عن فياميتا الفدائية التي انحازت للحب ضد الحرب
بقلم الأستاذ: محمود أبوبكر - صحافي مختص في شؤون القرن الافريقي المصدر: اندبندنت عربية
سرديات إريترية عن الحب والثورة والنضال.. يعيش "العشاق الكبار" حالات نزاع عصي وصامت
في ساحات المعارك، وإذ يسعون بكل حزم ودقة من أجل تحقيق الانتصارات على جغرافيا الحروب قد لا يقوون في الميدان الآخر على مجابهة معارك القلب التي يدركون منذ البدء أنها قد تفضي بهم إلى هزائم مؤكدة، فثمة مسافة مواربة بين المعركتين.
بين أن تنتصر أو تنهزم أمام الذات، وبين أن تناضل من أجل تحقيق النصر على العدو ثمة صفحة عصية على التجاوز والطي. ولعل أكثر ما يخشاه المقاتل الشرس ليس خسارة مساحة في الأرض الصلبة التي يقف عليها متحصناً بالعتاد وبعدالة قضيته، بل تلك المساحة الرخوة في الدواخل، حيث لا يمكن قياسها ولا توقع تقلباتها المفتوحة على كلا الاحتمالين بشكل متساوٍ.
سعدية تسفو عذراء الثورة
في التاريخ الإريتري ثمة انتصارات وهزائم يحفظها "مقاتلو الثورة" في صدورهم ويروونها خفية كتاريخ موازٍ لذلك الذي ينشر في "مذكرات الحروب" والمناهج الدراسية، فتلك السرديات لا تلتفت كثيراً أو قليلاً للضعف الإنساني وتفاصيل مقاتليها الخاصة، لا سيما إذا تعلق الأمر بارتباطه بمن يحب ويهوى، لكن ثمة قصصاً أخرى يحتفى بها بشكل أسطوري لـ"بطلات" قمن بأدوار محددة مسبقاً للإيقاع بعناصر من منسوبي "جيش العدو"، حيث يتم تجنيد الحسناوات لأداء دور الحبيبات المغويات، وما إن تقع "الضحية" في شباك الهوى حتى يتم تنفيذ المهمة بنجاح.
حدث ذلك مع سعدية تسفو الفدائية التي نفذت الخطة كما ينبغي وتحولت إلى "أيقونة ثورية" على رغم ما سببته لها المهمة لاحقاً من كلفة باهظة كان أهمها انتقام جيش الاحتلال الإثيوبي من أسرتها وقتل والدها تسفو نصور، وهي الحادثة التي وثقت في عدد من كتب التاريخ، فضلاً عن أنها السردية التي بنيت عليها رواية "رائحة السلاح" لأبي بكر كهال.
لم تنحنِ سعدية لتلك الأهوال التي عبثت بعائلتها، بل استمرت في مسيرة النضال مضحية بكل غالٍ ونفيس، حيث أهملت حياتها الخاصة وتزوجت بالقضية الأكبر، قضية التحرر والاستقلال، واستحقت بجدارة لقب "عذراء الثورة" إلى أن رحلت عن هذه الدنيا صيف عام 2022.
قد ينتصر الحب أحياناً
على الطرف النقيض ثمة قصص تسقط عمداً من ذاكرة الثورة، لكن قد تجد طريقها للأسطرة وخيالات الشعراء والمغنين المحتفين بمعنى الحب بعيداً من الثارات الوطنية ومحدداتها المعهودة، منها حادثة تروى سراً عن حسناء عشرينية تدعى فياميتا، جندها الثوار الإريتريون للإيقاع بضابط من جيش الاحتلال الإثيوبي ضمن سلسلة من العمليات التي نفذوها باقتدار، وبدا الأمر للقادة الثوريين عملاً اعتيادياً لطالما نجحوا في تنفيذه بمنتهى الدقة، ومن دون حاجة إلى بناء جسور من الحيطة والحذر، حيث يبدأ الأمر كلعبة معلومة النتائج لفدائية تمضي لتنفيذ الهدف.
إلا أن ثمة أموراً قد تستجد وتمضي عميقاً خارج حدود السيطرة المتخيلة، وهذا ما حدث تماماً، عندما دقت ساعة الصفر التي يحددها قائد ما في برج متابعة المهمة، حيث لم تعد فياميتا الفتاة العشرينية التي اختيرت لتنفيذ الهدف، ثمة أمور تحولت بمشاعرها نحو النقيض، لم يعد الرجل هدفاً للإيقاع، بل مصدراً للأمان والحب غير المشروط بتعليمات القادة.
