الي دبر سالا - الحلقة الثامنة عشر
بقلم المناضل الأستاذ: محمد عيسي المصدر: الرمال المتحركة
البخور والحجابْ:
تمكنا من الحصول علي جملٍ للمناضل كداني الذي صارت حالته الصحية في تدهور حيث صار لا يأكل ما يقدم لنا من أكل والإرهاق
والمشي المتواصل ذِدْ علي ذلك النزيف الذي صار يشتد كل يوم كما أن الجو الساخن فاقم من حالته وصرنا في حيرة من أمرنا لا ندري ما العمل.. حتي في المساء الجو كان ساخنا وكل ما ابتعدنا أكثر في أغوار بركا ازداد الجو سخونة وصرنا نصرف الكثير من ماء شربنا في تبريد رأس ووجه كداني.. صارت الأمور تتفاقم وصار أكثر حدةً في حديثه وهو الأنسان الهادئ والمقدر للأوضاع لكن مع صعوبة الأشياء وقلة الحيلة بيدنا صارت طباعه تتغير ونزيفه في تزايد حتي الفترة الزمنية التي كان يأخذها صارت تطول ولا ينقطع الا بعد صعوبة وبعد صرف كمية كبيرة من الماء للتبريد وليس لدينا من الأدوية الا القليل جدا وما هو فقط لتضميد الجراح وبعد الحبوب المسكنة التي لا تفيد في حالته.. حتي ركوب الجمل صار يؤلمه بعد فترةٍ من الوقت وصار لا يطيقه وكذلك المشي يفاقم من حالته.. تحدثنا أنا وصباح الخير في ما يمكن عمله قبل أن تفلتْ الأمور من أيدينا.. اتفقنا علي نتوقف في أحدي القري الكبيرة حتي تستقر حالته ويتحسن قليلا ثم نواصل بعدها.. كان الوقت ليلا والموطن صاحب الجمل في المقدمة يدري الطريق جيدا ويقود في جمله وكداني علي الجمل وأنا وصباح الخير نسير في خلفهم ليس ببعيدين عنهم والجو الساخن بدأ تدريجيا في الميول نحو البرودة فالنسائم العليلة بدأت تدريجياً في تلطيف الجو مما سوف يساعدنا علي قطع مسافة اكبر قبل أن نصل الي القرية المقبلة التي بها سوف يتركنا المواطن صاحب الجمل علي أملٍ أن نحصل علي جملٍ آخر من تلك القرية.. كداني يطلب أن نستريح قليلاَ وعندما سألنا المواطن صاحب الجمل عن المسافة المتبقية للوصول الي القرية يقول "هلي كتاي قراهو هليتْ" يعني بأن القرية توجد خلف ذلك التل كما أنه يود أن يعود الي أهله مسرعاَ ويطلب في أن نواصل والقرية علي حد قوله ليست بالبعيدة.. عندها سألنا كداني ان كان يستطيع التحمل حتي نصل القرية ويقول كداني بأنه متعب ويود الاستراحة لكنه سوف يتحمل ان كانت القرية ليست بالبعيدة وهكذا واصلنا في السير ونواصل ثم نواصل والتل المذكور قد تجاوزناه وتلالٍ أخري غيره تجاوزناها ومازلنا نواصل في المسير وهنا نفد صبر كداني وأصر في التوقف والاستراحة وافقناه في ذلك لكن المواطن أصر علي المواصلة حتي نصل القرية التالية والتي يقول بأنها ليست بالبعيدة الآن.. بذلنا جهدا جباراَ لأقناع المواطن وتحت اصرارنا وافق علي التوقف والاستراحة.. دروس وعبر في المصاعب التي صارت تواجهنا وكيفية التغلب عليها أخذا في الاعتبار الرغبات المختلفة وكذلك أهمية كلا الأمرين فالمواطن يود ايصالنا والعودة الي أهله والمناضل كداني له الحق فيما صار يكابد ويعاني من أمورٍ عدة في آنٍ واحد وعلينا مراعاة حالته الصحية دون أن نقسي علي المواطن.. لحسن الحظ بمجرد أن تحركنا من موقعنا وصعدنا قليلاَ بدأنا في مشاهدة نار القرية وكان المواطن علي حق عندما قال في المرة الثانية بأنها ليست ببعيدة.. وصلنا وتحدث المواطن مع بعض افراد القرية حيث أحضروا لنا ماءاَ وكذلك بعضٍ من اللبن.. شكرنا المواطن كثيرًا علي تحمل المشاق معنا وعلي اخطار أهل القرية بأمرنا لقد قام بحق في خدمتنا رغم أن عليه العودة الي أهله لقد قام بالواجب وأكثر.. قضينا ليلتنا في القرية وفي