قتل الصيادين وإغراق مراكبهم لماذا يتظاهر المواطنون في إريتريا ضد الإمارات؟
بقلم الأستاذ: مهدي العرباوي المصدر: خبر بريس
لم يكن صباح الأحد 8 يوليو/تموز الماضي عادياً في إثيوبيا وجارتها إريتريا فقد استيقظ سكان البلدين بين مصدّق ومكذّب
على نبأ مغادرة طائرة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي إلى العاصمة الإريترية أسمرا بعد قطيعة استمرت 20 عاماً.
ذاك اليوم الذي يصادف عطلة نهاية الأسبوع في أديس أبابا، تسمّر الملايين من المواطنين الإثيوبيين أمام الشاشات التلفزيونية لمتابعة الاستقبال الشعبي الذي لقيه آبي أحمد من مواطنين إريتريين اصطفوا بشكل عفوي على جانبي طريق المطار.. النقاشات السياسية وأحاديث المصالحة كانت مسيطرة تماماً على مجالس المدينة في تلك الأيام، خصوصاً أن الشعبين الإثيوبي والإريتري تربطهما صلات القربى والمصاهرة ويشتركان في معظم الثقافات والعادات والتقاليد، لم تفرقهما إلا لعنة السياسة والحروب.
حتى الفنانين واكبوا على عجلٍ أجواء السلام والتطورات السياسية المذهلة فأطلق Abebe Aynete رائعته «سلام» التي غنّى فيها للحب والسلام والتعايش بين البلدين الجارين وبين المسلمين والمسيحيين والقوميات المختلفة.. كنت شخصياً أتنقل في تلك الفترة من العاصمة أديس أبابا إلى مقلي عاصمة إقليم تغراي ومنها إلى بحر دار عاصمة إقليم الأمهرا، لاحظتُ أن الجميع كان يعبر عن تفاؤله بالمصالحة مع «إريترا» كما يسمونها في اللغتين الأمهرية والتغرينية.
كان هذا هو المشهد في إثيوبيا، أما في إريتريا فالمشهد اختلف كثيراً صحيح أن الآلاف خرجوا بشكلٍ عفوي لاستقبال آبي أحمد كنتيجة طبيعية لزعيم يأتي إلى بلادهم بعد قطيعة استمرت 20 عاماً، لكن النخب السياسية والمثقفين الإريتريين في الخارج «وهم كثر» كان لهم رأي آخر، إذ تلقوا أنباء المصالحة بين البلدين بحذرٍ وفتور ليس لأنهم لا يريدون المصالحة مع البلد الشقيق الجار ــ رغم مرارات الحرب ــ بل نظراً لأن اتفاق السلام الذي تمّ توقيعه لاحقاً خلال زيارة للرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى أديس أبابا، لم يلبِّ طموحات الشعب الإريتري ولم يغير من واقعهم شيئاً لأسباب سنتعرض لها بالتفصيل في هذه المقالة.
مظاهرة 31 أغسطس في جنيف:
يوم الجمعة 31 أغسطس/آب الماضي، احتشد الآلاف من الناشطين ورموز المعارضة الإريترية بكافة أطيافهم ورموزهم في مظاهرة أمام مكتب الأمم المتحدة بمدينة جنيف السويسرية هدفها إرسال رسالة إلى المجتمع الدولي بأن اتفاق السلام الذي وقعه كل من رئيس النظام الإريتري أسياس أفورقي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مطلع يوليو/تموز الماضي لم يغير شيئاً من أوضاع الشعب الإريتري.
