المنطقة بعد المصالحة بين إريتريا وإثيوبيا (3) مصر عين على النهر وأخرى على البحر
بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبدالله - باحث وكاتب صحفي
قام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوم 18 يوليو بزيارة إلى الخرطوم بعد يومين فقط من اختتام
أسياس أفورقي زيارته الأولى إلى أديس أببا بعد 20 عاماً من القطيعة. لا يمكن تفسير توقيت هذه الزيارة، التي لم يكن مخطط لها مسبقاً، سوى بالقلق المصري من التقارب بين إريتريا وإثيوبيا واحتمالات تأثيره سلباً على المصالح المصرية. لكن لماذا قد تكون مصر قلقة من المصالحة بين إريتريا وإثيوبيا ؟
مصر وإثيوبيا - تاريخ متداخل ومضطرب:
من النادر أن يرتبط مصير بلد ببلد آخر ليس له معه حدود مشتركة مثل ارتباط مصير مصر بإثيوبيا. تعتمد مصر على مياه النيل، التي ينبع 86% منها من إثيوبيا، بما يقارب الـ 90% من احتياجاتها المائية. وقد كان أباطرة الحبشة عندما يريدون الضغط على حكام مصر في أمر ما يهددونهم بتحويل مجرى نهر النيل، بينما كان حكام مصر يبتزونهم أحياناً بتأخير إرسال بطريرك (أبونا) الكنيسة الحبشية، الذي كانت تعينه كنيسة الإسكندرية منذ دخول المسيحية إلى مملكة أكسوم في القرن الرابع الميلادي.
بعد افتتاح قناة السويس في 1869 ازداد اهتمام مصر بأمن البحر الأحمر. حاول المصريون في 1875 التوغل في الأراضي الإثيوبية من مصوع بهدف إسقاط الإمبراطور يوهانس الرابع الذي كان يهدد تواجدهم في البحر الأحمر ومنعهم من ربطه بالسودان وقد كانوا يراهنون في حملتهم تلك على دعم الإرتريين ومسلمي الحبشة. لكن الحملة المصرية فشلت في 1876 عندما هزمت القوات المصرية في معركة مشهورة. عندما انتصار الثورة المهدية في 1885، انسحبت القوات المصرية من السودان عن طريق ميناء مصوع بمساعدة الإمبراطور يوهنس الرابع الذي عقدت معه إنجلترا اتفاقية لتسهيل انسحاب هذه القوات. بعد عدة أيام من انسحاب القوات المصرية، احتلت إيطاليا ميناء مصوع.
طالبت مصر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بضم مصوع إليها مدعية أن إيطاليا استولت على مصوع من حامية مصرية ووعدت بإعادتها إلى السيادة المصرية. ثم طالبت مصر بضم كل إريتريا إليها لكن عندما فشلت كل مساعيها أيدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بربط إريتريا فيدرالياً مع إثيوبيا في 1950 وقد كانت الدولة المسلمة الوحيدة التي أيدت هذا القرار.
استمرت الكنيسة المصرية تعين من بين قساوستها رأس الكنيسة الإثيوبية لمدة 16 قرناً حتى نجح هيلي سلاسي في 1959 في فك ارتباطها مع الكنيسة المصرية لتخسر مصر ورقة ضغط استخدمتها لعقود طويلة. عقدت مصر في نفس ذلك العام اتفاقية تقاسم مياه النيل مع السودان وتوجهت لبناء السد العالي. وكرد على الاتفاق بين مصر والسودان، استعانت إثيوبيا بخبراء في مكتب استصلاح الأراضي في الحكومة الأمريكية لإجراء دراسة حول كيفية الاستفادة من مياه النيل. استمر عمل الخبراء من 1959 إلى 1964 وسلموا في ختام عملهم دراسة إلى الحكومة الإثيوبية أوصوا فيها بإقامة 33 سداً على حوض النيل الأزرق من ببينها سد على الحدود الإثيوبية - السودانية كان يفترض أن يولد ثلاثة أضعاف الطاقة الكهربائية التي كان سيولدها سد أسوان.
