وماذا لو كان الشيخ عبدالحي يوسف إرتريا؟
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح
يعد الشيخ عبدالحي - حفظه الله - أحد أبرز علماء السودان المميزين في فقههم بالدين، وفي جهرهم بالدعوة،
وفي صدعهم بالحق، وتعجيلهم بالبيان، في وقت الحاجة.
خطيب مفهوه، ومتحدث لبق، فصيح اللسان، إذا ما صعد المنبر ملكه، وسيطر عليه، يحرك الوجدان، ويوقظ النيام، ويفتق الأذهان.
وهو في الوقت ذاته مفت قدير، عالم بالأقوال، عارف بمنهج الفتيا والافتاء، في وصل النص بالواقع، وفي تتبع مواطن النظائر والأشباه، في مظانها ومصادر ها الأولى، من المراجع الفقهية.
وهو داعية حذق، حذر، فطن، مقدام، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، سلفي دون جمود وتحنط، في التراث، يقبل منه الحق والصواب، ويلغي منه الغث والباطل، غير منعزل ولا منطو عن الواقع.
وهو أيضاخلفي، دون تماه وانقياد، يقدر علماء الخلف، كما يقدر علماء السلف، رائده وقائده الدليل، يقارن ويرجح.
ومهما قلت فيه، فإنه عالم من أنضج وأفقه علماء السودان.
عرفته في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وأنا يومئذ طالب وهو من دفعتي، غير أني خريج في كلية أصول الدين، تخصص فرق إسلامية، وهو خريج في كلية الشريعة، ربما تخصص الفقه، أو أصول الفقه، كما عرفته عضوا في عديد من الهيئات والروابط العلمية الإسلامية.
فرضت عليه أحداث السودان الأخيرة، أن يكون كما كان، في الواجهة والصدارة.
يتقدم الصفوف، ولا يتولى يوم الزحف، فبرز بقوة، وظهر بشدة.
يقود المسيرات، ويحرض المؤمنين على الثبات، لمواجهة ما يحاك للسودان، من مؤامرات خارجية، وأخرى داخلية، تستهدف هويته الإسلامية، أو سيادته الوطنية، أيا كان الذي يحيكها.
وهنا تعالت أصوات، يقال إنها أصوات سفهاء الشيوعيين، تنال من مواطنية الشيخ عبدالحي، ملحقة إياه بالإرتيين، زاعمة أنه حديث عهد بالإسلام، أسلم وتعلم على يد السودانيين، في إشارة خفية، تقلل من فقه الإرتريين بالإسلام، ومن عراقة الإسلام وأصالته في إرتريا.
ولأن إرتريا نصرانية، كما تتوهم هذه المتوهمة، لا تقبل به، ولا يجد له فيها مكانا، جعل من السودان موطنه، وزعم أنه سوداني.
تقول فيه كل هذا، وهو دنقلاوي، من تلك القبيلة النوبية التي حكم بعض أبنائها السودان، ومنهم الرئيس جعفر محمد نميري، ويقال عبود أيضا رحمهما الله.
وهنا تثار إشكالية متقادمة، ومتجددة، في الآن نفسه، من إشكاليات السودان الحالي، المتعددة والمتنوعة.
وهي إشكالية الهوية، في السودان، وارتباطها بالسلطة والثروة.
ذلك أن إلحاق الشيخ عبدالحي بإرتريا، والإرتريين ليست هي مجرد خطوة أولى وأساسية، في سلب المواطنة السودانية، عن الشيخ عبدالحي، ولو من باب المكايدة، وإنما هي رسالة ألى أبناء البجة قاطبة، في شرق السودان، من البني عامر، والهدندوى، وغير هما، بالدرجة الأولى والأساسية، من باب إياك أعني واسمعي يا جارة، يوجهها بعض أبناء الشمال، من أهل السودان، بين الحين والآخر، بعض الإسلاميين منهم والشيوعيين، والطرقيين الصوفيين.
ولابد أن يلحقها بهم هؤلاء النفر من الشماليين، كما ألحقتها هذه الكاتبة الشمالية، بالشيخ عبدالحي.
ُولا بد أن يقولوا عنهم: إرتريون، إن لم يتواروا في الخلف، ويرضوا بالفُتاة، في الهامش، كالشاة المطيرة.
وإن لم يكفوا عن المزاحمة في تقاسم السلطة والثروة، وفي المطالبة بحقهم فيها.
قالوها من قبل لوزير الداخلية السيد أبراهيم محمود.
وسيقولونها لكل أبناء البجة، متى رأوهم في مقاعد الصفوف الأولى من مقاعد السلطة.
نعم الأوضاع السياسية في إرتريا، منذ الاستعمار الإثيوبي، دفعت بالإرتيين، وما زالت، وبالذات (دقي متاحت) - كما يسمونهم - إلى دخول السودان، طلابا، ومناضلين، وسياسيين، ومتاجرين.