وذكّر الناشطون الإريتريون من خلال اللافتات التي رفعوها بأن إريتريا التي يُطلق عليها لقب «كوريا الشمالية إفريقيا»، لا تزال دون دستور ولا قانون ولا احترام لحقوق الإنسان، إضافة إلى تواصُل القمع والتنكيل بآلاف المواطنين والخدمة العسكرية التي تستمر لـ10 سنوات أو 15 عاماً قسراً ودون مقابل مادي. كما أن نظام أسياس أفورقي لا يسمح للمواطنين من الفئة العمرية (14 ـ 60) سنة بالسفر إلى خارج البلاد منعاً نهائياً ولا حتى إلى إثيوبيا التي وقّع معها اتفاق سلام قبل أقل من شهرين!
وقفة احتجاجية إريترية أخرى في أوتاوا بكندا ضد الإمارات:
الأسبوع الماضي، نظّم نشطاء إريتريون وقفة احتجاجية أخرى أمام سفارة دولة الإمارات في كندا لتسليط الضوء الضوء على الجرائم التي ترتكبها القوات الإماراتية المتمركزة في قاعدة عصب بحق الصيادين من قومية العفر بإقليم دنكاليا على السواحل الإريترية في البحر الأحمر. وللإشارة إلى أن الجرائم التي تورط فيها تحالف السعودية والإمارات امتدت إلى إريتريا ولم تقتصر على الشعب اليمني فقط.
وقد أنشأ عدد من الناشطين الإريتريين خلال الأيام الماضية هاشتاغ (دنكاليا ليست للبيع) على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض تعريف الرأي العام بقضيتهم، حيث أوضحت الروائية الإريترية حنان صالح أن موقع بلادها الاستراتيجي هو سبب معاناة الشعب. بينما سأل بكري حميد عن «الخطأ الذي ارتكبه سكان القرن الإفريقي في حق الإمارات حتى تكشر عن أنيابها تجاهه».
ودنكاليا لمن لا يعرفه هو إقليم يقع في جنوب إريتريا عاصمته مدينة عصب (بها القاعدة الإماراتية)، تعيش فيه قومية العفر وحدها تقريباً. وتبدأ حدود إقليم دنكاليا من منطقة «رأس مديرا» الحدودية مع جيبوتي إلى «أرافولي» القريبة من ميناء مصوع. أما العفر أو العفار فهُم مجموعة عرقية من أصول يمنية تعيش في دول القرن الإفريقي منذ حوالي 500 عام، ويعد الشعب العفري من أقدم الشعوب الحامية التي انتشرت في القرن الإفريقي «إثيوبيا، إريتريا، جيبوتي» على امتداد سواحل البحر وهضبتي الحبشة «الإثيوبية والإريترية» منذ آلاف السنين. والعفر تربطهم صلات قرابة بشعوب أورومو، وسيداما والصومال والأكاو والبجا.
أبرز الاعتداءات الإماراتية على قومية العفر:
التنظيم الديمقراطي لعفر البحر الأحمر وهو تنظيم إريتري معارض، اعتبر في بيانٍ سابق أن القوات الاماراتية تتعمد استهداف المدنيين في هجماتها بالتركيز على الصيادين العزل واعتبر ذلك انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي الإنساني الذي يحظر إستهداف الصيادين والسفن والقوارب التابعة للمدنيين.
وفصّل البيان موضحاً أن مروحية إماراتية قصفت قارب صيد إريترياً في المياه الإقليمية يوم السبت 18 أغسطس/آب ما تسبب بإصابة صاحب القارب أحمد عمر إلى جانب 2 من رفاقه. بينما ذكر تقرير لصحيفة السلام المتخصصة في شؤون القرن الإفريقي أن طائرات التحالف في البحر الأحمر قصفت الشهر الماضي 3 قوارب صيد أخرى بالقرب من أرخبيل دهلك الإريتري أدى ذلك إلى سقوط 4 جرحى أحدهم بحالة حرجة جداً والثلاث الآخرين إصاباتهم بالغة. وهم: رمضان محمد صالح، ومسلم سليمان عبدالله، وسراج عوض عيد.