بعد أن شعرت إثيوبيا بخطورة التوجه الناصري المعادي للأنظمة الملكية والذي كانت تعتقد إنه كان يرمي إلى تعريب منطقة القرن الإفريقي، وبعد أن فصلت كنيستها عن الكنيسة المصرية وتصاعد خلافها المائي مع مصر، توجهت إثيوبيا إلى أفريقيا وصارت مقراً لمنظمة الوحدة الإفريقية وتحالفت مع إسرائيل عدوة العرب ومصر في ذلك الوقت، ووثقت علاقاتها مع الولايات المتحدة. في مقابل التوجه الإثيوبي، دعمت مصر الإرتريين الذي بدأوا مناهضة ربط بلادهم باتحاد فيدرالي مع إثيوبيا. ومع أن جبهة التحرير الإريترية تأسست في عام 1960 في القاهرة، فقد كانت مصر حريصة، بعد قيام منظمة الوحدة الإفريقية في 1964، على عدم إظهار أي دعم علني للثورة الإريترية مع ذلك استمر التوتر بين البلدين خلال عقد الستينات بسبب مياه النيل وشكوك إثيوبيا تجاه سياسة مصر في منطقة القرن الإفريقي.
كانت المفارقة في علاقة البلدين، إنه بعد سقوط نظام هيلي سلاسي في 1974 وتوجه إثيوبيا نحو المعسكر الاشتراكي، توجهت مصر نحو الغرب وتخلصت من سياسات عبد الناصر الراديكالية. استمرت العلاقة بين البلدين متوترة طيلة فترة حكم نظام منغستو. بجانب اختلاف توجهاتهما السياسية، تسبب إعلان مصر في عام 1979 عن نيتها نقل بعض مياه النيل إلى القدس في تصعيد التوتر بين البلدين حيث هددت إثيوبيا بتحويل مجرى النيل الأزرق، لكن نظام منغستو لم يكن يشكل تهديداً حقيقياً لمصالح مصر المائية بسبب انخراطه في الحرب في إريتريا والحرب ضد شعبه وبسبب سوء علاقاته مع الغرب.
كان النظام الإثيوبي الجديد الذي جاء إلى السلطة في مايو 1991 بقيادة ملس زيناوي أكثر طموحاً واستقراراً من الأنظمة التي سبقته. اتبع النظام منذ البداية سياسات إقليمية ودولية نشطة. في الأول من يوليو 1993 وقع ملس زيناوي مع الرئيس المصري حسني مبارك مصر اتفاقية إطار عام للتعاون بين بلديهما. وفي 1999 توصلت دول الحوض إلى اتفاقية مبادرة حوض النيل ضمت كل دول حوض النيل وهي الأولى التي تشمل كل هذه الدول. وفي 2010 وقعت 6 من دول المنبع على اتفاق الإطار التعاوني لدول الحوض ولكن دولتا المصب مصر والسودان لم توقعا عليها. لم يمنع عدم توقيع دولتي المصب على الاتفاق الإطاري من شروع إثيوبيا في بناء السد في 2011 مستغلة حالة عدم الاستقرار السياسي التي مرت بها مصر عقب ثورة 25 يناير وقد ساعدها الاستقرار النسبي الذي شهدته أوضاعها الداخلية والتطور الكبير في علاقاتها مع السودان.
أثار شروع إثيوبيا في بناء السد قدراً كبيراً من الإرباك في مصر تجلى بوضوح في اللقاء الذي أجراه الرئيس المصري المعزول محمد مرسي مع بعض قيادات المجتمع في يناير 2013 حول كيفية ضمان تدفق حصة مصر من مياه النيل. أظهرت وقائع اللقاء المسربة إنه ليس لدى مصر خيارات واقعية للتعامل مع التطور الجديد في نهر النيل والذي قد يمس مصالحها الاستراتيجية. بعد مرور أكثر من 5 سنوات على تلك الحادثة تبين أن مصر عالقة في نفس حالة الإرباك حول سد النهضة عندما طلب الرئيس السيسي من رئيس الوزراء الإثيوبي، ابي أحمد أن يقسم في مؤتمر صحفي بأن لا يضر بمصالح مصر المائية.
