امنحوني فرصة كي أكون مواطنا
بقلم الأستاذ: محمد صالح حقوس
إن العنوان قد يثير استغراب ودهشة العديد من القراء الأعزاء ولكن عند الاستمرار في قراءة المقالة سينتهي
الاستغراب وتزول الدهشة رويدا رويدا فالواقع الذي نعيش فيه والماضي الذي لم نستطع الفكاك منه يجعل من البحث عن فرصة أن تعيش مواطنا منطقي وعقلاني، الارتري وفي سبيل البحث عن الشعور بالرضا بالمواطنة في وطنه قطع مسافات طويلة رمانية ومكانية، مشوار من الكفاح توارثه جيل عن جيل طواعية وبلهفة ورغبة صادقة وقد دفع في مشوار البحث هذا تكاليف باهظة تمثلت في المال والأرواح والمعوقين والتشرد والغربة عن الوطن أملا في العودة إليه وهو يعطي الشعور في المواطنة في وطن مستقل.
حقا إن الإحساس بالمواطنة والشعور بإنسانيتك في وطنك وبالانتماء للأرض التي ورثتها أبا عن جد ميل لا إرادي، النفس تشدك إليه شدا ويجذبك الوجدان جذبا، لاسيما عندما ترى في بعض بلاد الغربة إلى أي درجة المواطن في تلك البلاد ينال الرعاية والعناية، المواطن فيها يعيش الحياة بطولها وعرضها يحس بالعزة والكبرياء وهو ينتمي إلى هذا الكيان الذي يظل مستعدا للذود عنه في أية لحظة عندما تهدد البلاد بعدوان خارجي، وتجد المواطنين فيه يتنافسون في منح وطنهم كل ما لديهم من إمكانات والوطن يمنحهم كل ما يمكنهم من تحقيق أمنياتهم وأحلامهم من استقرار وسلام ووضع معيشي مرضي.
فالارتري وعيشه خارج الوطن مع ما يمثله من حرمان للكرامة وعزة النفس وألم الذكريات التي يختزنها في ذاكرته الحية تتمثل في ذكريات الطفولة، ومراتع الصبا والحنان والحب والبيت الذي ترعرع فيه والتربة التي شهدت أولى الخطوات في درب الحياة الطويل، والحنين الذي لا ينفك للأهل والخلان ولمة الأهل وجلسات الأنس التي فيها الدفيء والمحبة ويتساءل كل حين هل من عودة إليها ولو بعد حين.
الوطن يظل في عقل وقلب كل ارتري يشغل الحيز الكبير ولما لا لأن هذا الوطن هو المرتكز فيعود إليه المواطن بعد عناء الترحال بحثا عن المال أو العلم وهو المكان الذي يرتاح فيه المواطن بعد العناء والتعب خارجه فهذا المواطن هو بحاجة إلى هوائه ونسماته وماءه لأن كل ذلك يمثل طعما مميزا لا يجده المواطن خارجه هذا الوطن الذي تشكل في خيال الارتري وبني فيه أحلامه وهو الذي عايشه أمنية ليعيش فيه لحظة يحس فيه بأنه في وطن يمثل جزء من كيانه وحبل من الود ممدود بينه وبين هذا الوطن وهذا الحبل لا ينقطع ولا يهترأ يظل للأبد قويا حيث من خلاله تتم عملية التبادل العطاء والسخاء من الوطن والجهد والعرق والكفاح من المواطن بانيا ومشيدا.
في الخمسينات أجدادنا بحثوا عن هذا الوطن الذي رسموا له صورة زاهية متناهية في الكمال والجمال وطنا يحضن بنيه في ود وإخاء وسلام ووئام ومحبة وانسجام، وطنا يقدم الرعاية لمواطنيه داخل الوطن وخارجه عبر سفرائه وسفاراته , وكانوا يحاولون إهداء هذا الوطن وبهذه الصورة للجيل الذي بعدهم، وطنا مستقلا يسع أبناؤه رخاء وبسطا وكبرياء وزهاء، فهؤلاء الأجداد فعلوا ما يملي عليهم ضمائرهم من اجل أن تكون أمنياتهم واقعا مرأيا للجيل الذي بعدهم وجعلوا من أنفسهم فداء وثمنا لتحقيق هذه الأمنية الغالية وقد ذهبوا ولم يستطيعوا تسليم الوطن بهذه الصورة للأجيال التي بعدهم ولكن تركوا إرثا من الوصايا مكتوبة بمداد من الدم.
وقد سار على دربهم أباؤنا الذين رضعوا حب الوطن من ثدي أمهاتهم وتسلموا الوصية من أجدادنا فكانوا أكثر صلابة وإصرارا على المضي على تحقيق تلك المطالب ومضوا على درب البحث عن هذا الوطن الكنز المفقود وامتطوا الجواد ووضعوا أيديهم على الزناد إيذانا ببدء النزال في ساحة النضال وبعد مضي ثلاثين عاما من الكفاح المسلح مثلت تكلفة باهظة فيها حصدت الأرواح وأحرقت القرى وشرد المواطنون وهم يمثلون رفضا صريحا للاستعمار مؤكدين انه لا بديل دون الوطن.
