الصومال ولعبة الأمم في القرن الأفريقي
بقلم الأستاذ: الشافعي أبتدون المصدر: العربي الجديد
يقول المثل العربي "إذا عرف السبب بطل العجب"، ولكن ثمّة تحولات جذرية وسياسات انتقال سريعة في بنية النظام الإقليمي
في القرن الأفريقي، لم تتضح أسبابها الحقيقية بعد، ولم يتوقعها الخبراء، وغاب أدنى تحليل دقيق في التموضع الجديد لإثيوبيا في المنطقة عن حسابات كثيرين، ولم يخمن أحد أيضاً أن يذوب جليد التوتر بين مقديشو وأسمرة بين عشية وضحاها، على الرغم من أن الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، ماطل كثيراً في الكفّ عن تهريب السلاح للجماعات المسلحة المناوئة للحكومات الصومالية ما يعني أن سياسات تحالف جديدة يتم طبخها في الخفاء، إقليمياً وعربياً للقرن الأفريقي.
تحمل زيارة الرئيس الصومالي محمد عبدالله، إلى إريتريا استجابة لدعوة تلقاها من أفورقي دلالات كثيرة: أولاها أن الجماعات المسلحة بشقيها "القاعدة" و"داعش" سيفقدان حتماً خط الإمدادات العسكرية وشحنات التهريب (الأسلحة) من أسمرة، وثانيها أنها ستخرج النظام الإريتري من التقوقع والعزلة والعيش وحيداً بعيداً عن محافل الأسرة الدولية والإقليمية والأفريقية، وأخيراً أنها ستجعل منطقة القرن الأفريقي تؤول نحو المصالحة، على الرغم من أن شروط تطبيقها مرهونة بتذليل تحديات كثيرة، ومنها تتداخل الحسابات الخارجية والداخلية في المنطقة المثقلة بالهموم العالمية والصراع الخليجي.
بات جلياً أن سياسات الإمارات والسعودية تجاه منطقة القرن الأفريقي آخذة في التزايد، على الرغم من أن تحركات المـحمّدين، بن زايد في أبوظبي وبن سلمان في الرياض، ليست على نسق واحد، فولي عهد أبوظبي أكثر سرعة في المنطقة من ولي العهد السعودي، يتحرك سريعاً لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في المنطقة، لتأمين خططه التوسعية ونفوذ دولته في المنطقة، وهي سياسات إماراتية محورها الرئيسي استقطاب دول القرن الأفريقي عبر ملء الجيوب بالمال، وضخ بنوك دولها بمليارات الدولارات من دون وجود رؤى سياسية مستقبلية، أو أجندات تتماشى مع مصالح الإمارات الجيوستراتيجية مع بقية دول القرن الأفريقي، وهو ما سيهدّد مستقبلاً فرص بقاء هذا الود الذي نراه حالياً، وخصوصا بين أديس أبابا وأبوظبي.
أهملت دول الخليج، أو ربما تناست، الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي، وخصوصا الصومال، الذي لم يجد أدنى قدر من الاهتمام الحقيقي لحل نزاعاته السياسية طويلاً وقبل عقود، كما أن تلك الدول العربية التي كان لا بد لها من دعم هذا القطر العربي، من أجل تأمين الحديقة الخلفية للأمن الخليجي والعربي أولاً، لم تحقق ذلك، وما يجري حالياً من الهرولة تجاه المنطقة، ليس سوى تدارك لخطأ سياسات الماضي، وإعادة البوصلة نحو قراءة جديدة لمآلات الوضع الكارثي في المنطقة، وتماشياً مع خطط أخرى، ليست هي أيضاً في مسارها الصحيح والدقيق.
واضح أن سياسات الإمارات والسعودية تسير نحو دروب الخطأ، فتقوية العلاقات مع كل من إريتريا وإثيوبيا، والسعي نحو مصالحتهما بغية تطويع الصومال سياسة لا تجدى نفعاً، فدخول البيت الصومالي من الشباك بدل أبوابه المفتوحة للأشقاء الخليجيين، يعارض النص القرآني "واتوا البيوت من أبوابها"، والصومال مشهود له بسجله التاريخي الحافل بسياسة "إمعّة" مع السعودية والإمارات، عقودا.
بالعودة إلى زيارة الرئيس الصومالي إلى أسمرة، فإن الأمر جد مقلق حيال عدم وجود سياسات خارجية صومالية موجهّة، فالارتماء في حضن أفورقي يصب في مصلحة النظام الإريتري ليس إلا، بقدر ما يجسّد علاقات جديدة مع مقديشو، فهي زيارة لا تحمل للصومال سوى رسائل إماراتية، من أجل العدول عن موقفه المحايد، والانضمام إلى المحور المعادي للدوحة، وتقديم اعتذار رسمي لأبوظبي، بخصوص ضبط الأموال المهرّبة في مطار مقديشو في إبريل/ نيسان الماضي.
من الصعب حالياً أن يراجع الصومال قراره المحايد تجاه الأزمة الخليجية، ويُبطل هذا خيار استمالته نحو المحور السعودي/ الإماراتي، ومن المستحيل أيضاً أن يقدم اعتذاراً رسمياً لقضية يعتبرها سياسيون كثيرون تمس السيادة الصومالية. وليس المقام هنا البكاء على اللبن المسكوب، خصوصاً على حجب المساعدات الإماراتية عن الشعب الصومالي، وحرمان المرضى الصوماليين من خدمات مستشفى الشيخ بن زايد، على الرغم من أن أمل استئناف خدمات هذا المستشفى كبير.
في ما يخص القرن الأفريقي، هناك انفراجة حقيقية لكل من إثيوبيا وإريتريا، لكنها تبدو في ظاهرها أنها ستخنق جيبوتي، على الرغم من أنه يحظى بتحالفات قوية مع الصين وأميركا وفرنسا. ولكن في ما يتعلق بحسابات القرن الأفريقي الجديدة، لا تصب هذه التوازنات المتقلبة في مصلحته، فالنزاع الحدودي بين أسمرة وجيبوتي قائم، ولا تبدو في الأفق حلول لاحتواء هذا النزاع، سواء عبر تنازلات من الخصمين، أو وسيط قوي لحسم هذا الصراع. وما يشاع حالياً من مبادرة صومالية للتوسط بين جارتها جيبوتي وإريتريا يعزز من فرضية انتشال القرن الأفريقي من أتون الاضطرابات السياسية والنزاعات الحدودية.
أياً كانت التوازنات والتقلبات الجيوسياسية في القرن الأفريقي، فإن التحدّيات كثيرة أمام الصومال، للتأقلم مع تلك السياسات، أو مجاراتها على الأقل، فغياب الكادر البشري والفكر السياسي يعيقان رسم سياسات خارجية تخدم مصلحة البلاد قبل غيرها، ما يعكس اضطرابات وسياسات مضطردة هنا أو هناك، وربما سيتيه الصومال الجديد في فهم تلك السياسات، بأبعادها ومخاطرها، ليصبح في النهاية صفراً في معادلات التوازن الإقليمي والأفريقي.