناهضة التمييز العنصري من قبل البيض سيما ان المهاتما غاندي قضى 22 عاما في جنوب افريقيا مدافعا عن حقوق الأقلية الهندية بالطرق السلمية. وبرز المناضل الافريقي نيلسون منديلا رمزا للنضال السلمي في جنوب افريقيا ضد التمييز العنصري وظل قابعا في السجن لمدة 27 عاما الى ان تحقق الحلم وتم الغاء ذلك النظام العنصري البغيض في أواخر ثمانينيات القرن الماضي.
تجدر الإشارة هنا الى ان السلطات العنصرية في جنوب افريقيا عرضت على مانديلا إطلاق سراحه مرتين مقابل ان يتنازل عن مطالبه ولكنه فضل البقاء في السجن على ان يتنازل عن تلك المطالب الشرعية للإنسان الافريقي. ان الأفكار التي نادى بها غاندي لم ينحصر تأثيرها في الهند وجنوب افريقيا فقط بل امتد تأثيرها الى مناطق واسعة من العالم حيث عبرت الأطلسي لتنشط حركة الحقوق المدنية للأميركيين السود في الولايات المتحدة الأميركية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي تنادي بالعدالة والمساواة بالطرق السلمية بزعامة مارتن لوثر كينغ.
في المقابل وخلال النصف الثاني من القرن العشرين بشكل خاص ذاع صيت الحركات المسلحة او تلك التي تستخدم العنف الثوري وسيلة لتحقيق أهدافها في جميع مناطق العالم. ويشمل ذلك بطبيعة الحال حركات التحرر الافريقية والاسيوية وكذلك في دول اميركا اللاتينية. وتتمحور فكرة استخدام العنف لدى أنصار هذا النهج في ان العدو يستخدم العنف ولا يمكن مواجهة العنف الا بالعنف أي بمعنى تحقيق السلام والعدالة من خلال العنف وقمع السلطة الميالة للقمع.
ومع أن معظم هذه الحركات المسلحة تصنف ضمن الحركات المناهضة للاستعمار والمطالبة بالاستقلال الوطني كما هو حال الثورة الارترية او الثورة الجزائرية الا ان هناك حركات أخرى كانت تهدف الى إزالة الأنظمة القمعية او إرساء نظم اشتراكية بديلا للاستغلال الطبقي او الرأسمالي. وقد ساهم التنافس بين القطبين الرئيسين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) اثناء مرحلة الحرب الباردة بدور كبير في تزكية الصراعات المسلحة ودعم حركات التحرر خاصة من قبل الكتلة الشرقية.
وخلال فترة الثمانينيات وتحديدا بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان ظهر نوع جديد من العنف الثوري عٌرف بالجهاد الإسلامي حيث وجد دعما كبيرا من قبل الولايات المتحدة وحلفاءها في مواجهة التمدد السوفيتي. وبعد هزيمة السوفييت في أفغانستان والانهيار المفاجئ للكتلة الشرقية عاد المجاهدون من أفغانستان الى بلدانهم ليشكلوا بداية مرحلة جديدة من العنف الموجه ضد القوى الغربية ومن يناصرها. وهي حالة مازالت مستمرة حتى اليوم في إطار ما يعرف اصطلاحيا بـ (الإرهاب والحرب على الإرهاب).
بعد هذه التوطئة التي أردنا من خلالها ان نضع للقارئ خلفية تاريخية قصيرة للسياق الذي نتحدث عنه دعونا نمضي الى لب العنوان لنتعرف على المزايا الإيجابية والسلبية لخيار السلمية ومنهج العنف. فالوسائل السلمية اقل تكلفة من حيث كمية الدماء التي تزهق اثناء مرحلة الثورة مقارنة بالعنف الثوري حيث ان قتل الناس اثناء المواجهات يتم من كلا الطرفين في العنف الثوري بينما يرتكبه طرف واحد فقط في الثورة السلمية. ليس هذا فحسب بل ان استخدام العنف من قبل الثوار يعطى السلطة مشروعية بل ومبررا لاستخدام المزيد من العنف مما يؤدي الي مضاعفة الخسائر البشرية أكثر. التكلفة المادية للعنف أيضا أكبر من تكلفة النضالات السلمية، فالحصول على الأسلحة وتأمين الذخيرة ليست مسألة سهلة بل تحتاج الى إمكانات مادية ودعم خارجي مما يؤدي الى ارتهان القرار المستقل للثوار للمؤثر الخارجي. بالإضافة الى ذلك هناك القضايا الفنية مثل التدريب والإدارة والتموين والمسائل اللوجستية الاخرى والعامل الجغرافي المتمثل في ضرورة وجود مواقع للتمركز والحماية. في المقابل لا تحتاج النضالات السلمية الى كل هذه التكاليف المادية الكبيرة.
