لماذا يتجاهل العالم ما يحدث في إريتريا؟

بقلم الأستاذ: محمد مصطفى جامع - كاتب وباحث في الشأن الأفريقي المصدر: رأي اليوم

دولة في شرق أفريقيا تتمتع بموقعٍ فريد إذ تضم ميناءين من أهم الموانئ في القارة السمراء (عصب ومصوع)، يحكمها طاغية منذ ما

يزيد عن ربع قرن ويملأ السجون بمعتقلين انقطعت أخبارهم منذ أن دخلوا الزنازين ولا يعرف إن كانوا أحياءً أو أموات.

حادثة غرق

القمع والتنكيل والفقر دفع معظم الشباب الإريتري للهروب إلى الخارج فلم يتبقَّ داخل البلاد غير كبار السن والأطفال، حيث تعدم فرص العمل إلى جانب الخدمة العسكرية الطويلة التي تفرضها السلطات على الشباب فقد تمتد فترة الخدمة الوطنية إلى 10 سنوات بل إن لجنة تابعة لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وثقت حالة شاهد نجح في الفرار من الجيش بعد 17 عاماً أمضاها في العمل العسكري دون مقابل مادي، وقالت اللجنة ذاتها إن شهودا أفادوا بأن أشخاصا أُعدموا لمحاولة تفادي ضمهم إلى الخدمة العسكرية.
وإريتريا دولة شبه معزولة عن العالم الخارجي، فمنذ استيلاء أسياس أفورقي على الحكم فيها عام 1993 عَزَل البلاد عن محيطها الإقليمي والدولي، وأدخلها في صراعاتٍ لا تنتهي مع جيرانها السودان وإثيوبيا واليمن.

مَنَع دخول وسائل الإعلام العالمية مكتفياً بالقناة التلفزيونية الوحيدة التي تمجد النظام وتنقل روايته، فضلاً عن الصحيفة والإذاعة المملوكتان للحزب الذي يحكم البلاد بالحديد والنار، ولم تقم أي انتخابات لا رئاسية ولا تشريعية منذ استلامه للحكم فالحكومة الموجودة في إريتريا لا تزال مؤقتة منذ أكثر من 25 عاما !

والقمع السياسي هناك يطالُ جميع المواطنين، لكن إضافة للقمع السياسي يعاني المسلمون بشكل خاص من قمع ديني وثقافي رغم أن نسبتهم تفوق 70% من العدد الكلي للسكان.

لذلك، صارت إريتريا دولة شبه خالية من السكان فمئات الآلاف من أبناء الشعب أصبح حلمهم الوحيد هو الهجرة خارج البلاد مما جعلهم وسيلة ثراءٍ شهية لعصابات الإتجار بالبشر المتعاونة بطريقة أو بأخرى مع جنرالات نافذين وفق تقارير منظمات حقوقية، وآخرون لقوا حتفهم في البحر المتوسط وهم في الطريق إلى دول أوروبا.

لعل البعض يستاءل لماذا لم تشهد إريتريا ثورة ضد نظام أسياس أفورقي رغم فداحة ما ارتكبه ؟ الجواب إن النضال الإريتري لم يتوقف في يوم من الأيام رغم الإعدامات والقمع والتنكيل، فالزنازين هناك ملأى بآلاف المعتقلين، وتُعتبر إريتريا أكبر سجنٍ للصحفيين في أفريقيا حسب المنظمات المعنية بالحريات الصحفية في العالم. فهناك حوالي 15 صحفيا في سجونها.

وقد اُعتقل أكبر مجموعة من الصحفيين إثر الحملة الانتقامية التي شنتها السلطات في سبتمبر/ أيلول 2001م.

وقدمت المعارضة الإريترية مئات الشهداء من بينهم يوسف محمد علي وحامد تركي وهيلي ولدى تنسئي وغيرهم، إلا أن رحيل الشيخ التسعيني موسى محمد نور في معتقلات النظام مطلع الشهر الحالي خلّف غضباً عارماً في الداخل الإريتري وخارج البلاد ما تزال ارتداداته مستمرة إلى اليوم.

ارتبط موسى محمد نور بالعمل الوطني منذ نعومة أظافره وهو من شباب الرابطة الإسلامية النشطين، وبعد إعلان الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الإريترية أصبح عضواً فعالاً وقام بدورٍ في تجنيد عدد كبير من سكان العاصمة أسمرة قبل التحرير.

وفي الأحداث الأخيرة، اعتُقل الرجل أواخر أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي على خلفية مناهضته قرار السلطات تأميم مدرسة الضياء الأهلية التي يدرس بها نحو 3000 طالب وطالبة المنهج الإسلامي ويتعلمون فيها اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم.