وقال إسماعيل قبيتا، المدير التنفيذي لمنظمة عفر البحر الأحمر لحقوق الإنسان في لندن، إن القوات الإماراتية الموجودة في إريتريا تقتل عشرات الصيادين العفريين، وتنفذ حملة شعواء وتعدياً سافراً على المواطنين في إقليم عفر البحر الأحمر بالتواطؤ مع النظام الإرتري، لافتاً إلى أن القوات الإماراتية أغرقت أكثر من 50 زورقاً للصيد.
وفي حديثٍ خاص مع الكاتب، قال الصحافي بجريدة السلام شِفا العفري إن «الشعب الإريتري بصفة عامة والشعب العفري بصفة خاصة يعاني الأمرين من نظام أسياس أفورقي، مبيناً أن اتفاقية السلام بين بلاده وإثيوبيا لم تحمل أي انفراجة للشعب الإريتري وليست هناك أي بوادر للتحسّن حتى الآن».
ويضيف العفري: «دولة الإمارات تستأجر ميناء عصب، كما بنت ميناءً عسكرياً ومعسكراً ومدرجاً للطائرات الحربية شمال عصب في منطقة مكعكا، وأُقيمت القاعدة ــ بحسب شفا ــ في منطقة كانت تعتبر مصدر دخل للسكان، حيث يعمل الآلاف في استخراج الملح تم تشريدهم حالياً، والأخطر من هذا كله قصف الطيران الإماراتي لقوارب الصيادين في البحر عشرات الحوادث صارت منذ أن دخلت القوات الإماراتية قبل 3 سنوات، وتزعم حكومة أبوظبي أن الصيادين يهربون السلاح لجماعة الحوثي، وتحاول أن ترهبهم من السفر إلى اليمن فمصدر تموينهم هي اليمن منذ القدم يبيعون الصيد هناك ويشترون المؤن الغذائية ليعيلوا عائلاتهم». بحسب إفادات الصحافي شفا العفري.
يقدر حقوقيون إريتريون عدد من شرّدهم التحالف السعودي الإماراتي من قرية مكعكع وحدها بأنهم 1500 شخص فروا إلى إثيوبيا وجيبوتي، فضلاً عن آلاف آخرين ممن كانوا يعتمدون على سباخها (ملاحاتها) الوفيرة كما يطلق عليها السكان.
ويصف الشاب إبراهيم محمد عمر الذي لجأ إلى إثيوبيا الجنود الإماراتيين بأنهم «وحوش، يمارسون الغطرسة والإذلال على الشعب المسكين، ويعاملوننا كأننا حيوانات».
ويتفنن الجنود الإماراتيون في إذلال السكان، ويرفض هؤلاء حتى رد السلام ويقابلونه بالاستهزاء والسخرية، وفق شهادة للناشط الشبابي إبراهيم أحمد وطابقتها شهادات أخرى من عدد كبير من الإريتريين.
رسائل إريترية مزدوجة من أوتاوا إلى جنيف:
نعتقد أن الوقفة الاحتجاجية التي نظمها شباب إريتريون يوم الاثنين الماضي أمام سفارة الإمارات في كندا، إلى جانب مظاهرة جنيف 31 أغسطس/آب من شأنهما لفت انتباه المنظمات الدولية والمهتمين بقضايا حقوق الإنسان وحتى الرأي العام العالمي إلى أن المصالحة التي تم توقيعها الشهر الماضي بين إثيوبيا وإريتريا لم يكن الشعب الإريتري طرفاً فيها، وأن أسياس أفورقي لم يتخذ أي خطوة إصلاحية كتلك الخطوات التي اتخذها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ضمن إجراءات إصلاحية بدأها رئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالين الذي أمر بإغلاق معتقل «ميكالاوي» أكبر سجن سياسي في البلاد قبل استقالته بحوالي شهر.
