الجالية تودع الأستاذ الفاضل/ محمد أحمد إدريس نور
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد الحاج
شيع أرتريو ملبورن وأصدقائهم نهار اليوم الإثنين الرابع من سبتمبر 2017 مربي الأجيال
وأحد الرعيل الأول المؤسسين للسلك التعليمي في ارتريا المعلم الوقور محمد أحمد إدريس نور الي مثواه الأخير.
وكان أفراد المجتمع فجع برحيله صباح أمس الأحد بعد مشوار حياة حافلة في السلك التعليمي والوظيفي بدأها عام 1945 وحتي لجوءه الي أستراليا عام 2004.
يعد الفقيد من اقدم المدرسين في ارتريا الذين حملو لواء العلم والتعليم وتخرج علي أيديهم المئات من الطلاب الذين أشتغلوا في مناصب ومهن مختلفة وبعضهم أصبح معلما ايضا.
والاستاذ محمد أحمد معروف في اريتريا خاصةً للطلاب الذين درسوا بداخلها في الفترة الواقعة مابين عام 1945 ـ 1977م وهو من مواليد مدينة كرن في 26 يناير عام 1921م حيث يقع ترتيبه الرابع بين أشقائه ـ منهم المناضل القديم الشهيد آدم إدريس نور ـ ألتحق بالكتاتيب في الثامنة من عمره وواظب بها علي قراءة القرآن الكريم حتي بلغ به المقام سورة التوبة عندها أندلعت الحرب العالمية الثانية فلجأ مع بقية سكان كرن الي القري ومع دخول الإنكليز كرن عاد اليها أهلها ثم فتح بها البريطانيون المدارس العربية فألتحق الاستاذ بالمدرسة في بداية عام 1941م وبعد إتمام دراسته الأولية (أربعة سنوات) تم تعيينه مدرساً بتأريخ الفاتح من يناير عام 1945م نقل بعد ثلاثة أشهر من ذلك الي مدينة أغردات فعمل بها مدرساً إبتداءً من أبريل 1945م الي عام 1948م ثم نقل الي مدرسة مندفرا الاسلامية بمديرية سرايي وتم فيها تعيينه ناظراً الي عام 1951م ثم قاموا بإعادته الي مسقط رأسه ليعمل مدرساً هذه المرة بالمدرسة الوسطي بكرن وحين غادر البريطانيون اريتريا أسندوا اليه مهمة ناظر المدرسة بتوصية خاصة رفعها مدير المدرسة البريطالني لإدارة المعارف، ومكث في هذه الوظيفة حتي نهاية العام الدراسي 1958م وفي السنة الدراسية التالية أي في 1959م تم نقله لأول مرة الي المدرسة الإسلامية الخيرية الوسطي بأسمرا لكن لم يدم به المقام طويلاً، حيث وقع عليه الإختيار في نهاية العام لأخذ "كورس" في إدارة وتفتيش المدارس بأديس أبابا وذلك لمدة عام واحد بعدها أي في عام 1961م وبعد حصوله علي شهادة إدارة وتفتيش المدارس عاد الي مدرسة أسمرا وواصل فيها رسالته التربوية العظيمة لإحدي عشر عاماً نقل علي اثرها الي مدينة كرن لكن بعد أن ساءت الظروف السياسية وأشتد عود الثورة وبلغ المد الوطني ذروته لم يسلم الأستاذ من الإعتقال فأنزلوه "ضيفاً" في أحد سجون كرن لتسعين يوماً ثم أفرجوا عنه وقاموا بإعادته ـ تفادياً من إعتقاله كما قال ذات يوم ـ الي مدينة أسمرا لكن هذه المرة الي مدرسة "حبرت" وهي مدرسة كانت كبيرة بكل المقاييس، حيث بلغ عدد طلابها 2250 طالباً وكان بها خمسون معلماً.
