أيام لاتنسى من ذكريات المناضل محمد علي إدريس ابو رجيلا - الحلقة السابعة والعشرون والأخيرة
إعداد: جبهة التحرير الإرترية
مقابلة الرئيس اسياس ونهاية الحلم بالتسامح: كما ذكرت في الحلقة السابقة حددلنا القائمون على أمرنا موعد مقابلة الرئيس
الذي كان جدوله مزدحماً بالعديد من الزوار من الأمم المتحدة المشرفة على الاستفتاء ومن وفود الدول ومن الصحافة والتلفزة العالمية التي كانت تعج بها البلاد لتغطية الحدث الكبير الاستفتاء ولمعرفة القادة الجدد لهذه البلاد القادمة للساحة الدولية من هم وكيف يفكرون وماهي نواياهم وكيف سيتصرفون كانوا يراقبون كل شيئ وكانوا ينقلون مشاهداتهم وإنطباعاتهم في تقاريرهم الإخبارية المكتوبة والمصورة، وقد خصص لنا مشكوراً وقتاً بين هذا الازدحام الكثيف، كنا نحلم أن نجد عند الرئيس التسامح في العديد من الاشكالات الوطنية الارترية التاريخية والماثلة ومعالجات حكيمة للخلافات القديمة والقائمة كما كنا نأمل منه التسامي فوق كل شيئ والارتقاء لمستوى عظمة وجلال إنتصار ثورتنا وشعبنا ووطننا، كان أملنا أن يجعل الرئيس من نفسه ولياً لأمر كل الشعب الارتري وراعياً لمشاركته العادلة والمنصفة ومفككاً للعوامل التي تجدد نزاعاته في كافة صورها وأشكالها وألا يجعل من نفسه رئيساً لحزب أوتنظيم يحكمه ويتحكم به مادام قد أختير في موقع رئيس الحكومة المؤقتة وكلمة حكومة وبحسب فهمي البسيط أكبر من كلمة رئيس تنظيم أو حزب لانها تعني لي إدارة الأنصار والمخالفين أي إدارة دولة كل الناس ولهذا فعندما يتخذ قرار الحكومة ينظر فيه المصلحة العامة لكافة فئات المجتمع، على كل حال جئنا الى مكتب الرئيس وإستقبلتنا سكرتاريته بأحسن ما يكون وفور إخطاره جاء إلينا وسلم علينا فرداً فرداً وتحدث معنا وتحدثنا معه عن الكثير وكانت تتخلل اللقاء النكات والقفشات كان لقاءاً عاطفياً وحميمياً وقلنا له فيه رغم العاطفية والحميمية التي أحاطت بالاجتماع أوالمقابلة والتي أشعرنا بها الرئيس اليوم أنت رئيس هذا البلد والشعب بأكمله وأنت على هذا الكرسي وهذا الموقع يفرض عليك فتح صفحة جديدة بيضاء بعد الحرية والاستقلال، صفحة تجب ما قبلها وعليك أن تبادر وتستقبل وتدعو أنت من موقعك كرئيس كل أبناء إرتريا أفراداً وتنظيمات حتى يشارك الجميع في بناء وتعمير وإدارة بلادنا وإعادة شعبنا كل شعبنا من المهجر واللجوء والشتات، كنا نحلم بهذا الأمر يومياً منذ سنوات اللجوء الجماعي الأولى التي جاءت بعد مذبحة عد إبرهيم التي جرت في العام 1967م والتي راح ضحيتها بفعل قوات الكماندوس الاثيوبية العشرا من مواطنينا وإستمرت المذابح بعدها حتى فرالألوف من سكان المناطق القروية والريفية في مساحات واسعة من الريف الارتري، وكنا نقول ذلك لمناضلينا ولشعبنا في اللجوء سنعود يوماً لتراب وطننا وستنتهي سنوات اللجوء والتشرد وستنتهي آلامنا وعذاباتنا مرة واحدة والى الأبد كنا نحلم