وتحمل رسالة النشطاء الإرتريين المزدوجة في وقفتي أوتاوا وجنيف رسالةً أخرى إلى آبي أحمد مفادها أنه لا أحد يرفض السلام والمصالحة بين البلدين إلا أن توقيعها مع أفورقي لن يخدم غرضاً فالأخير فاقد للشرعية حسب تعبيرهم، بجانب أنه متقلب ولا أمان له. سبق وأن نقض اتفاقاته مع المعارضة الإريترية بعد أيام قليلة من الاستقلال عن إثيوبيا فزجّ بقياداتها في السجون وأعدم العشرات منهم دون محاكمة، كما نقض اتفاقيات أخرى مع السودان وجيبوتي ومع قطر التي كانت الداعم الأول لنظامه لدرجة أنها كانت تقوم بدفع رواتب جنود الجيش الإريتري.
ونرى كذلك أن الوقفة الاحتجاجية أمام سفارة دولة الإمارات في أوتاوا بكندا ستلفت أنظار المنظمات الحقوقية بأن جرائم تحالف «عاصفة الحزم» لم تقتصر على الشعب اليمني فحسب بل امتدت إلى دول الجوار، وتحديداً سكان إقليم دنكاليا المحاذي للسواحل اليمنية، حيث تنطلق الهجمات الجوية الإماراتية والسعودية من قاعدة أبوظبي العسكرية في ميناء عصب الإريتري.
وفي الأساس لم تكن الإمارات بحاجة إلى المزيد من تشويه سمعتها في منطقة القرن الإفريقي باستهداف الصيادين الإريتريين الأبرياء فقد كان طردها من ميناء جيبوتي وتوتر علاقاتها مع الصومال مطلع العام الحالي مؤشراً واضحاً على رفض شعوب وحكومات القرن الأفريقي لأدوارها المشبوهة في المنطقة.
حتى اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا الذي قدمت أبوظبي نفسها كشريك مساهم فيه ولاعب أساسي في منطقة القرن الإفريقي الاستراتيجية، فإن تسلسل الأحداث يشير إلى أن الإمارات لم تسعَ في هذا الصلح إلا لتحقيق أهدافها المتمثلة في معاقبة جيبوتي التي طردتها من إدارة محطة حاويات «دوارليه» لذلك تريد أبوظبي أن تقطع الطريق على جيبوتي بحرمانها من عائدات استخدام إثيوبيا للميناء واستعاضة الأخيرة عن ميناء جيبوتي بميناء عصب الإريتري الذي تستثمر فيه الإمارات لتطويره زيادة على القاعدة العسكرية التي أنشأتها هناك منذ حرب اليمن عام.
أمر آخر ينبغي الالتفات إليه في الشأن الإريتري، وهو أن الوقفات الاحتجاجية تأتي وسط تطورٍ خطير يتمثل في قُرب صدور كتاب لوزير المالية الأسبق برهاني برهي بعنوان «إريتريا وطني» الذي طبع حديثاً في الولايات المتحدة الأميركية ومن المقرر توزيعه يوم الأربعاء المقبل.
وتتمثل الخطورة في كون الكتاب المنتظر يركز على شخصية أسياس أفورقي وتحالفاته ويشكك في قواه العقلية، والأعجب من ذلك أن مؤلفه الوزير السابق برهاني موجود حالياً في إريتريا ما يعني أن حاجز الخوف والرهبة قد انكسر، خاصة إذا ما تذكرنا أن العام الماضي قد شهد اندلاع مظاهرات حاشدة في قلب العاصمة الإريترية أسمرا قابلتها السلطات الأمنية بالرصاص الحي؛ ما أدى إلى مقتل العشرات واعتقال عدد آخر.
الرسائل السياسية المزدوجة وقبلها مظاهرات أسمرا إلى جانب الكتاب المتوقع تشير جميعها إلى تذمر الشعب الذي بات أغلبه مهاجراً ومطارداً خارج بلاده وإلى حتمية التغيير القادم في إريتريا، فمهما طال الليل لا بد أن ينبلج الفجر بالضياء والنور.