ويبدو أن هذه المدرسة كانت آخر عهد له في التدريس داخل اريتريا حيث مكث بها حتي يوليو عام 1977م وعندما بدأت أجهزة الأمن الأثيوبية تطارده وتضيق عليه الخناق أضطر للخروج من أسمرا ولم يتوقف في رحلة اللجوء هذه إلا داخل الأراضي السودانية ومن بعد الي المملكة العربية السعودية حيث عمل في البنك الأهلي التجاري إلي أن قدم الي أستراليا في أبريل عام 2004.
لقد كان الاستاذ رحمه الله نموذج حي من التواضع تميز برحابة الصدر والاستماع الي المحاور وتبادل الآراء مع الصغير والكبير وكان منشغلا كثيرا بارتريا وأحداثها، فقد عقد ندوة بعد ثلاثة أشهر فقط من قدومه الي أستراليا بعنوان جذور اللغة العربية ووسائل إنتشارها في ارتريا، وأجري في يناير 2005 لقاء من حلقتين مع إذاعة صوت ارتريا بملبورن حول تأريخ التعليم ومصادره في ارتريا وكان يرحمه الله متقد الذاكرة يحفظ الكثير من معلومات وأحداث شتي غير مدونة عن ارتريا.
اللهم أغفر له وأرحمه وتغمده بواسع رحمتك وأسكنه فسيح جناتك والهم أولاده وتلامذته علي مر السنين جميل الصبر وإنا لله وإنا اليه راجعون.
------------------------------------------------------
أقرأ تقريرنا عن الندوة التي عقدها الأستاذ الفاضل في 11 يوليو 2004 بمدينة ملبورن.
الأستاذ محمد أحمد إدريس نور - أمام الجالية الاريترية بأستراليا
في إجتماع حضرته حشود من الجالية الاريترية بمدينة ملبورن الاسترالية مساء الأحد 11يوليو 2004 ألقي رجل التربية والتعليم الاستاذ الفاضل محمد أحمد إدريس نور محاضرة حول جذور اللغة العربية ووسائل إنتشارها في اريتريا منوهاً علي الإنشداد الطبيعي والتعلق الفطري للإنسان الاريتري بهذه اللغة التي أصبحت علي إمتداد التأريخ عنصراً رئيسياً في حياته، فبعد أن شكر الحضور وأثني علي الذين أفتتحوا المحاضرة (الأخوين علي عمر وعثمان فاكاي) بالتذكير بسيرته ودوره في السلك التعليمي في فترتي الوصاية البريطانية والإستعمار الأثيوبي، تحدث عن بدايات اللغة العربية في اريتريا قراءةً وكتابةً فأمن علي دور القرآن الكريم في نشر اللغة وذلك منذ أن أمر الرسول (ص) أصحابه بالهجرة الي بلاد الحبشة وفي عهد التابعين وتابع التابعين الي أن سيطر الأمويون علي جزيرة دهلك فبدأوا ينشرون اللغة بصورة أكثرعمقاً وذلك عن طريق الدعاة الذين بدأوا بالدخول الي مصوع أولاً ثم وسعوا من رقعة تواجدهم وصولاً الي نقفة وأفعبت منهم مايعرف اليوم "بعد شيخ" و"عد درقي" و"عد معلم" فهؤلاء في الواقع كانوا أفراداً ثم كونوا قبائل من خلال التزاوج والمصاهرة، ومضي الاستاذ يقول أن الدعاة أعتمدوا في نشر اللغة العربية والقرآن الكريم علي حسن الأخلاق وعلي القدوة وحسن المعاملة فأعجب بهم زعماء القبائل وبدأو يقربونهم في مجالسهم ثم بدأوا يسألونهم عن العبادات التي يقومون بها وقال ان الدعاة بداوا يعلمون الناس بعد ذلك الاسلام بصورة تدريجية وغير شاقة حتي أنهم في بعض الأماكن لجأوا الي إسقاط فروض عن كاهل المسلمين الجدد ففي المناطق الباردة مثلاً حين أشتكي الناس من إستخدام الماء في الوضوء طلب منهم الدعاة التيمم ريثما يأتي الصيف وحينها أخبروهم بأنه لايجوز في الإسلام التيمم بوجود الماء.