انحاز السودان، شريك مصر في اتفاقية تقاسم المياه في 1959 والذي رفض التوقيع على اتفاق الإطار التعاوني لدول حوض النيل في 2010، انحاز إلى جانب إثيوبيا في مشروع سد النهضة مما أضعف الموقف التفاوضي المصري. في تبرير موقف بلادهم، قال مسؤولون سودانيون إنهم سيستفيدون من سد النهضة في مجالي الري والكهرباء، لكن لا يمكن هنا إغفال الأسباب السياسية وراء الموقف السوداني مثل الخلاف بين البلدين حول مثلث حلايب.
ليس مياه النيل وحدها هي التي تقلق مصر:
وثقت مصر في العقدين الماضيين علاقاتها مع إريتريا التي كانت خلالهما الأخيرة في نزاع مع إثيوبيا. وبينما لم يكن سراً استضافة إريتريا لبعض التنظيمات الإثيوبية المعارضة المسلحة، اتهمت إثيوبيا مصر بتدريب هذه التنظيمات وبمساعدتها بالتنسيق مع إريتريا. وباتفاق إريتريا وإثيوبيا على المصالحة وتقاربهما السريع تكون خسارة ورقة ضغط مهمة في مواجهة إثيوبيا.
مع أن رئيس الوزراء الإثيوبي ابي أحمد أعلن في مؤتمر صحفي عقده يوم 27 السبت 27 أغسطس أن العمل في تشييد سد النهضة تواجهه مشكلات مالية وفنية وعن إيقاف الشركة الحكومية التي يديرها الجيش والمسؤولة عن الجوانب الميكانيكية والكهربائية والهيدرولوجية في السد، فهذا لا يعني أن مشكلة مصر مع السد قد حلت، ستعطيها مشاكله فسحة أطول من الوقت للتوصل لاتفاق مرضٍ مع إثيوبيا بمساعدة حلفائها الخليجيين أو بدون مساعدتهم. لكن مصر معنية أيضاً بأمن البحر الأحمر الحيوي لقناة السويس.
ومصر التي انزعجت كثيراً من اتفاق السودان مع تركيا لتقوم أنقرة بترميم المنازل القديمة في ميناء سواكن وتخوفت من أن تبني تركيا قاعدة عسكرية في الميناء التاريخي، غالباً ما تكون أكثر انزعاجاً من عودة إثيوبيا إلى البحر الأحمر واحتمال أن تبني قاعدة بحرية في أحد موانئه.
يمكننا إجمال الأسباب التي قد تجعل مصر قلقة من المصالحة بين إريتريا وإثيوبيا على النحو والسرعة التي تمت بهما، فيما يلي:-
1. خسارة حليفتها إريتريا وانتقال أسمرا من العداء مع أديس أببا إلى التحالف معها.
2. تغيير موازين القوة الإقليمية لصالح إثيوبيا في القرن الإفريقي والمنطقة ككل.
3. قيام ترتيبات أمنية جنوب البحر الأحمر بتنسيق خليجي وإشراك إثيوبيا وتغييب مصر.
4. المنافسة المتوقعة بين مصر وإثيوبيا على الاستثمارات والدعم الخليجي.
بتحقيق المصالحة بين إريتريا وجيبوتي تكون دول القرن الإفريقي الأربع؛ إثيوبيا، إريتريا، الصومال وجيبوتي في طريقها لتشكل تكتلاً إقليمياً جديداً برعاية وتمويل من السعودية والإمارات. سأختتم هذه السلسلة بتناول ملامح ومستقبل القرن الإفريقي الجديد الذي نتج عن المصالحة بين إريتريا وإثيوبيا.