مأساة حرقيقو

بقلم الأستاذ: محمد علي حركة - كاتب وبـاحث ارتري

اليوم سأكتب شيئا عن حرقيقو بمناسبة تأبين أحبائنا الذين سُحقوا تحت جنازير دبابات (هولاكو أفريقيا)

دبّابات الهمج أعداء الإنسانية أعداء الحضارة وأعداء كل جميل ومشرق. جحافل أباطرة الحبشة مزّقهم الله شرّ مُمَزّق، وأحصاهم عددا، وقتلهم بددا ولم يُبْق منهم أحداً.

فتخليدا لذكراهم الخالدة العطرة أخربش ماتيسر علي جدران وحيطان مدرستي.. التي أحببتها ولا مس ودّها شغاف قلبي... مدرسة طيّب الذكر الكمنداتور باشا صالح أحمد كيكيا.. ولو علي صورة طيف عابر للبحار والهضاب علي استحياء.. إن تعذّر ذلك بالحضور الشخصي الحقيقي حيث مسرح جريمة العصر في وطننا المكلوم.

حرقيقو كانت بلدة هادئة جميلة حالمة برعاية الخليج الذي يحمل إسمها وحماية لها، حيث يتكئ هذا الخليج بظهره علي جبل قدم الخالد الشامخ بأنفة متحدياً عدوان الغزاة من المغول والتتر والأباطرة عبر العصور، ويستقبل خليج حرقيقو القبلة بصورة عجيبة كما يفعل العابد المتهجّد، ومن قُدِّر له أن يكون في رحاب هذه البلدة الطيبة بأهلها يستشعر عظمة هذا التهجد الليلي حيث يتناهي إلي مسامعه هدير الأمواج ليلا مع انبعاث عبير البحر الفوّاح المحبّب إلي من يستنشقه.. والذي يوحي إلي سامعه كأنه ترنّم تسبيح قيام الليل الذي يبعث في النفوس الطمأنينة (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

حرقيقو.. كانت بلدة طيبة يرعاها ربٌ غفور لقد استأنس بها كلٌ من قطنها حيث لم يشعر بالغربة من لجأ إليها لأنها كانت بحق كالام الحنون.. لا قبلية ولا جهوية ولا إقليمية ولا محافظاتية.. ولذلك لا مبالغة مقولة إنها كانت إرتريا مصغّرة.. ولذلك تغني بإسمائها كل حسب لسانه و درجة ثقافته ورقيه، فيسميها ذوي لسان التقرايت (دخنو) و(مدائن)، وناطقي الساهو يسمونها (مندر)، أما عامة الناس وخاصة المثقّفاتية يسمونها (حرقيقو)، والجدير للملاحظة أنّ كلمة (دخنو) تبدو وكأنها محرّفة من المفردة السيهاوية (دكنو) والتي تعني الفيل ومع ذلك يستخدمها الناطقين بالتقرايت وأصحاب كلمة (دكنو) يستخدمون (مندر) وهي ربما مفردة فارسية محرّفة من (بندر) والتي تعني مدينة.

هجم علي بلدتنا الحالمة الجميلة وهي تستغرق في زهوها و خيلائها كأنها عروس البحر أوباش إثيوبيا المجرمين في عهد السفاح منقستو هيلي ماريام ففعّلوا طاحونة قتلهم فعاثوا الفساد في البلدة الحالمة وكان ذلك صبيحة يوم الأحد الأسود الموافق للسابع من أبريل سنة ١٩٧٥م، فلم تكد بلدتنا الطيبة تنتهي من لملمة جراحاتها وتواسي نفسها علي فقدان فلذّآت كبدها في هذه الجريمة الشنيعة إذا بالأوباش الهمج أعداء الحضارة والانساتية يباغتونها بإبادة أكثر فتكاً وتدميراً من سابقتها إذ لم يسلم في الابادة حتي الأطفال والقوارير وكان ذلك في صبيحة يوم الجمعة الموافق ٣١ من ديسمبر لسنة ١٩٧٦م وسمّيت بالمجزرة الثانية، وقد فاق تعداد القتلي الأبرياء خمس مئة قتيل رحمهم الله حيث افترشوا قلب بلدتهم الحزينة مثواً لهم كأن حرقيقو أبت إلاّ أن تحتفظ برفاتهم في قلبها تعبيراً عن وفائها لأولادها الذين أحبوها ورضعوا من حنانها، ألا رحم الله قتلانا والخزي والعار لهمج القرن الأفريقي الذين هم بحق أسوأ جيران علي ظهر البسيطة.

أما من تبقي من أهل بلدتنا الجميلة الطيبة لقد (تفرقوا أيدي سبأ) كما يقال في أنحاء المعمورة يكابدون الشوق واللوعة لمراتع الصبا وديار الجدود حيث طال بيهم الحنين كأن لسان حالهم يقول ما قال الراحل الشاعر القدير نزار قباني عن الشام في أشعاره عندما استبدّ به الحنين لوطنه سوريا.

وهو في الغربة حيث يقول في قصيدته الشهيرة.. (هذي دمشق):

(ألا تزال بخير دار فاطمة؟ مآذن الشام تبكي إذ تعانقني، وللمآذن كالأشجار أرواح، هذا مكان أبو المعتز...، هنا جذوري.. هنا قلبي.. هنا لغتي، فكيف أوضّح؟ فهل في العشق إيضاح؟ أتيت يا شجر الصفصاف معتذراً، خمسون عاماً وأجزائي مبعثرة فوق المحيط، وما في الأفق مصباح، تقاذفتني بحار لا ضفاف لها، وطاردتني شياطين وأشباح، أقاتل القبح في شعري وفي أدبي حتي يفتّح نوّار وقدّاح، ما للعروبة تبدو مثل أرملة؟ أليس في كتب التاريخ أفراح؟ حملت شعري علي ظهري فأتعبني، ماذا يبقي من الشعر حين يرتاح؟).

أمافي قصيدته.. عاشق دمشقي فيقول:

(يا شام إن جراحي لا ضفاف لها، فمسّحي عن جبيني الحزن والتعب، وأرجعيني إلي أسوار مدرستي، وارجعي الحبر والطبشورة والكتب، تلك الزواريب كم كنزٍ طمرتُ بها، وكم تركت بها ذكريات الصبا، وكم رسمتُ علي حيطانها صور وكم كسرت علي أضراحها لُعَباً، أتيتُ من رحم الأحزان يا وطني، أُقبّل الأرض والأبواب والشهب.. حبّي هنا، وحبيباتي وُلدن هنا، فمن يعيدُ ليَ العمر الذي ذهبَ... أنا قبيلة العشاق بكاملها وسقيت من دموعي البحر والسحب...
هذي البساتين كانت بين أمتعتي لمّا ارتحلتُ عن الفيحاء مغترباً، فلا قميص من القمصان ألبسه إلّا وجدتُ علي خيطانه عنباً، كم مُبْحِرٍ وهموم البرّ تسكنه وهارب من قضاء الحب ما غرب، ياشام أين هما عينا معاوية وأين من زحموا بالمنكب الشهب؟).

Top
X

Right Click

No Right Click