الصباح الباكر سألنا كداني ان كان يستطيع ويود في المواصلة أم أن نبقي في القرية حتي تتحسن حالته.. فضل المواصلة في المسير علي الأقل في الصبح الباكر والتوقف في أول قرية نصلها.. أتفقنا علي ذلك وذهب صباح الخير في طلب الجمل وكان المواطنون قد حددوا مسبقا شخصاً معيناً لخدمتنا من البارحة عند وصولنا.. انطلقنا وجو التفاؤل يعمنا وحالتنا تعلو وتهبط مع تحسن أو عدم تحسن حالة كداني والحمد لله ففي هذا الصبح معنوياته عالية حيث شرب اللبن في البارحة وأستراح ونام وكل ذلك أفادنا كثيرا كذلك الجو المنعش والذي مازال يميل الي البرودة ساعدنا في السير بنفسياتٍ عالية ومعنوياتٍ حدودها السماء علواً.. صباح جميل ذكرني صبايا وأنا أسمعُ صياح الديكة ونحن نغادر القرية.. لقد استفدنا من تلك المعنويات وسرنا كثيراً ويبدو بأننا قد قطعنا مشواراً معتبرا وشمس بركا القوية ها هي بدأت تسطع وتلسع بألسنتها وهمنا أن نصل الي القرية قبل ان يبدأ رعاف كداني.. لقد كان تخوفي في موضعه حيث بدأ الرعاف وكداني يطلب التوقف والنزول من الجمل وقطعة الشاش علي انفه.. بدأنا نصب الماء علي رأسه لتبريده وليس بظلٍ في المكان يمكن ان يستظل به وأتحدث مع المواطن صاحب الجمل إن كانت القرية ببعيدة ورده كان بأن الانحدار الذي نحن فيه يوصلنا الي الوادي وبمجرد ان نعبره هناك القرية خلف الوادي.. خبر مفرح وأردت أن أرفع معنويات كداني به وذكرت له ما قال المواطن.. قال لا أود أن أكون قاسيا علي المواطن لكني لا أصدق حتي أري والبارحة وما صار فيها ليس ببعيد.. انطلقنا مجدداً دون أن يتوقف الرعاف كاملاً حيث لا ظلَ هناك ولا شجر ومن الأفضل المسير وكما قال المواطن نزلنا الي الوادي وها هي أغنام القرية في الطريق نلتقي بها وهي تعبر الوادي.. اطمأنت نفوسنا والمكان يبدو جميلا وهذا رجلُ من القرية عندما رآنا فرح فرحا شديدا كالذي كان يبحث عن ضالته ووجدها أتي وسلم علينا وقال اتمني أن تكون وجهتكم قريتنا قلنا نعم فأخذ الحسال من المواطن صاحب الجمل وصار يقودنا وقال بأن ابنته ترتعد من الحمي وربما تكون بها ملاريا "عَسُو" وقال في المرة السابقة عندما كانت زوجته بها نفس الأعراض وكانت الجبهة مارة بقريتهم أعطوها حقنة أدت الي شفائها ويضيف قائلا ولحسن حظ ابنتي ها أنتم الآن قد وصلتم قريتنا وسوف تقومون بالواجب نحو ابنتي ويحمد الله كثيرا بانه التقي بنا.. نتبادل أنا وصباح الخير النظرات ونحن في حيرة من أمرنا ولا ندري كيف سوف نتصرف.. اقترب صباح الخير من المواطن وقال له بأنه ليس معنا حقن لكن سوف نقوم بالواجب علي قدر استطاعتنا وسأل المواطن لماذا يٌحمل كداني علي ظهر الجمل أهو مريض ورد صباح الخير بالإيجاب مضيفاً بأن له رعافٍ مزمن وكرر الرجل غير مصدقٍ أقُلتَ رعاف ورد صباح الخير بالإيجاب.. قال الرجل أدري أنتم الجبهة لا تؤمنون بهذه المسائل لكن إن اردتم عالجته لكم ومرةٍ اخري نتبادل أنا وصباح الخير النظرات ويرد عليه قائلا سوف نسأله فان أراد ووافق فلماذا لا ثم أضاف صباح الخير قائلا عندما نصل موقع استراحتنا سوف نشاوره ونأخذ رأيه في الأمر وعندها نخبرك.. وها هي معالم القرية تبدو من بعيد والرجل يدري المكان المناسب وأخذنا مباشرة الي تلك الشجرة الكبيرة ذات الظل الظليل حيث أجلسنا وذهب وأحضر الماء والنار وبدأتُ في تجهيز الشاي وذهب صباح الخير مع الرجل لمعاينة ابنته المريضة وبعد فترةٍ عادا سوياُ وتبدو علي المواطن علامات الفرح والسرور لقد كانت ابنته تغلي من الحمي وكانت قد غطيت بنوع