ومن اجل تحقيق الاستقلال وإيجاد الوطن الذي يمنح الإحساس بالمواطنة مضوا على هذا الطريق غير مبالين أو مكترثين بالمخاطر التي تحدق بكل جانب، فهم لم يكونوا يرون سوى تحقيق الهدف المنشود المتمثل في وطن يستحق أن تناديه بصوت عال وطني يا وطني تحس بأنك تتطاول في الشموخ ونفسك في الإباء ترتقي إلى السماء إنني ومن قلبي اشكر وانحني إكبارا لكل من مضت أرواحهم في ذات الطريق وكل من لا يزال حتى الآن يقف خلف كل صوت ينادي من اجل امتلاك الوطن الذي تحن إليه وأنت خارجه وتعمل ليل نهار لأعماره ونهضته وأنت بداخله.
إنني أتذكر في طفولتي وأنا في معسكرات اللجوء في السودان مع غيري من أطفال المعسكرات وكنا نحب الثورة ونمني أنفسنا بالجلوس دوما مع المناضلين الذين كانوا يحضوننا بدفيء ونلتصق على صدورهم ويمسحون على رؤوسنا برفق وحنان وكنا ننظر إلى وجوههم وفيها مستقبلنا المشرق مفعمة بالأمل والتفاؤل كنا نسمع منهم كلمات تحببنا للوطن وتعيشنا بالخيال في داخله وكنا نتشوق بان نسمعها كل حين وكلما نسمعها من الفرحة نكاد أن نطير ونظن أن كل ما كانوا يقولونه لنا سنجده في اليوم المقبل شدوا على أيدينا قائلين اهتموا بالتعليم عليكم أن تحبوا المدرسة ويجب أن تكونوا متعلمين لان ارتريا لكم وانتم رجال المستقبل، وكلماتهم تلك كانت تحرك كل شيء بداخلنا ونحلق في الحلم الجميل في وطن الجمال ارتريا، كانوا يقولون لنا نحن نناضل ونسكب دمنا وعرقنا ونفدي بأرواحنا لأجل مستقبلكم الواعد، ونحن نعيش على وقع كلماتهم بداخلنا كنا نتجاوز ما كنا فيه من معاناة اللجوء حيث كان يلفنا البؤس والشقاء كنا عندما نجد بعض المجلات وفيها صور لأطفال في الملاهي والألعاب وفي ملابس زاهية كنا نقول هل سيكتب لنا لنعيش مثلهم وكنا نسحب ذات السؤال على أمهاتنا وإبائنا في بيوتنا، ومما كان يشدنا أكثر للوطن بالرغم من أننا لم نعيش فيه الطفولة عندما كنا نسمع في كل مناسبة إن شاء العام القادم في أسمرة، وهذه المدينة التي وضعنا فيها صورة ارتريا كاملة اختزالا وذلك لجمالها وزهاءها وهواءها العليل فوضعناها أنموذجا لكل مدن وريف ارتريا.
أولئك المناضلين لا ادري إن كانت تراب ارتريا خبأتهم تحتها أم ذهبوا إلى الدار الآخرة على ثرى تراب خارج الوطن أم هم على قيد الحياة لكن بحق كانوا محل اعتزازنا وكلماتهم كانت تغازل قلوبنا وتعيشنا في حلم اليقظة وكل ذلك كان يدفعنا اندفاعا للتعلم وحب المدرسة التي كنا فيها نفترش الأرض وندرس على البرش (بساط مصنوع من جريد النخيل).
نحن اليوم كبرنا وقطعنا شوطا من المراحل التعليمية وصرنا نكتب بمداد القلم أحلام الأمس ونتساءل من سرقها، فجيل من أبناء ارتريا وبناتها تعلموا ووصلوا إلى درجات متميزة وهؤلاء الطلاب والطالبات كان جل همهم تهيئة أنفسهم لبناء دولتهم المقبلة التي يقينا لا محالة قائمة كان كل الحلم بان يعيشوا واقع بناء المواطنة في النفس ويروا ظمأهم للمواطنة التي كانوا يرونها في البلاد التي عاشوا فيها ردحا من الزمن طلابا.
حقا لقد عشنا ونحن ننادى بلاجئين ونتلقى نظرات كأننا لسنا بشر بالرغم من أن سحناتنا واحدة مع أهل السودان لا يفرق بيننا إلا اللغة والتي امتلكناها سريعا وكنا نسمع بين الحين والأخر كلمات الإيذاء ومبتذلة تمس المشاعر وتحسسك انك غريب أقول هذا من غير إنكار لفضل السودان والسودانيين لإيوائهم لنا وكانوا يمثلون خلفية وسند لثورتنا وقد سطره التاريخ وقد أوضح ذلك مدى عمق العلاقة بين الشعبين وامتدادها في التاريخ.
