قراءة في لوحة الهروب الأخير للتشكيلية الأستاذة تيسير علي مران
بقلم الأستاذ: يبات على فايد - شاعر وكاتب وناقد
تخرجت الأستاذة تيسير في جامعة حلوان، كلية الفنون الجميلة بالزمالك، قسم جرافيك شعبة تصميمات، 2006م.
أقامت عددا من المعارض الجماعية بالقاهرة.
لها ركن مرسمها الخاص بها، حيث تردها الكثير من طلبات الرسم (مدوفعة الأجر بالطبع)، خاصة الوجوه، تلك التي تجيدها كل إجادة. ويمكن للقارئ الكريم أن يرجع إلى صفحتها على الفيسبوك: "Tayseer Ali" للمزيد من التعرف عليها وعلى أعمالها.
بنا ننظر في ما وراء اللوحة:
تكونت مفردات اللوحة من ثمانية عناصر بحسب رؤيتي، ولكل عنصر دلالاته وإيحاءاته:
تكثيف الضوء، والبحر، والمركب الغارق، والجثامين على الشاطئ، والمرأة الأم الباكية، والطفل المشارك أمه النظرة، والسلك الشائك، والتعليق الذي صحب اللوحة.
المفردة الأولى في اللوحو هي تكثيف الضوء:
تشير الإضاءة الشديدة على اللوحة رغم اسوداد الموقف على صفاء قلب التشكيلية تيسير، كما يمكن أن يُحدِّث عن قرب انقشاع الظلم، وعودة الحق إلى أهله، بل قد تكون نبوءة بحلول السلام على الدنيا بعد أن مُلئت فسادا في جنباتها كلها، فقد استحر القتل فينا عربا وعجما، وليس بأسوأ من بعد الشرك بالله تعالى من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
"وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ".
المفردة الثانية هي البحر:
وهو حليف الصحراء في اغتيال المتفائلين من المغلوب على أمرهم، الفارين بدنياهم ودينهم إلى الغرب. ويا لها من مأساة أن يشردك أهلوك وبنو جلدتك ظلما وعدوانا. إنه البحر الملاذ والهلاك، الأمل والألم، التفاؤل والتشاؤم، باهتزازاته الحالمة، وأمواجه الظالمة. وما أقسى أن تلجأ الأم بثمرة فؤادها من بني جلدتها إليه، ظنا منها أنه قد يكون بها أبر، وأرحم. وكم كان البحر متنفسا، ومحل استجمام! فلم يعد في ذاكرة عصرنا أفارقة وعربا، إلا ذكرى جثامين ودموع.
المفردتان الثالثة والرابعة هما المركب الغارق والجثامين على الشاطئ:
وهما ضحايا البشر والبحر، وإن كان المسبب الأول هو الظلم والطغيان، والجهل بالحياة. جهل حكامنا، وجهل إخواننا المعتدين علينا تقتيلا أدى إلى تشريدنا وضياعنا وهلاكنا. وفي إبقاء الفنانة على شيء من القارب إشارات وإيحاءات بالتخويف من ركوب هذا العاتي، على سفن هالكة، أو مراكب لا تستطيع تحمل أمواجه وتلاطمها، وهي رسالة كبيرة في إشارة بسيطة، وهكذا الفن يعطي الكثير بالإشارة القليلة. أما الجثامين فهي رسالة أخرى وتخويف من مآلات كريهة، وأن ليس كل المتجه إلى الغرب عبر البحر آمن، وأن النهاية قد تكون هذا الكفن الأبيض، هذا إن لم يكن طعما لأسماك البحر.
المفردتان الخامسة والسادسة الأم الباكية وعلى ظهرها صغيرها:
و هاتان المفردتان تحدثان كثيرا كثيرا، ففي نظرة الأم الكثير من الحنين، وصعوبة الفراق لتلك المنطقة التي خلفتها وراءها، وكأنما قد تركت وراءها أعزاء تبكيهم مر البكاء، ينازعها الأمل في أن يعيش صغيرها وتعود به ذات يوم لتلكم البقعة التي أخرجوها منها خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، إنها قصة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وإخراجه من ظله وأرضه وعزه.
وربما كانت نظرتها التفكير في وليدها، مترددة بين أن تلقي به في الأمواج متوكلة على الله تعالى كما فعلت أم موسى أو تعود به عسى أن يكتب الله له النجاة من فرعونه.
أما الصوة الأكثر مرارة في اللوحة، والأشد تعبيرا فكانت مشاركة الصغير أمه ذات النظرة، ولعله ودع أبا، أو ترك أخا، أو لعله سمع نشيج أمه فثار لذلك رغم صغر سنه، لكن ظل الحنين ملء عينه وعيني أمه لتلكم الأرض.
المفردة السابعة هي مفردة السلك الشائك:
وهو دلالة سلب الحريات: حرية البقاء في الديار، وحرية السياحة في الأرض بحسب المواثيق الدولية.
وفيه إشارتان:-
• الخوف من مغبة العودة إلى الوطن،
• والخوف من حرمان الدخول إلى البلد الهدف.
المفردة الثامنة والأخيرة برأيي هي مفردة التعليق:
وفيه ملخص ما تحسه التشكيلية، من طول فترة الأحداث المثيرة ببلادنا، والمآسي التي تستطيل الفنانة وقتها، ذلكم الوقت القاسي الجاثم على صدر الفنانة والأمة العربية. وفي تغيير موضع علامتي الاستفهام الاستنكاري، بالبدء بوضع علامة التأثر قبل التعجب، خلافا لما عليه العلامتان، تكثيف للتعجب.
إنها لوحة لا أكاد أمل التأمل فيها، ولا أنتهي من تصور ما تحمله في تضاعيفها.
إنها قصة الحياة والموت، الأمل والألم، الإنسان وأخيه الإنسان!
شكرا تيسير على هذا العمل الفني الكبير، وإن بدا صغيرا بسيطا.
محبتي وتقديري.