الغولاغ الارتري.. الكاتب والكتاب
بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح نقلا من مجموعة: حوار لوعي مشترك - واتس آب
بين يديَّ كتاب يحمل عنوان (الغولاغ الإرتري) كتبه معارض سوداني، عاش في إسمرا،
يوم كانت تؤوي معارضي نظام الإنقاذ.
ويقع الكتاب في تسع وسبعين صفحة، أصدرته في الخرطوم عام 2011م، مدارات للنشر. أما الكاتب فاسمه أمير بابكر عبدالله.
وكما هو موضح في التعريف به "درس في كلية الصحافة الدولية جامعة الصداقة موسكو، ودرَّس في قسم الاجتماع والانثروبولوجيا جامعة النيلين".
اعتقلته مخابرات أفورقي، ورمت به من معتقل لآخر حتى أخلت سبيله.
سجَّل يوميات اعتقاله في هذا الكتاب، بعنوان (الغولاغ الارتري).
ولعل من المفيد أن نعرف أولا معنى ( الغولاغ) قبل أن نستعرض معاناة هذا المعتقل السوداني، وشهادته في تصوير معاناة المواطن الارتري.
والغولاغ اسم لأبشع وأشنع معتقل سوفيتي، في عهد الثروة البلشفية.
وبالعودة إلى موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية نجد تاريخه " يرجع إلى عام 1918م، بعد عام واحد من قيام الثورة البلشفية.
ويقال: إن ضحاياه في عهد استالين من عام 1923-1953م، بلغ 18 مليون نسمة، سقط منهم قرابة خمس ملايين نسمة".
والسر في تسمية الكاتب كتابه بالغولاغ الارتري، تقريب الحالة السيئة التي يعيشها الإنسان الارتري في معتقلات أفورقي إلى ذهنية القارئ.
ويبدأ يومياته هذه من أول يوم السؤال عنه، الأربعاء 31 مارس 2004م، حيث علم - كما يقول - من زملائه في مكتب إعلام التحالف أن أفرادا من جهاز الاستخبارات الارتري، يقودهم شخص يدعى (برهاني) من حرس الحدود، يبحثون عنه.
ولاحتمالات عدة أوردها، لا يحدد واحدا منها بالضبط، يقول: "وجدت نفسي معتقلا منذ الأول من إبريل 2004م، ولمدة ثلاثين يوما مع الأشغال الشاقة، في سجن تحت الأرض، على الحدود الغربية لإرتريا...".
ووجهت إليه هذه التهم التي ذكرها وهي:
1. قلتَ: لا للتدخل الإرتري في شؤون التحالف.
2. تجسستَ على التجمع الوطني الديمقراطي لصالح السفارة السودانية.
3. تهدد الأمن القومي الارتري.
اقتيد إلى سجن الاستخبارات الارتري الشهير باسم (تراكبي).
ويصفه لنا بقوله: "يقع بجوار ورشة لصيانة الآليات المدرعة... الناظر إليه لا يرى سوى أرض منبسطة... أما ما يدور تحت الأرض فهو شيء آخر، حيث تقوم عنابر ضخمة، تسع الواحدة منها لمئات المعتقلين، من الجنود والمواطنين الإرتريين، كما تقوم إلى جانبها العديد من زنازين الحبس الانفرادي، وغرف التعذيب، يصاحب كل ذلك أمراض السل، والتقيحات الجلدية، والتايفويد، والروماتيزم، فيما يجد القمل متعته رغم فقر دم المعتقلين، وضعفه نتيجة سوء التغذية".
ثم أُخذ من هاهنا وأركب في عربة شحن بشري مزدحمة بالمئات من المعتقلين، مكدسين وكأنهم خراف تساق إلى السلخانة، حسب تصويره.
يقول: "قلت في نفسي ربما هم من الإثيوبيين، ولكن اكتشفت لاحقا أن جميعهم إرتريون، ومن أفراد الجيش الإرتري".
بعد ذلك يحدثنا عن وصوله إلى سجن (كيرو) بمنخفضات إرتريا، ويقول عنه: "لا يختلف سجن المخابرات الإرترية في كيرو عن غيره من سجونها في المناطق الأخرى، ولكنه يتميز عنها بكثرة سراديبه، ومتاهاته التحت أرضية، وأن عملية التعذيب فيه تتم تحت الأرض، وأحيانا في الهواء الطلق، في منتصف النهار".
ثم يعقب على كل هذا متسائلا سؤال إستغراب واستنكار بقوله: "ولكن لماذا كل هذا؟ وهل يستحق المواطن الإرتري كل هذا؟".
وفي 4 إبريل 2004 م، وجد نفسه ضمن مجموعة إرترية معتقلة في سجن (أدر سار).