وفي شرقه اختلطوا بامتدادهم الثقافي، المتحدثين بالتجرايت، والتبداويت، المتصاهرين معهم، القبائل هي القبائل، واللغة هي اللغة، أرحام بعضهم من بعض، كل منهم امتداد للآخر في موطنه.
وما جاءوهم من جنوب أفريقيا، ولا من كينيا، ولكن جاءوهم، من قرورة، وتسني، وكرن، وأغردات، ومصوع، وبارنتو ... وطال مكثهم بينهم، في هذا الشرق، فاكتسبوا جنسية السودان، بطريق وآخر.
والقانون الدولي يمنحهم هذا الحق، كما يمنحه لذلك السوداني الشمالي الذي استوطن أستراليا، وأمريكا، وبريطانيا، ويدخل مطار الخرطوم حاملا جنسيتين.
ولا يضيرهم في ذلك، أو يعيبهم، أن يحتفظوا بجنسيتهم الإرترية فالقانون السوداني نفسه يسمح بحمل جنسيتين.
وكثير من أبنائهم، أستشهد في أرض السودان الحديث، دفاعا عنه.
كما أن من أسهم في تأسيس الأرطة الشرقية، نواة الجيش السوداني، وخدموا فيها، في العهد البريطاني، هم من أسس جبهة تحرير إريتريا، المناضل عمر إزاز، المناضل أبو شنب، المناضل طاهر سالم، وآخرون غيرهم، رحم الله الجميع.
هذه هي الحقيقة التاريخية، ولكن الأزمة أن السودان، في تعريف بعض النخب الشمالية - حتى لا أقع في التعميم - هو من يتحدث العربية بلكنة الشمال، ويخيط ثوبه، كما يخيطه الشماليون، ويكور عمامته، كما يكورها الشماليون.
ويحلف بالطلاق، كما يحلفون بالطلاق، ويطرب للسلم الموسيقي نفسه الذي له يطربون، ويرقصون.
ويحيي بالكيفية التي يحيون بها، يدا على الكتف.
وإياه، إياه، أن يرطن بالتجرايت، في الجوازات والمطارات، والأماكن العامة، فهو المشكوك فيه وحده، وهي لغة إدانته، بخلاف غيره، من المحس، والدناقلة، والحلفاويين، يرطنون بلغتهم، ولا يمس ذلك سودانيتهم بأذى.
لقد مضى حين من الدهر ظل الشماليون الحاكمون يختبرون سودانية ابن الشرق البجاوي، الناطق بالتجرايت، باستنطاقه بعض الكلمات العربية، فمتى نطق (زيت) (ديت) و(أنزل) (أندل) ، (وذنب) (دنب) ، قالوا: ليس سودانيا، إنه إرتري، وإذا أغلظوا القول، قالوا: حبشي، أو خاساوي.
ويجب أن تراجع جنسيته، ويحقق معه.
مع أن هذا النطق من صميم اللغة العربية الفصيحة، ولكنها هي العقلية الشيفونية، لا ترى في الوطن إلا ذاتها، ولا تقيس مواطنية الآخرين إلا بمقاييسها، فتدمر ذاتها وتدمر معها كل الوطن.
والشرق عند هؤلاء الشيفونيين، هو شرق التبداويت، لا التجراييت، شرق الهدندوى، لا شرق البني عامر، ليس حبا في الهدندوى، والتبدايت ولكن إثارة للصراعات، والخصومات، بين المكونين البجاويين الكبيرين، في الشرق، البني عامر، الناطقين بالتجرايت، والهدندوى، الناطقين بالتبداويت، ولكل منهما إمتداده في إرتريا، فذلك من مقتضيات إعمال مقولة فرق تسد.
وهي سياسات أفورقي نفسها، الذي ساند (جبهة البجة) ولكن بجة دون بني عامر، الاسم المحظور تداوله في إرتريا، والحدارب هم البجة لا غير، كما نظر أفورقي، في وثيقته الشهيرة ( نحن وأهدافنا).
هذا ما يعاني منه السودان، وهذا ما نعاني منه - نحن الإرتريين - من العقلية الأكسومية الشيفونية، التي صبغت إريتريا بصبغتها الأكسومية.
إن لم تتحدث التجرنية فأنت لست إرتريا، ومعاملتك تكون في المؤخرة، لأنها مكتوبة بالعربية، ولأنك لا تجد من يتفاهم معك، وعليك أن تأتي بترجمان.
ليس في مطار الدخول في العاصمة أسمرا، وإنما أيضا في الدوائر الحكومية، بكرن، وأغردات، وبارنتو، وتسني، ونقفة، وأفعبت، حتى قرورة، حيث التجرايت، والبلينايت، والتبداويت، والكنامايت، وسائر لغات البجة، هي لغات الأصالة، ولكنها مغيبة إلا في الرقص.