لم تتردد العشرينية في وضع الخطة كاملة أمام من كان هدفاً للاغتيال، ذلك لأن الحب قد ينتصر أحياناً على ما سواه من المشاعر، فيعيد تعريف الأشياء بطريقة تتجاوز منطق الأمور السابقة، هكذا انتمى الطرفان إلى وطن يتجاوز الجغرافيا وسيرة الحروب، فطلقا معاً قناعاتهما السابقة ليبنيا وطناً أثيراً كعصفورين ينتميان للغيم الذي لا تحده خطوط الأطلس، فرا من خريطة المعارك، ليعيدا تأثيث ذاكرتهما بشكل يتماهى مع نداء القلب، حيث كانت التفاصيل الصغيرة في يومياتهما تنسج الأحداث بطريقة مغايرة للحدث الأكبر، فالأشياء الجانبية ومتناهية الصغر، قد تقضي في لحظة ما، على الحدث الأكبر ولا تبقي منه شيئاً.
الأسطورة سليلة الواقع
تقول الشاعرة الإثيوبية بلاينش بيهون إنها قرأت قصة فياميتا في نص صغير منشور في إحدى الصحف المحلية، واعتقدت أنها خيالية، إلا أنها تفاجأت بعد انتقالها إلى الولايات المتحدة بأنها حقيقية، وأن بطلة القصة تعيش هناك.
وتصف بيهون في حديثها لـ"اندبندنت عربية" القصة بأنها "أقرب ما تكون للأساطير التي نقرأها في الرويات الخيالية، ليس لجهة أن تقع فدائية مكلفة مهمة سرية، في الحب فحسب، بل لأن ضابط الجيش الذي أحبته قد قرر هو الآخر أن ينحاز للحب، ويترك وظيفته ليهربا معاً خارج خريطة المعارك".
وتشير إلى أن الوظيفة العسكرية غالباً ما تفرض على الشخص طبيعة صارمة ومنضبطة بالتعليمات، وقد لا تعير الحب الاهتمام كثيراً للدرجة التي تدفع إلى ترك الوظيفة والهجرة إلى الخارج في ظل مستقبل مجهول ومحفوف بالمخاطر، مما يعطي القصة بعداً أسطورياً، ويجعلها تبدو بالفعل خيالية الطابع".
وتقول الشاعرة الإثيوبية إنها كتبت قصيدة غنائية بغرض تقديمها لأحد الفنانين، إلا أن الحرب التي استجدت في نهايات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة بين كل من إريتريا وإثيوبيا قد جعلتها تفكر أن المزاج المشترك لجمهور البلدين لن يستقبل بسلاسة توثيق مثل هذه التجارب التي تنتمي للمحبة.
وتؤكد، "كانت القصة ستبدو عند بعض الإريتريين أنها حكاية خيانة وطنية، إلا أن خروج العاشقين من المعركة ككل، ومن وطنيهما لخلق وطن يشبههما، أحبط ذلك التصور المسبق لمآلات الحكاية، وهذا ما يجعل الحكاية أقرب إلى الأسطورة".
الفن قد يوثق ما سقط عن ذاكرة التاريخ
في بداية الألفية الجديدة أطلق الفنان الإثيوبي الشاب جاكي جوساي أغنية بعنوان "فياميتا"، والتي تروي قصة فتاة إريترية وشاب إثيوبي، في استعارة للقصة الشهيرة، كانت آنذاك العلاقات بين البلدين متوترة للغاية، إلا أن الأغنية حققت نسب مشاهدة عالية، من قبل شعبي البلدين، خلافاً للمزاج العام الذي كان يتم تصويره وفقاً لبوصلة الساسة.
كانت الأغنية تقول الكثير عن العلاقات الإنسانية العابرة للحدود والمتجاوزة لإرادة الساسة. لم يقل جاكي أن اغنيته توثق القصة التاريخية القديمة، لكن لا شك أنه استفاد من التأويل الذي ارتهن له العامة من المستمعين، لا سيما أن التقاطعات واضحة، بين أغنيته وتلك القصة الشهيرة.
وفي حديثه لـ"اندبندنت عربية" يوضح "أن أغنيته تعتمد على قصة حقيقية"، ويعترف بأن كثيرين ربطوا بين القصتين، لا سيما في ظل تطابق الاسم، لكنه يحتفظ بروايته، مؤكداً "أن للجمهور كامل الحق في التأويل والقراءة الذاتية عند تلقي أي عمل إبداعي".
ولا ينكر أبداً أنه تأثر بما قرأه عن شخصية فياميتا، لكنه في الوقت ذاته يصر أن لكل عمل إبداعي ظروفه الخاصة قد تتقاطع مع الراهن والماضي.
ويضيف، "علينا أن نترك المساحة مواربة لخيال المتلقي وتأويله، لأن دور الفن أن يخاطب ذاكرة المتلقي وخياله، دون أي تعليب، أو تغليب لرواية بعينها".
بعد هذه الأغنية عد جاكي "فنان القطرين"، حيث سار على المنوال ذاته الذي يمد الجسور، ويستنهض ما غفل عنه الساسة على ضفتي نهر مرب.
يقول إنه "غنى للسلام والمحبة بين الشعبين، عندما كان الساسة على خطي نقيض"، مضيفاً، "الآن البلدان يعيشان بسلام، يبدو الأمر كحلم تحقق، هذا ما كنت أنشده في أغنية فياميتا، لا أكثر".