من حيث عامل الزمن يعتبر العنف الثوري أكثر سرعة في تحقيق اهداف الثورة مقارنة بالنضالات السلمية، فالنضالات السلمية قد تستغرق أعواما طويلة قبل ان تحقق أهدافها بينما يمكن للعنف الثوري ان يحدث التغيير المطلوب في فترة لا تتعدى عدة أشهر. هذا هو القالب العام مع وجود استثناءات تفرضها عوامل أخرى قد تزيد او تقصر من عمر فترة النضال. فالثورة الارترية على سبيل المثال استغرقت 30 عاما وهي من أطول الثورات المسلحة في افريقيا مما يعنى ان الثورات المسلحة غالبا ما تنتصر او تصل الى أهدافها عن طريق التفاوض في فترة اقل من ذلك كثيرا. على النقيض من ذلك قد تستمر النضالات السلمية لعدة عقود كما هو الحال بالنسبة لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة او حتى لنضالات الثورة الهندية التي قادها المهاتما غاندي. تتميز النضالات السلمية بأنها تشرك كل فئات المجتمع في العمل النضالي دون تمييز فهي لا تستثني أحدا، رجالا ونساءً، أطفالا وشيوخا، عمالا وموظفين وفلاحين، شبابا وطلابا ومهنيين وغيرهم.
ويمكن للجميع ان يشاركوا في النضال السلمي وهم يمارسون حياتهم الطبيعية مما يعني انها ثورة مجتمع بكامله. اما في الثورة المسلحة فالمشاركة قاصرة على فئة محددة ممن يستطيعون حمل السلاح من الشباب والرجال بينما يكتفي الآخرون بالدعم المادي والمعنوي فقط. هذه الميزة لها نتائج سلبية بعد قطف ثمار الثورة حيث يرى المناضلون الذين شاركوا في الثورة المسلحة انهم الأولى في السلطة وفي نيل الامتيازات وقد يؤدي ذلك الى نشوء نزاع مسلح جديد خاصة إذا كان هؤلاء المناضلون من شريحة معينة او من فئة عرقية او طائفية معينة من المجتمع. فالفئات الأخرى التي لم تشارك في العمل المسلح لأي سبب كان تشعر بأن مصالحها قد تضررت بعد انتصار الثورة نتيجة هيمنة المناضلين على الثروة والسلطة في البلد المعني. اما في حالة الثورة السلمية فالمشاركة جماعية وقطف الثمار جماعي لذلك يبقى الوضع أكثر استقرارا بعد انتصار الثورة إذا لم تكن هناك مهددات أخرى مثل العوامل الخارجية او غيرها.
هناك من يقولون ان الثورة السلمية تعبر عن الجبن والخوف والخنوع ولكن هذا غير صحيح، فقد اثبتت التجربة أن النضالات السلمية تحتاج الى شجاعة أكبر من التي يحتاجها المناضلون في الثورات المسلحة. ففي ميدان المواجهات يتقدم المناضلون السلميون بصدور عارية امام دبابات القمع ورصاصات القهر حاملين لافتات بمطالبهم ويرددون شعارات بأهدافهم ولا يخشون الموت معتبرين ان كل شهيد يسقط، يحفزهم على المزيد من الصمود، وكل قطرة دم تسيل، تسقي شجرة نضالهم العادل.
في المقابل تحدث المواجهة في الثورات المسلحة بين نار ونار، فأنت تحمل بندقية وأنا احمل بندقية، ومن يستخدم بندقيته بشكل أفضل يمكن ان ينتصر. فالتكتيكات العسكرية والخبرة القتالية هي العنصر الحاسم وليس شجاعة وجرأة المقاتلين فكم من مقاتل جبان أصبح بطلا ورمزا للشجاعة في نظر شعبه وكم من رعديد يخزل رفاقه أثناء المواجهات ويعلو صوته اثناء قطف الثمار لمجرد أن الثورة قد انتصرت.
الانضباط والسيطرة والتحكم سمة تسجل لصالح الثورات المسلحة، فالمقاتلون وبحكم طبيعتهم العسكرية منضبطون في سلوكهم اثناء مرحلة الثورة او ما بعدها، كما ان قدرة قيادة الحركة الثورية في السيطرة على تصرفات الثوار اثناء الثورة وتوجيهها صوب الأهداف المرسومة كبيرة جدا مقارنة بالحراك السلمي الذي قد يصاحبه أحيانا بعض الفلتان والفوضى وعدم قدرة قيادة الحراك السلمي في التحكم على كل ما يجري في ميدان المواجهات.
التغييرات التي تحدثها الثورة المسلحة يمكن ان تكون تغييرات جذرية سريعة من حيث عامل الزمن بينما الحال مختلف بالنسبة للحراك السلمي حيث ان احداث التغييرات الجذرية يأخذا وقتا طويلا. كما ان الثورة المسلحة تحمي نفسها بالسلاح من كل متربص بها بينما يبقى الحراك السلمي عرضة للسرقة من قبل المتربصين.
اخذا في الاعتبار كل هذه العوامل التي أشرنا سلفا، نعود لنختم الحديث بطرح السؤال مرة أخرى، وهو أي الخيارات هي الأفضل بالنسبة لنا؟