يصدر قرار إدانتك، أو براءتك بالتجرنية، وأنت في محكمة (تبح) في قرى الساحل، تبحث عن من يقرأه لك، يالسخرية القدر.
من هنا ظن بعض السودانيين، أمثال هذه الكاتبة الشمالية، أن إريتريا نصرانية الدين، لا مكان للإسلام فيها، وعلى يد الشماليين أسلم ويسلم أبناؤها.
أكسومية اللغة، لا وجود للعربية الشمالية فيها، أعني شمال الجزيرة العربية، ومن لسان شمال السودان يستلف الإرتريون عربيتهم.
وكل من تحدث العربية يريد في نظر هؤلاء الشماليين، تقمص شخصية الإنسان الشمالي في السودان.
في حين أن أبرز لغاتنا وأكثرها إنتشارا، وأعرقها تاريخا (التجرنية) في الهضبة الأكسومية، و(التجرايت) في المنخفضات البجاوية حميرية المنبع، والمشرب، عربية جنوب الجزيرة العربية، لا عربية شمال الجزيرة العربية.
وكان ملك حمير يقول: من دخل بلاد حمير فاليحمر. أي يتكلم لغة حمير.
وقال أحد علماء النحو الأوائل: ما عربية حمير بعربيتنا.
إذن هناك عربيتان، عربية حمير، وعربية عدنان.
وما عربيتنا الحميرية نحن في إرتريا، عربية السوداني الشمالي، في السودان.
وعمر هاتين اللغتين الحميريتين، (التجرنية) و( التجرايت) في المنطقة، يعود بإجماع كل المؤرخين، إلى دخول قبيلتي (حبشت) و (أجعز) من جنوب الجزيرة العربية.
ولم يكن السودان وقتها شيئا مذكورا.
ما السودان إلا تشكيل استعمار ي حديث.
لذا من المهم لاستقرار السودان، إعادة تعريف السودان تعريفا جديدا، يضمن للجميع حقوقهم في تقاسم السلطة والثروة، البجة منهم، وغير البجة.
فكما يذكر أبو القاسم حاج حمد الرباطابي، رحمه الله مستشار الرئيس الارتري أفورقي أن الانجليز طرحوا دولة البجة الكبرى، وكانت مصر هي المعارضة، لمصالح لها في سواكن.
ومثله أيضا يلزم إعادة تعريف إرتريا تعريفا جديدا، فإرتريا أيضا، ما هي إلا تشكيلة استعمارية حديثة، بمكون بجاوي، وإيفاتي، وأكسومي، جمعهم المستعمر، في هذه البقعة التي أسماها أرتريا، على غير تشاور منهم.
نعم، لهم الإرادة المشتركة، للعيش المشترك معا، في دولة أرتريا بحدودها الجغرافية الموروث عن المستعمر، كما ناضل لها جميعهم، ولكن ما زالوا حتى اللحظة، يتعاركون، وما استقرت إرتريا، ولا نمت، منذ استقلت رسميا، عام ١٩٩٣م.
وهي اليوم في كف عفريت، لا أحد يعرف بالضبط ألى أين هي متجهة، بموانئها البحرية، بعد هذه الاتفاقيات التي أمبرمها، رئيس غير شرعي، مع الجارة إثيوبيا، والآن بعث بوزير خارجيه، إلى الخرطوم، ليعزز من نفوذه الاستحواذي.
ليكن الأرتريون والسودانيون واقعيين، فإشكاليتهم الأولى والأساسية، هي السلطة والثروة، محتكرة في السودان بيد النخبة الشمالية، ينهبها منهم النهابون، ويجوع عنها المهمشون، من مكون السودان الآخر، البجة في الشرق، والفور في الغرب، ومن قبل الجنوب، في الجنوب.
ومحتكرة أيضا في إرتريا، بيد نخبة شيفونية، من النخبة الأكسومية، لا أحد يستطيع مساءلتها ومحاسبتها، بالطريقة نفسها التي كانت محتكرة بها في عهد الاستعمار الاثيوبي.
أتفق مع الأخ محمد نور كراني، في مبدأ إعادة النظر، فيما يتعلق بالهوية، واللغة، والرؤية المستقبلية.
وكنت طرحت هذا من قبل، في مجموعتنا هذه، وأعيد طرحه ثانية، مشددا على عدم التجمد في (سنة الآباء).
فإنها - كما قال الأخ كراني - غير كافية، في حل إشكالية الوطن الرئيسة، السلطة والثروة.
تمنياتي الخالصة للسودان الشقيق، وشعبه الأبي، بكل مكونه، دوام الاستقرار والازدهار.
وأيضا للشعب الارتري سائلا الله أن يديم التلاحم بين الشعبين، السوداني والإرتري، ويجنبهما شر الفتن.
وشكرا للجميع