وكانت سلطات أسياس أفورقي أمرت بخلع حجاب الطالبات ومنع الفصل بينهن وبين الطلاب في خطوةٍ هدفت إلى تصفية المدرسة التي مازجت بين المنهج العصري والمنهج الإسلامي، مع العلم بأنها شُيّدت بالعون الذاتي وتبرعات الأهالي منذ العام 1969 حتى إن الحكومة الإثيوبية لم تمسها بسوء عندما كانت إريتريا خاضعة لسلطة إثيوبيا حتى 1993م.

وفي سابقة لم تحدث من قبل، شهد شارع أخريا وسط العاصمة الإريترية أسمرة، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مظاهرات حاشدة قوامها طلاب المدرسة وشارك فيها الأهالي، قابلتها السلطات الأمنية بالرصاص الحي، ما أدى إلى مقتل 30 شخصاً على الأقل.

ويُنسب للحاج موسى أنه قال للأهالي قبل أن يُعتقل: إن الفتيات اللاتي يأتين إلى المدرسة محجبات هُن مسلمات وهن بناتنا، ولا يمكن أن يعتدي عليهن أحد ونحن موجودون”. وأضاف: “نحن مستعدون لتحمل تبعات كل شيء، من أجل ديننا وعقيدتنا؛ لأن الإنسان يولد ليموت.

وقد كان له ما أراد، ففي نهار الخميس الأول من مارس/ آذار الجاري رحل الحاج موسى محمد نور عن 93 عاما في زنزانته التي صمد فيها أربعة أشهر تعرّض فيها إلى شتّى أنواع التعذيب النفسي والجسدي ، مثله مثل شقيقه طه وبقية السجناء السياسيين الذين تعج بهم معتقلات أسياس أفورقي.

نشير إلى أن الرجل بالإضافة إلى كبر سنه كان يعاني من أمراض الشيخوخة مثل ارتفاع ضغط الدم واعتلال القلب.

ورغم القمع وحالة التعتيم التي يفرضها نظام الجبهة الشعبية في إريتريا على ما تبقى من مواطنيه بحجب مواقع الإنترنت ومنع دخول وسائل الإعلام، فضلاً عن إغلاق الجامعة الوحيدة بالبلاد فإن حالة الرعب والخوف تسيطر على منسوبيه يتجلّى ذلك في إطلاق النار على بصورة عشوائية على مشيعي جنازة الراحل.

فما إن انتشر خبر رحيل الحاج موسى في العاصمة أسمرة حتى توجهت جموع المواطنين إلى مسجد أبوبكر الصديق المجاور لمنزل الراحل لأداء صلاة العصر حيث إكتظ المسجد بالمصلين حتى إمتلأت ساحاته الخارجية المحيطة به.

ومن هناك اتجه المصلون إلى منزل الرجل لإخراج الجثمان وتشييعه إلى مثواه الأخير فى موكبٍ لم تشهده أسمرة من قبل. وعند اقتراب الموكب من محطة الحافلات الشهيرة باسم عيني حكيم (عيادة العيون) اعترضتهم قوات الشرطة وحاولت منعهم من التقدم، وأطلقت الرصاص من أجل تخويفهم، إلّا أن الجموع الغاضبة لم ترعبها أصوات أعيرة الرصاص فواصلوا سيرهم وهم يهتفون مما اضطر قوات الشرطة للتراجع.

وألقت السلطات الإريترية القبض على مئات من النشطاء من تشييع جثمان الراحل موسى، حيث أبلغت شيلا بي كيثاروث مقررة المجلس الأعلى لحقوق الإنسان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، أن معظم من ألقي القبض عليهم من الذكور وأن الكثير منهم من صغار السن لا تزيد أعمارهم عن 13 عاما.

وبرغم ما خلّفه اعتقال الحاج موسى ورحيله في زنزانته من غصةٍ في حلوق الإريتريين وجميع من سمعوا بقصته من أصحاب الضمائر الحية، إلا أن الأثر سيظل باقياً ومحفوراً في ذاكرة المواطنين الإريتريين لن يمحى بسهولة، لاسيما وأن دفع الرجل حياته ثمناً لموقفه البطولي الذي تحدى فيه سلطة لا ترحم.

يخطئ أسياس أفورقي وحزبه الحاكم إن ظنّوا أن القمع والإعدامات والتعذيب يديم لهم الحكم إلى الأبد، ولعل ما حدث للدكتاتورين هيلا سيلاسي ومنغستو هايلي مريام خير عظة ودليل.

لماذا لا يُحدّث الرئيس الإريتري نفسه بإصلاحاتٍ قبل فوات الأوان تضمن إتاحة بعض الحريات وإطلاق سراح السجناء السياسيين وإقامة انتخابات حتى لو جزئية ؟

كما أنه يتعين على النُخب الإريترية بالخارج توحيد الصفوف والتخلي عن إدمان الانشقاقات والانشطارات الجهوية والثقافية لمخاطبة العالم برسالة موحدة ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته تجاه ما يحدث في إريتريا، فالثورة ليست تفاحة تسقط عندما تنضج, بل عليك أن تجبرها على السقوط، كما قال تشي جيفارا.

Top
X

Right Click

No Right Click