بالرغم من كل ما كنا نسمعه إلا أننا كنا أكثر تمسكا بالثورة وحبها كنا نبني بيوت من الأمل ترتكز على وعد أبائنا الذين كانوا يؤكدون لنا إن مكوثنا في تلك المعسكرات لن يطول وأننا سنعود إلى الوطن الحبيب سنواصل فيه تعليمنا وستكون المعاناة ذكرى نتذكرها عندما نلتفت للوراء لنتعرف أكثر على قيمة الوطن ودوره في حياة أي إنسان.
لقد فعلها الأباء وسقت دماءهم الطاهرة تربة بلادنا التي بحق صارت حاضرة في الوجود وكائنا ضمن كل دول العالم وعضوا في مجالسها وهيئاتها ورفرفت علمها واعتلى ممثلها منبره في مجلس الأمم ووضعت لوحة ارتريا ضمن أسماء الدول على منصات هيئة الأمم وصار العلم الارتري يرفرف في كل دولة حتى في عاصمة الدولة التي كانت تفرض علينا استعلاءها وبطرنتها وحاربتنا لحين من الزمن لكي نتخلى عن مطلبنا في قيام هذا الكيان ولكن دماء آباءنا لم تنشف فكانت كلما احرقوا شجرة سقت شجرة أخرى وآباءنا غرسوا شتلة أخرى لتكون شجرة لتكون دوحة يلتف حولها كل أبناء ارتريا لبناء كيانهم المستقل.
ارتريا نالت الاستقلال في عام 91 ولم تسعنا الأرض من الفرحة التي ملأت قلوبنا ولم نستطع التعبير عن هذا الفرح العظيم، هذا الكائن طالما كان يعيش في داخلنا جعلنا نتحمل كل المعاناة ونصبر على الم الفراق وضيم الأقرباء والبعاد، هذا الكائن صار وليدا شرعيا مقبولا بين كل بني البشر كتب اسم ارتريا دولة وصار هناك مواطنا يسمى ارتري وصار يحمل جوازا ارتريا، كل ذلك تم وصار رأي العين على الأرض ولكن وهذه الكلمة التي لا أحبها لأنها تعمل فاصل بين الأول والتالي، ومع الأسف الشديد هنا عملت عملها وبعد مضي ذات العمر الذي قضاه إباؤنا في إنشاء هذا الكيان قضيناه نحن جيل اليوم بعد الاستقلال ولكن هذا الكائن صار كل يوم يمر ينفينا أكثر إلى خارجه كائن غريب لم يكن ذلك الذي أفردنا له حيزا مركزيا في قلوبنا وبين جوانحنا اليوم لا نحس بان هذا الكائن نحن جزء منه وهو جزء منا، لان الحقيقة هي أن الوطن ليس قطعة ارض فنحن عشنا في الغربة في قطعة ارض كبيرة وفسحة واسعة ولكن ذلك لم يستطع منحنا الشعور بالمواطنة فكلمة مواطن تعني الحرية الكرامة تحس أن ليس هناك احد فوقك تحس بان ارتريا كلها لك تأخذ منها ما تشاء وتعطيها ما تطلبه تفخر بان تقول أنا ارتري، إن الوطن هو الإحساس والشعور الذي يجعلك في لحظة انك لست دونيا وطنا يمنحك الأمان والثقة في من حولك ترتاح وأنت في داخله وتقلق وأنت خارجه ما يمنحك الوطن لا يمكن أن تجده خارجه مهما كان، فالأم لا يمكن أن يستعاض عنها لأي مولود هذا الارتباط الوجداني مثله تماما مبني بين الوطن وأهله.
إن السؤال البديهي أين تلك الوعود التي كنا نتلقاها ونسمعها في طفولتنا أين تلك الأحلام والأماني العريضة التي كانت تخفف علينا معاناة التشرد وتجعلنا نتشبث بالحياة أملا في العودة ’ ولم نكن لحظة نعيش اليأس أبدا فكل يوم تشرق فيه الشمس كنا نعده يقترب بنا أكثر نحو تحقيق الحلم، فمن سرق تلك الأحلام ومن دسها ليحرمنا أن نعيشها ولو للحظة.
إن تلك الطفولة لا تزال تطاردنا وسؤال يصعد إلى العقل ويسكن في القلب ويحرك كل المشاعر التي تدفعنا في البحث عن ذلك الوطن الذي تسكنه أحلامنا، فالأرض بحدودها سجلت باسمنا وصارت ملكا لنا ولكن على أرضه لم تقم الدولة التي تمنحنا الشعور الذي لا نجده في أي دولة حتى لو حملنا جنسيتها أو جوازها.
وبحق ابناءونا اليوم صاروا يعيشون نفس معانات طفولتنا والأمر اليوم هو أن الأطفال وهم داخل الوطن يعيشون غرباء وبالتالي يعيشون حلم القفز من على الوطن إلى خارجه حتى لو وقعوا على البحر أم في فم الحوت اليس من حق هذا الطفل الارتري أن يتساءل امنحوني فرصة لكي أكون مواطنا فمن يجيب ؟