ومضي الاستاذ محمد أحمد يقول ان الوسيلة الثانية في نشر اللغة العربية في اريتريا كانت مرحلة الكتابة في اللوح عن طريق تأسيس الخلاوي أو الكتاتيب التي أنتشرت بصورة واسعة في مناطق الساحل وكرن وأكلي قزاي وفي المناطق الغربية وبدأت هذه الخلاوي تستخدم الكتابة في اللوح وهي أفضل وسيلة للتعليم ـ كما يقر الآن رجال التربية ـ لأنها تعلم في آن واحد القراءة والكتابة والإملاء والحفظ وأستمر يقول أنه بجانب هذه الألواح بدأت تظهر المصاحف المكتوبة باليد، خاصةً في منطقة عنسبا، حيث أشتهر فيها "شيخاً" كتب بيده قرابة العشرين مصحفاً وبدأ يوزعه في أنحاء اريتريا هذا بجانب إقامته لخلوي كبيرة أستقطبت أعداد كبيرة من القراء من مختلف الأعمار كما أنها أصبحت مزاراً ومحطات توقف للمسافرين.
ما المرحلة الثالثة ـ كما يقول الاستاذ ـ هي فترة الإيطاليين الذين أمضوا بالبلاد قرابة الـ 56 عاماً بدأت فيها اريتريا تشهد تعليماً رسمياً لمختلف المواد لكن الإيطاليين لم يهتموا كثيراً باللغة العربية وبالمسار التعليمي عموماً وكان هناك قراراً من وزارة خارجيتهم بروما بألا يتجاوز التعليم أربعة سنوات بصورة تكفي لأن يصبح فيها الإنسان الاريتري "خادماً متعلما"ً لجاليتهم الكبيرة التي كانت تتكون من ستة وعشرين ألف فرد وأستدرك الاستاذ يقول ان الإيطاليين بدأوا بإدخال اللغة العربية في التدريس في الفترة الأخيرة من تواجدهم حين بدأوا يفكرون في غزو السودان عندها أدخلوا حصة أو حصتين لكن هذه الحصص القليلة أخرجت كتاب ومؤلفين اريتريين باللغة العربية.
ويبدو أن عصر الإزدهار التعليمي باللغة العربية كان إبان الوصاية البريطانية حيث شرع الإنجليز منذ دخولهم في فتح المدارس فدخل الناس بصورة جماعية وبغض النظر عن الأعمار لكن بعد شهر أو شهرين ـ كما يقول الاستاذ ـ بدأ البريطانيون يقسمون الطلاب علي فصول خاصةً في مدينة كرن ويمضي في محاضرته ليقول ان الإنجليز جلبوا معهم مدرسين ومنهج تعليمي من السودان وشرعوا في تعليم الطلاب التأريخ والحساب ودرسوا لأول مرة جغرافية اريتريا وذلك قبل أن يتم الاعلان عن نهاية الحرب العالمية الثانية وقد لاحظنا إسراعهم للإعتماد علي المدرسين الاريتريين فخرجوا في عام 1944 دفعة من المعلمين تألفت من مائة وخمسين معلماً وذلك في مدينة كرن وحدها.