يقول عنه: "أدر سار أصلا بلغة الحدارب، ومعناها السهم أو الرمح الأحمر".
وفي وصفه لهذا المعتقل يقول: "تستلقي ثلاثة عنابر ضخمة تحت الأرض، واثنتي عشرة زنزانة جماعية، تحتمل حوالي أربعة أشخاص... وهذه الزنزانات تستخدم عادة للنساء والفتيات".
وبلغة مشفقة، وإحساس رهيف، ومشاعر إنسانية نبيلة، يقول الكاتب: "إن وجود فتيات رهن الاعتقال، في هذا الموقع من العالم، يعد شيئا غريبا، لا يبرره شيء سوى طريقة التفكير المشبوه التي تسيطر على الجبهة الشعبية، في مختلف الأمور، وغرابة الوضع تأتي من خصوصية المرأة واحتياجاتها اليومية، فلا مكان مخصص للتبول، حيث تتبول في الخلاء، وتحت فوهات البنادق المشرعة، ولا أدري كيف يقضين حاجتهن في ظل هذا الوضع الذي نعاني منه نحن الرجال".
ويحكي عن المشرفين على تعذيب السجناء فيقول: "كان يشرف على التعذيب أحد الضباط يدعى (داؤود) وهو واحد من سيئي السمعة في هذا المجال، ويتبع مباشرة للجنرال تخلي منجوس الرجل الخامس في الدولة...".
ويقول عن تعذيب الفتيات:" حتى الفتيات كن نسمع صراخهن يوميا بعد العاشرة مساءً، كنا نقول: إنهن يتعرضن للضرب أيضا، وربما الإغتصاب، وهو شيء متوقع من (داؤود) وطاقمه".
ويروي لنا معاناة فتاة قبض عليها وهي هاربة تدعى (سمهر) حسناء لم تتجاوز السادسة عشر عاما، كما يصفها.
أخضعت للتحقيق واستدعي والدها كبروم.
يقول عنه: "ها هو الأب كبروم الذي تجاوز الستين من عمره، يستلقي بجواري، تعلو وجهه الدقيق ملامح نظرة قلقة، وتملأ عينيه عبرة يحاول الإمساك بأطرافها قبل أن تنزلق دموعا".
وهمس إليه كبروم معبرا عن استيائه حين قال له - كما يحكي عنه: "هل سيظل عمل المخابرات في بلادي هو مطاردة الهاربين عبر الحدود بدلا من وضع خطة متكاملة بزواياها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، تجعل من الممكن أن يعيش الإنسان في وطنه عزيزا مكرما...".
و في السياق نفسه من هذا التصوير لواقع سجون نظام أفورقي وجهاز مخابراته، لا ينسى أن يعرج بنا الكاتب إلى سجن نخرة؛ ليقص علينا آلام من ابتلوا به.
ولكنه لم يذكر أنه اقتيد إليه، وإنما وصفه يأتي من أناس اقتيدوا إليه التقاهم.
منهم سجين ملقب (بمالطا) يقول: لا أعرف له اسما غير اسم (مالطا) على مشارف الستين من عمره، قضى ستة أشهر في سجن المخابرات الإرترية (نخرة).
يقول الكاتب نقلا عن (مالطا) في وصف سجن نخرة: "يعتبر السيد مالطا أيام سجن (أدر سار) نزهة رغم ثقلها، لكنها لا تضاهي سجن نخرة".
ويعود بناء هذا السجن إلى العهد الاستعماري الإيطالي ... "وجدته المخابرات الإرترية مناسبا لها؛ لتمارس فيه ذات الغرض الذي بني من أجله".
وفي وصف خصائصه التي يختص بها سجن نخرة، يقول وأهم ميزتين يتمتع بهما سجن نخرة عن غيره من سجون المخابرات الارترية هما أولا الرطوبة العالية.
وثانيا (الإستكوازا) وهي من القشريات البحرية، من فصيلة السرطان والكابوريا، وعادة ما تخرج إلى الشواطئ الصخرية، عندما يحل الليل، وتكثر في الليالي المُقْمِرَةِ، وتطلق أصواتا أشبه ببكاء الأطفال، مما يثير الاضطراب في نفوس السجناء والمعتقلين... لذلك عانى السجناء - ولا زالو - من هذا البكاء الذي يشق الصدر، ويدفع إلى اليأس، بل قاد بعضهم إلى الانتحار أو محاولته".
كذلك تحدث عن هذا السجن الكئيب ستة أشقاء التقاهم، ثلاثة ذكور، وثلاث فتيات، قبض عليهم وهم هاربون من جحيم أفورقي في (أمي هميمت) ومنها أخذوا إلى قرورة حيث "سجن تحت الأرض تابع المخابرات، ويديره قائد المنطقة وقتها الرائد ولدو، وملازم أول عثمان".