البطانية المصنوعة من صوف الغنم "شمتْ" وكانت تتصبب عرقاً وأول ما فعل صباح الخير هو إزالة البطانية عنها.. وبقطعةٍ مبللة من القماش أزال العرق من وجهها ووضع القطعة في جبهتها بعد أعطاها حبوباً لأنزال درجة حرارتها.. جلسنا الجميع نشرب في الشاي واخرج صباح الخير بعض الحبوب وطلب من الرجل أن يعطيها حبة واحدة ثلاثة مرات في اليوم الي أن تنتهي وزاد سرور الرجل وعندها يقول لماذا لا تسألون صاحبكم إن كان يوافق علي أن أقوم بعلاجه وتساءل كداني عما يقوله الرجل وعندها تدخل صباح الخير وشرح لكداني ما ذكره الرجل عن إمكانية علاجه ان كان يوافق.. ارتبك كداني وتلعثم قليلاً وبعد أن تمالك أنفاسه قال كيف وبماذا وسألت الرجل أن يشرح لنا كيف وبماذا سوف يتم العلاج ورد الرجل قائلاً انا أخبرتكم بأنكم لا تؤمنون بهذه الأشياء لكني أعدكم انشاء الله أن أعالجه.. شرحنا لكداني حديث الرجل ووَعْدَه بعلاجه دون سؤال عن كيف وبماذا.. تردد كداني وقال إنه عاني من هذا النزيف لمدة وانه مستعد لفعل أي شيء لكن ليس بأن يضع نفسه تحت تصرف هذا الرجل الذي لم يوضح ولا يريد أن يوضح بماذا وكيف سوف يعالجه.. قلنا لكداني بأنه صاحب القرار وبأن له الحق في الرفض أو الموافقة ولقد كانت مبادرة من المواطن ولم يطلب منه أحد فعل ذلك وفي تلك الأثناء استأذننا المواطن صاحب الجمل في العودة الي قريته وشكرناه علي أتعابه معنا وتمني لنا سفراً سعيدا وغادر عائداُ وبعده مباشرة قال المواطن يبدو أن صاحبكم لا يريد العلاج من يدي وهو حرٌ في ذلك وأراد المغادرة وفي تلك الأثناء لا أدري ما الذي دفع كداني لتغير رأيه وقال لصباح الخير بأنه موافق في أن يعطي الرجل فرصة لربما يكون ذلك أنفع وأفيد ,, وذهب الرجل الي منزله وأحضر بعد الأعشاب واناءاً للبخور "مبخرت" وطلب من كداني أن يجلس مستقيماً ووضع النار في أناء البخور ثم الأعشاب وقام بتغطية كداني بثوبه وأدخل البخور من تحت الثوب ثم أخرجه وتركه ليتنفس ثم كرر ذلك سبعة مرات وتركه عندها لينام ثم ذهب الي منزله وقال سوف أعود لاحقاً بحجاب له.. ذهب الرجل وكداني يغطي في نوم عميق ونحن في ذهول من أمرنا لا ندري ماذا نقول وكيف نفسر الأمر لكن همنا الوحيد أن نري الرعاف وقد توقف نهائيا.. وفي وقت الظهر عاد الرجل ليقول بأن حالة أبنته في تحسن وهي أفضل مما كانت عليه سابقا ويشكر صباح الخير وقد أتي يحمل قدحا به عصيدة باللبن وكداني كان وقتها قد استيقظ وقال بأن تنفسه الآن أفضل بكثير من السابق أما الرعاف فلا يدري عن ذلك بعد.. أخرج المواطن من جيبه حجابا قد ظرفه جيدا بقطعة من الجلد ووضع فيه خيطا وطلب من كدان أن يمد يده وقام الرجل بوضع الحجاب في يد كداني الذي لم يبدي أي رفضٍ أو ممانعة وقال له أنشاء الله سوف ينفعك.. طلب صباح الخير من الرجل أن يبحث لنا جملا يعيننا في الطريق حتي تتحسن حالة كداني.. قال الرجل سوف أذهب الي القرية وأري لكم أحدا يرافقكم بجمله متي ما تشاؤون الرحيل أما عن كداني فصدقني بأن حالته سوف تكون أحسن من السابق وسوف ينقطع عنه الرعاف تماما.. قالها وكأنه العارف الواثق من نفسه.. مكثنا بالمكان حتي بعد العصر وحتي ذلك الوقت لم يأتي كداني الرعاف ولا نستطيع تأكيد الانقطاع ان كان مؤقتا أو كان دائما وعلي كلٍ سوف يتجلى ذلك لاحقا.
ونواصل في الحلقة القادمة...
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
تجربة طالب أرتري ترك مقاعد الدراسة والتحق بالثورة الأرترية وهي في أوج تألقها وصعودها نحو انتصارات عظيمة.