وعن الوسائل الأخري التي كانت تنتشر بها اللغة العربية يقول الاستاذ محمد أحمد إدريس نور أن الطالب الاريتري في العهد البريطاني أظهر حباً شديداً وتعلقاً كبيراً باللغة العربية فلم يكتف بتلقيها عن المناهج بل سعي للحصول عليها بطرق أخري وهو مادفع معلمين اريتريين الي رفع مذكرة الي وزارة الإعلام البريطانية طالبوا فيها بمدهم بالكتب والمجلات العربية لتكون نواة في تأسيس المكتبات فوافق البريطانيون وبدأوا يرسلون الي اريتريا مجلات أذكر منها مجلة الرسالة العظيمة وهي من أفضل المجلات الأدبية التي كانت تصدر في مصر ومجلة فتاة الجزيرة (اليمن) ومجلة فتاة الرافدين (العراق) وفي عام 1946 بدأت تظهر تكونات سياسية كان لها مردود إيجابي علي إنتشار اللغة العربية حيث أسست بعض الأحزاب جرائد ومجلات وبدأنا نقرأ لأقلام اريترية مثل ياسين باطوق ومحمد عثمان حيوتي وعبد الحميد إدريس وعلي جامع الذي يواصل الي الآن عطائه الإيجابي في أثيوبيا. ومن الأنشطة الأخري التي ساعدت في نشر التعليم دخول المحسنين في الخط وقيامهم بتأسيس مدارس علي نفقتهم، محمد عبيد باحنيش والباشا صالح كيكيا علي سبيل المثال، هذا بالإضافة الي إنتشار المعاهد الدينية وتطوع المدرسين في إعطاء دروس ليلية للصغار فإذا هي تزدحم بالكبار.
وقد أكد الاستاذ محمد أحمد ادريس نور بأن متاعب اللغة العربية وإنحسارها بدأ مع العهد الفيدرالي حيث عبرت أثيوبيا عن ضيقها الشديد بالمنهج البريطاني الذي كان يحتوي علي اللغتين العربية والتقرينية وبدأت بإحلاله بالمنهج الأثيوبي بصورة سريعة وأستمر يقول كانت هناك مؤامرات من أطراف عدة ضد اللغة العربية في اريتريا لكن مع ذلك ذكر موقفاً جديراً بالتأمل، يقول الاستاذ أنه شارك في عام 1964م في مؤتمر لمدراء المدارس في أثيوبيا تم عقده في أديس أبابا وحضره ألف ناظر مدرسة من عموم أثيوبيا واريتريا، وكان عدد المسلمين سبعة عشر ناظراً قمنا برفع مذكرة الي المؤتمر نطالب فيها بتدريس اللغة العربية والديانتين الاسلامية والمسيحية وكان المؤتمر يحسم قراراته بالتصويت لكن رئيسه وهو أثيوبي تعاطف معنا وقال أنه من الظلم أن نخضع موضوع كهذا للتصويت بوجود سبعة عشرة مسلماً فقط وأقترح أن يطلب المؤتمر من وزير التعليم الاثيوبي الحضور ليبت في هذه المسألة وكانت المفاجأة أن الوزير نفسه تفهم طلبنا وقال بالنسبة لنا في أثيوبيا تدريس الديان المسيحية لم يعد أمراً مهماً لكن أنتم في اريتريا يمكنكم أن تطالبوا بتدريس الديانتين واللغة العربية أيضاً وأضاف الاستاذ يقول حين عدنا من أديس أبابا الي أسمرا رفعنا هذا لكنه رفض جملةً وتفصيلاً..
ثم سؤل عن رؤيته لمستقبل اللغة العربية في اريتريا فقال أنه متفائل جداً وأضاف يقول بالمقارنة لما تلقاه أبناؤنا خارج الوطن فإن دراسة اللغة العربية في أيامنا لم تكن شيئاً.. لدينا آلآف الطلاب في مختلف المراحل في السودان.. هناك الآلآف من الذين تلقوا تعليمهم في الدول العربية.. هناك الآلآف من اللاجئين في السودان فما بالكم لو عادوا هؤلاء جميعاً وذكر الحضور بأن سحر اللغة العربية أمتد أيضا لذوي الثقافة الاريترية الأخري فقال هناك من المسيحيين الاريتريين من رفض التعلم باللغة التقرينية وطالب بإعادة تدريس اللغة العربية بل منهم من دخل الإسلام أيضاً والآن في هذا الأثناء هناك العديد منهم معترف ومقر بأهمية اللغة العربية في اريتريا.