وكنا نبيع الأحلام كما يقال ولما لاونحن ثورة واجب مناضليها تقوية الآمال والتطلع للغد وتعزيز ثقة الناس في الانتصار وأنه قادم قادم بإذن الله، ولكن المهم أن يبذلوا الجهود وأن يكافحوا بأموالهم وأنفسهم وألا يقعدوا عن أداء واجبهم النضالي أبداً فالنصر يأتي فقط عندما نبذل جميعاً واجبنا، لهذا كان شعبنا العظيم يدفع الاشتراكات والتبرعات وكان شعبنا في الريف يقدم بجانب ذلك لنا الطعام وكان يذبح لنا من بهائمه ويحمل الذخائر والعتاد على ظهور دوابه يغيب عن الأسر لفترات طويلة ووكان البعض يتحمل بجانب ذلك المساهمة في نفقات عوائل المناضلين والبعض الآخر يتحمل نفقات عائلة شقيق أو صديق يناضل في الميدان، ولو جمع كل ذلك العطاء لأصبح مبلغ كبير لم يتقاعس شعبنا يومياً عن أداء الواجب لهذا جاء الانتصار بفضل تلك الهمة العالية، وكنا نقول لهم على كل فرد فيكم أن يسأل ماذا قدم وماذا بمقدوره أن يقدم واليوم أيضاً علينا أن نسأل أنفسنا فالتغيير لايأتي بالتمني بل بالبذل والعطاء والتضحية، وأذكر أن شعبنا العظيم جيلنا نحن والجيل الذي تلاه على قدر ذلك التحدي العظيم، كما كنا نحلم أن نعوض أسر الشهداء والمناضلين واللاجئين في إرتريا المستقلة التي تحررت بدماء أبنائهم عن سنوات الحرمان، ولكن بالنتيجة لم تكن أحلامنا وآمالنا العادلة في المكان الصحيح ومطلوب تحقيقها من الرجل الصحيح لهذا كانت سراباً وبقت أحلام وآمال عريضة وأذكر هنا أخي أبوشنب رحمه الله الذي قال له بطريقته الخاصة أسياس أنت قاعد هنا والآخرين هناك يقرضوا هذا مشكلة كبيرة البلد مليئة بالأفاعي ونحن بقرنا لايحلبها إلا أهلها، وهنا كان أسياس يضحك ويتبسم ويقول له عم عثمان نحن عندنا جحور لكل ما ذكرت، وكنت لفرط تفاؤلي أعتقد أنه يملك برنامج للحل والمصالحة الوطنية، وأسياس كان يقصد شيئ آخركما إتضح لنا ولشعبنا الارتري لاحقاً وحتى اللحظة لم يفعل شيئ ولايعترف بوجود مشكلات أصلاً وأعتقد أن لامجال أمام أجيالنا لفرض مشاركة عادلة ومنصفة في إدارة بلادهم إلا ببذل التضحيات والتوقف عن التباكي على الماضي والبحث الآن عن كباش فداء وعمن يتحمل المسؤولية لأن هذا سيشتت الطاقات والجهود عليها الكفاح مجدداً وللأسف هذا هو المنطق الوحيد الذي يفهم من قبل كل المتكبرين ولايعنيهم ما يراق من دماء وما يهدر من طاقات وما يبدد من أموال وما يحدث في النفوس من تباعد وربما ينتهي في الطلاق لاستحالة التعايش يعنيهم فقط البقاء على سدة السلطة والأستمرار في أخذ ما لايستحقون أو يملكون ولايتعظ أحد من التاريخ، لهذا يتوهمون أنهم سيفرضون الى الأبد ما يريدون بقوة الحديد والنار، ونحن وعندما خرجنا للثورة كانت أوهام إبتلاع بلادنا وحقوق شعبنا وإخضاعنا بقوة الحديد والنار ولم مجرد أن الأثيوبيون كثر وأن القوة الدولية الفاعلة تقف معهم وتؤيدهم كانت أوهام الابتلاع تدقق أذهان أباطرة إثيوبيا الذين لم يفهموا إلا بعد