الازمة الارترية السودانية ومسار التحالف الاقليمى
بقلم الأستاذ: أحمد نقاش - كاتب وباحث فى شؤون القرن الافريقى
الازمة بين النظامين فى كل من ارتريا والسودان منذ نشأتهما ترجع اساسا الى اختلاف الايدلوجية
والاهداف والطموحات فى المنطقة، ان اسياس افورقى رجل الدولة الارترية يحمل مشروع منذ ان كان مناضلا فى ادغال ارتريا وهذا المشروع سطر افورقى ملامحه الاساسية فى كتيب سرى اصدره عام 1969 موجه بالدرجة الاولى الى أبناء قوميته تحت عنوان (نحن واهدافنا) ومشروعه هذا يهدف الى سيادة العنصر المسيحى على كل من ارتريا واثيوبيا عبر قوميته المشتركة التى تمتد من الهضبة الارترية الى هضبة اكسوم التاريخية، وتفتيت الدول الاسلامية الاخرى فى المنطقة وهى (السودان والصومال واضعاف الشعوب المسلمة فى كل من ارتريا واثيوبيا) فضلا عن انه مكلب القط فى المنطقة للاجندة الخارجية التى تتقاطع مع مصالحه لعل هذا ما يميز افورقى فى عمالته للخارج لا يعطى الا اقل مما يأخذ، الا ان اختلافه الحاد مع الجارة الكبرى اثيوبيا اقعده عن المدى قدما دون تحقيق احلامه الكبرى - وخلاف افورقى مع الحزب الحاكم فى اثيوبيا ليس خلاف فى الحدود كما يظنه الكثير لكن الخلاف هو فى تفاصيل نظرية السيادة والهيمنة على المنطقة ومن يتزعم تلك السيادة، الا ان هذا الخلاف بصرف النظر عن اسبابه جعله يتعامل مع السودان جبرا وليس اختيارا. وبالتالى علاقة افورقى مع السودان هى علاقة الحاجة والضرورة فقط وهى علاقات تكتيكية وليست استراتيجية كما ظن فى كثير من الاحيان أصحاب القرار فى الخرطوم.
والنظام السودانى الذى وصل الى السلطة عام 1989 وهو يحمل المشروع الاسلامى كان بالضرورة عكس احلام افورقى فى المنطقة بل اعتبره السد المنيع دون تحقيق احلامه فى تفيت السودان الذى كان يريده اكثر من انفصال جنوب السودان.
هكذا كانت علاقة اسياس بالسودان عند الحاجة لها فقط، وعندما انتصر الجيش الشعبى لتحرير ارتريا ودخل اسياس الى عاصمة البلاد فى مايو 1991 كان امامه استحقاقين أساسيين الاستفتاء الذى سيجرى بعد ثلاثة سنوات من ناحية والقضاء التام على اى قوة ارترية معارضة له الاسلامية منها والوطنية من ناحية اخرى، كان وقتها فى امس الحاجة لسودان الذى كان يمتلك كثير من اوراق المعارضة الارترية وكان له ما اراد من السودان الذى سلم له كل كروت اللعبة دون مقابل ووضعت الخرطوم جميع البيض فى سلة واحدة نتيجة النصائح الخاطئة التى كانت تقدم من بعض الباحثين فى المكاتب المكندشة لاصحاب القرار فى الخرطوم. وعقب سيطرة الرجل على كامل التراب الارترى واعلان دولته واعتراف العالم بها، قلب ظهر المجن على السودان وفى ديسمبر عام 1994 اعلن افورقى قطع العلاقات مع السودان بل تسليم السفارة السودانية فى اسمرا للمعارضة السودانية - فى سابقة غير معهودة فى التعامل الدبلوماسى - واعلن افورقى رسميا تبنى اسقاط نظلم الانقاذ فى الخرطوم وفتح للمعارضة السودانية ركنا اذاعيا فى اسمرا واستمر العداء والقطيعة الى ديسمبر 1997، دفع السودان خلالها ثمن باهز حتى ادى فيما بعد الى إنفصال جزء عزيز من ترابه الوطنى.
مع بداية بوادر الخلاف بين اثيوبيا وارتريا منذ 1996 ثم الحرب الطاحنة عام 2000/1998 احس افورقى الى حاجته لسودان مرة اخرى وقام بمغازلة الخرطوم دون حياء، ثم كانت اتفاقية الدوحة عام 1999 التى ادت الى فتح السفارات بين البلدين. وتكرر الخرطوم اخطائها مرة اخرى وتمنع جميع نشاطات قوى المعارضة الارترية فى السودان بما فيها النشطات المدنية والاعلامية. مع ذلك منذ 1999 الى اعلان اغلاق الحدود الارترية السودانية من جانب السودان فى نهاية 2017 كانت العلاقة بين مد وجذر الى ان وصلت الان الى طريق مسدود.
السؤال الذى يطرح نفسه ما هى الاسباب الحقيقة لهذه الازمة الان ؟ فى اعتقادى ان الازمة الحالية هى مرتبطة بالصراع الاقليمى الذى اطل براسه على منطقة الشرق الاوسط والقرن الافريقى. ضمن هذا الصراع تأتى الازمة الاخيرة بين ارتريا والسودان. لان وضع الدولتين فى الوقت الحالى لا يحتمل اى ازمات نيتجة للوضع الاقتصادى وغلاء الاسعار. وارتريا هى فى امس الحاجة لسودان لان هذا الاخير يعتبر منذ 2006 الرئة الوحيدة التى تتنفس عبرها حكومة اسمرا اقتصاديا وتجاريا. اذا هى ازمات بالنيابة وليست بالارادة ”مجبر اخاك لا بطل“ هى انعكاس لازمات المنطقة بين (مصر واثيوبيا حول سد النهضة) و بين (الامارات العربية وتركيا حول الموانئ فى البحر الاحمر).
مسارات هذا التحالف يتمظهر فى تحالفين أساسيين: يضم الاول دول الحصار بالاضافة الى ارتريا وجيبوتى وارض الصومال اضافة الى مجاميع المعارضة السودانية. فى مقابل تحالف اخر يضم تركيا وقطر وحكومة الصومال والسودان وأثيوبيا وربما المعارضة الارترية. والتحالفين قد تكون لهما امتدادات ابعد من الاقليم.
والمستهدف من هذه الازمة فى الوقت الحالى بشكل مباشر هو السودان، لان مصر لا تريد استمرار تحالف الخرطوم واديس أبابا لان هذا التحالف يشكل نقطة الضعف فى المفاوض المصرى بخصوص (سد النهضة) وبالتالى تريد ممارسة الضغط على السودان من خلال اثارة مشاكل السودان من الجهات الثلاثة المتاح لها الان وهى من الشرق عبر دولة ارتريا، ومن الجنوب والجنوب الغربى عبر دولة جنوب السودان ومن الشمال بنفسها هذا ما يتضح من خلال التحرك المصرى فى المنطقة. والمتحمس الاخر فى ممارسة الضغط على الخرطوم هى دولة الامارات العربية المتحدة وهذه الاخيرة حساسيتها تتمثل فى التواجد التركى على شواطئ البحر الاحمر. الا ان الازمة الحالية مع ارتريا قد تنجلى اذا ما تم التفاهم المصرى السودانى ونزع فتيل الازمة يوجد بيد المصريين، وكما يمكن للجانب السعودى ان يلعب دور فى خفض التوتر بما توجد من شعرة معاوية بين السودان والمملكة العربية السعودية الى الان.
واكبر إشكالية التى تواجه الخرطوم فى هذه الازمة هى حدودها الشرقية بحكم الشرق يعتبر السودان المفيد واى اختلال فيه ينعكس على مجبل السودان مباشرتا. وعنصر القوة للسودان فى مواجهته لنظام أسياس اذا ما حدثت المواجها هى وجود معارضة ارترية منظمة سياسيا وعسكريا وهذا مقدور عليه اذا ارادة السودان ذلك.
كذلك بصرف النظر عن الازمة الحالية، يجب على السودان ان يحسن ادارة المسالة الارترية وان يضع استراتيجية جديد فى التعامل معها باعتبار ارتريا هى العمق الاستراتيجى لسودان. كل المشاكل التى واجهة السودان منذ استقلال ارتريا هى نتاج طبيعى لتراكم اخطاء حكمات السودان المتعاقبة فى المسألة الارترية التى تعاملوا معها دون رؤية ولا هدى ولا كتاب منير.
برقم من واقع الجغرافيا وعمق العلاقات الاجتماعية والثقافة والتاريخية بين الشعب السودانى والارترى للاسف إن حكومات السودان المتعاقبة تعاملت مع المسالة الارترية تعامل امنى مرحلى تكتيكى فى كثير من الاحيان بشكل غبى يحتار امامه اى عقل سياسي راشد. الاستمرار فى هكذا تعامل سيضر بمصالح السودان اكثر من اى دولة فى المنطقة. لذا على اصحاب القرار فى السودان ان ينقلوا الملف الارترى من الملف الامنى الى الملف السياسي والاستراتيجى وان يعيدوا القراءة فى المسالة الارترية بشكل جاد فى جوانبها المختلفة (التركيبة الثقافية - التركيبة الاجتماعية - التركيبة السياسية - التاريخ الارترى القديم والحديث) وان يستعنوا فى كل ذلك بأبناء ارتريا الصادقين والمقتدريين لان - اهل مكة ادرى بشعابها - وان يحافظوا على وحدة وسيادة ارتريا المعترف بها دوليا، ان لا يتورطوا فى استراتيجيات بعض الدول التى تريد انهاء الكاين الارترى او تقسمه لان ارتريا الموحدة هى التى تصب فى مصلحة السودان وكل الدول المجاورة لارتريا. وان تتعامل الخرطوم مع قوى المعارضة الارترية على أساس المشروع الوطنى وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، ودراسة الجوانب والنواقص التى يحتاجها الجانب الارترى المعارض من اجل نجاح فعله السياسى على المدى القريب والبعيد.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.