يقول الكاتب متأسفا على حال هؤلاء الأشقاء: "ويمكن تخيل ما حدث لثلاث فتيات على سطح الأرض، ناهيك من تحت الأرض، إضافة إلى أنهم قريبون من منطقة (عريرب) التي أنشأت فيها الجبهة الشعبية واحدا من أشهر سجون مخابراتها منذ أيام النضال، والتي توجد فيها فرق الإعدام التي تنفذ في معارضيها الآن دون محاكمات".
وفي بيانه لأكثر الفئات المستهدفة من المخابرات الإرترية، لا يفوت الكاتب أن يقول لنا: "أبناء البني عامر في سجون المخابرات الإرترية كثيرون، ورغم وجود أعداد متقاربة من كل القوميات الإرترية في تلك السجون، إلا أنهم المشكوك فيهم من قبل المخابرات أكثر من غيرهم، خاصة في مناطق المنخفضات، والبحر الأحمر...".
وفي الصفحات الأخيرة من كتابه يعود ليؤكد لنا فشل الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، في حكم البلاد، وأن ما ذكره غيض من فيض، فيقول: "ما تناولته في الحلقات الماضية من مأساة يتعرض لها بعض المواطنين الإرتريين، في سجون المخابرات الإرترية، والتي لا تخضع لأي نوع من الرقابة، لا يعكس سوى جانب ضئيل أمام ما يتعرض له الكثير من المواطنين، حيث صارت تلك الدولة الحلم، في ظل حكم الجبهة الشعبية (الديمقراطية والعدالة) مجرد سجن كبير، يعاني نزلاؤه من إرتريين - وحتى الأجانب - الأمرين، فمن ناحية تسقط على رؤوسهم مطرقة فشل السياسات الاقتصادية للنظام الحاكم وتبعاته، ومن الناحية الأخرى ينتظرهم سندان القبضة الأمنية والقمع وسوط الجلاد المسلط على رؤوسهم".
ويرجع الكاتب هذه القبضة الأمنية الحادة وسياساتها الفاشلة، إلى عقل مقلد بصورة مشوهة للتجربة الماوية، نقلها ووظفها في إطار قراءة خاطئة وغير شاملة وعميقة، حسب تقديره.
وفي هذا يقول: "وكل ما أخذته من (صين ماو) هو قشور منهجها الأمني والمخابراتي؛ لتمارس سياساتها الأمنية وفق منطق مختل، زاد من وحشية القمع والبطش، في ظل الحصار الذي تضربه حول أي معلومات عن هذا الأمر".
وإزاء هذه المعلومات من هذا الكاتب عن سجون النظام، ووحشية تعامل رجال أمنه مع المواطن الإرتري، في هذا الكتاب التوثيقي، لابد من أن نتساءل نحن أين المشكلة ومن المسؤول؟.
وأعتقد المشكلة هي في القيادة التي تصدرت تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، وصممته على هذا النمط الإرهابي بحجة الانضباط التنظيمي، وضرورة مرحلة الكفاح المسلح، ثم فلت من يدها؛ ليستقر في يد شخصية سيكوباتية.
وهي جميعها مسؤولة عن كل هذا الذي يجري اليوم من تجاوزات في حق المواطن الإرتري، وليس إسياس أفورقي وحده.
وكون هذه القيادة انقلبت على بعضها، وتمكن أحد أفرادها وهو إسياس أفورقي لسبب ما، من التحكم في الجهاز الأمني بكل أجنحته المتنوعة، وتوظيفه في تمكين ذاته بالقضاء على الآخرين أو تهميشهم، لا يعفي جميعها من تحمل المسؤولية التاريخية.
فهي الثقافة نفسها التي نظرت لها وانتهجتها في التعامل مع مخالفيها، وبموجبها أبادت جماعة المنكع.
وكونها نجحت في هزيمة المستعمر، فهذا النجاح ليس بكاف لأن يجعل منها قيادة راشدة ومؤهلة لقيادة المجتمع الإرتري بعقلية انفتاحية، تحترم كرامة الإنسان الارتري.
ولا هي بريئة من كل هذه المأساة والفشل الذي يعيشه شعبنا.
وهذا ما يحملنا على الاستغراب ممن يضع إسياس أفورقي والمجموعة التي شاركته في بناء التنظيم وقيادته في مصاف القادة الملهمين.
أي ألهام هذا - لا أدري - إن لم يكن إلهاما من الشيطان؟.
إنها فعلا ما أسماه الأخ زين العابدين متلازمة استوكهولم.
وليس لنا في مثل هذه الحالة إلا أن نردد مع رئيس وزراء السودان الأسبق محمد أحمد محجوب.
هذا زمانك يا مهازل فامرحي فقد عد كلب الصيد من الفرسان.