أريقت الدماء أنهاراً، وما شعرنا به عملياً بعد ذلك تنامي روح الاستئثار بالبلد والحكم سواء في الطريقة التي أتبعت أو أديرت بها البلاد أو حتى المفردات التي أطلقت في اللقاءات التي شرفها القادة الجدد، ولكنني وفي أسوأ الفروض لم أكن أتخيل أن ذلك الرجل اللطيف والذي تعامل معنا كآباء بكل إحترام ووقار داخله يعيش شخص آخر لم أتخيل أن يكون ذلك الرجل الذي عانى كغيره من المناضلين شظف العيش وإفترش الأرض وتعرض للموت المحقق عشرات المرات سيكون فرعون زماننا هذا أن يختم تاريخه بطريقة لايذكرها الناس إلا بالقبيح والتعويذ، على كل حال لم نمكث طويلاً ونحن في زحمة تلك الأيام كنا نحلم بيوم إعلان نتيجة الاستفتاء، وكان حلمنا أن نحضر لحظة تعليق العلم الوطني يوم 1993/5/24م وأن يعلق ذلك العلم واحداً من الرعيل رفاق عواتي وكنت داخلياً قد قررت أن يكون ذلك الشخص المناضل عثمان أبوشنب بحكم موقعي كمسؤول عن الرعيل وكنت أتخيل تلك اللحظة التي يعلق فيها أبو شنب علم الحرية ورمزيتها التاريخية والثورية وعلى رأسها الوفاء لجيل البدايات لجيلي أنا، وهذا القرار لم أكن أخطر به أحد من رفاقي في الرعيل حتى لايخرج الأمر من اليد وكنت أنا رئيساً للرعيل كما ذكرت، ولكن جاءت الرياح بعكس ما تمنيت وقبيل الاحتفال بإعلان نتيجة الاستفتاء بأيام قرروا مغادرتنا لأسمرا من حيث جئنا يبدو أننا أزعجنا الحكومة !! وصرنا عبئاً ثقيلأ عليها ولهذا قررت ترحيلنا بغير الأسلوب الاحتفالي الذي جئنا به شحنا شحناً في بص سفري قالوا لنا نريدكم أن تبقوا في بيوتكم وعندما يحين الموعد ندعوكم والمسافة قصيرة ونحن لنا مشاغل كثيرة وغيرها من المبررات الواهية، كنت أعتقد في قرارت نفسي أن هنالك أمر آخر غير ما يقولون وكنت على شيئ من اليقين بهذا الأمر، صعدت العربة دون أتحدث مع أحد وعدنا من حيث أتينا بقيت أراقب أمر سير الاستفتاء وأمر الدعوة وبل الفعل تم تلاشينا وللأسف الشديد عُلق العلم في ذلك اليوم المهيب عُلق من قبل مناضل ولكن مهما عظمت نضالاته فإنه ما كان سيرقى لمستوى أبوشنب بما يمثله من رمزية ووقع تعليقه للعلم في نفوس أبناء شعبنا الارتري وكيف كانت ستكون تلك اللحظة المهيبة صورة ومعنى عندما تستعيدها الفضائية الارترية تخيل وقع طلة أبوشنب وهو يعلق ذلك العلم في ذلك اليوم المهيب، ولكن تبدد ذلك الحلم وضاعت اللحظة التاريخية وبقى الحلم حبيساً لصدري لسنوات طويلة وأذكر كيف أن المناضل الشهيد محمد إدريس كلباي ومنذ عودتنا قال لنا إخواني أنا اليوم إقتنعت أن أسياس لن يقوم بأي شيئ يضمد جراحات الشعب الارتري وهو ليس أكثر من قشي ولن يكون بمستوى وقامة وتضحيات الشعب الارتري وأنا إقتنعت من هذا منذ تلك المقابلة ومن هذا التاريخ فأنا لن أكون إلا في المكان الذي يجب أن أكون فيه مهما كلفني ذلك وأنا يا أبورجيلا لاقدرة لي احتمال البقاء في جانب أومن بأنه يخادع ولن يحقق لإرتريا وشعبها شيئ وأعتقد أن الشعب الارتري سيمر بلحظات حالكة السواد فقلت له هب أن كل هذا صحيح نكون عندها بين شعبنا إذا لم يفتكرنا الله فقال لي أبو رجيلا أنا كسرتاوي ولاطاقة لي لهذا الأمر وسأكون في الجانب الذي كنت فيه، وذهب من يومها وفتح مغسلته وبقى على موقفه هذا ورفض كل العروض وكل الإغراءات وكان رحمه صادقاً مع قناعاته بقى عليها حتى إنتقل لجوار ربه وعدت مرة أخرى وقدمت الحكومة لنا ما يعادل 10 ألف نقفة لكل واحد من الرعيل ثم زرت أهلي في ضواحي منصورا وتسني وفي هذه المرة تلمست إنحدار البلاد الى درك آخر، درك لايشبه الثورة وأهلها، صدمت لهذا الواقع وندمت على خطوة ذهابنا بأثر رجعي وإن كانت عودتنا لبلادنا هي الطبيعية وخاصة لنفر في مثل سننا ينتظرون الرعاية وهذه الرعاية كانت تحتاج الاستجداء اليومي أمام مكاتب الحكام ومكتب الرئيس وليست حق واضح وثابت يقدم للمناضلين أينما وجدوا وقد آلمتي أوضاع بعض رفاقي و أيقنت أن كلباي رحمة الله كان الأصح منا جميعاً وكان على حق وهو قرأ الأمر باكراً وبذكاء فطري شديد، وعندما عدت جلست في داري كنت في قمة الغضب والحنق والسخط على مصير بلادنا وشعبنا وكنت أعض أصابعي يومياً على هذا الجزاء لنا ولشعبنا ولهذا أغلقت علي باب داري ولم أعد أخرج منه سوى للضرورة القصوى وللتفاكر مع رفاقي في الرعيل حول بعض المسائل التي تهمنا وهي تاريخية في غالب الأحيان، وقد ساعدني عامل كبر السن والسكري وأحوالي الشخصية على البقاء بين أولادي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً وفي هذا الأثناء كنت ولازلت ألتقى بالعديد من المناضلين وأستفسرهم عن واقع الحال ومصير البلاد وكنت ولازلت ألم بالكثير من المعلومات عن المعاناة وعن الآلام التي يتعرض لها شعبنا الارتري، وكنت أحس أن أحلام الحرية والعدالة قد تسربت من بين أيدينا ومن أيدي الارتريين الأخيار وصار شيطان السلطة سيداً على البلاد والناس، كان أملي أن نوفي شيئ من الدين لإخواننا ولأبنائنا الشهداء والمعاقين والجرحى ولأسرهم ولشعبنا اللاجئي في الخارج والمضطهد في الداخل، ولكن سارت الأمور باتجاه آخر، إتجاه قد يحتاج الأمر معه الى ثورة جديدة وهذا ما تقوم به أجيالنا الراهنة وهي حتماً ستصل وستنصف شعبنا ومناضلينا، في هذه الذكريات التي سجلتها كان أملي أن أكون قد سجلت ما أعرف عن تلك المرحلة حتى تقراءه الآجيال القادمة وتستخلص الدروس والعبر، وحتى أساعد فقد تجاوزت في ذكرياتي هذه الكثير من المواقف الشخصية والانطباعات غير المفيدة للاجيال حتى لاتغرق في بحثها عن الحقيقة في قضايا شكلية تصرفها عن المهام الأساسية لنضالها اليوم من أجل دولة المشاركة والعدالة والانصاف والتي بدون قيامها لن يكون لإرتريا مستقبل أو معنى وحلمي أن يتحقق ذلك لأنه وبدون تحققه سيكون مستقبل هذه البلاد قاتماً بل وبقائها مهدداً.
أتمنى أن أكون قد وفيت... وأديت ما كان يجب أن أديه من أمانة.