كنت شاهدا - الجزء الأول

بقلم الأستاذ: أحمد فايد - كاتب وناشط سياسي ارتري

بين هرولة الصباح المرعبة وهرولة المساء المبهجة.

كانت البداية المثيرة في صبيحة يوم الجمعة الموافق لتاريخ 24 مايو 1991،

ربما حوالي الساعة السابعة صباحاً تحركنا برفقة أخي دناش نحو شارع النصر ድል ጎዳና بحسب المسمى الإثيوبي حينها، في مهمة ذات صلة بشح المياه التي كانت تقارب العدم في ذلك الوقت. وفي الطريق توقفنا في ميدان محطة الباصات ሜዳ ምዕራፍ ኣውቶቡስ لدى ماسحي الأحذية حتى يتم لنا عمل اللازم.

وفي هذه الاثناء ودون سابق إنذار إذا بأسمرا تتعرض لقصف مدفعي وتمر المقذوفات من فوقنا محدثة الرعب بين الجميع بصفيرها المعروف، ثم ما نلبث أن نسمع دوي انفجارات قوية في كل من حي ماي تمناي وحي أخريا.

تلا ذلك وعلى الفور فوضى عارمة في كل مكان. الكل يجري وفي كل الإتجاهات. وبما لا يختلف عن غيرنا وبالرغم من أننا مَثّلنا قليلاً من الشجاعة في بادئ الأمر إلا أننا تركنا ما بدأنا، وألغينا ما اعتزمنا وعدنا مهرولين إلى المنزل في حي عداقا حموس.

في الطريق إلى المنزل، "الجميع يصطرخون" و"الكل كان يسأل الكلّ". وتأتي الردود كلها أيضاً صراخا مدوياً في مدينة اعتاد اهلها همس الحديث، وكأننا نواجه قيامة ما، لا يتخيلها إلا من عاشها.

في هذه الفوضى؛ يقول لك أحدهم، "تم مشاهدة طلائع الثوار في قزاباندا حابشا". وآخر يقول لك دخلوا من جهة "ماي تشوهوت". وثالث يقول لك "ألم تسمع الراديو"، ويصرخ في وجهك رابع: "ادخلوا منازلكم فالجيش الإثيوبي قادم إلى داخل المدينة".

ظل المشهد مستمرا ونحن والجميع نجري هنا وهناك، في كل الإتجاهات. العامل المشترك بينهم الجري والصراخ بكلمة أو اثنتين في وجه كل من تقابله.

ما أن اقتربنا من منزلنا الذي تبدوا حوله الحياة أقرب إلى الطبيعية حيث أصبحنا نرى وجوهاً نعرفها، يتنادون وينادوننا بأسمائنا، اكتشفنا أن لا مسَّ ولا جنون قد أصاب المدينة. إنّه الخوف وحده الذي أعدّت له بعض الأوساط وظلت تروج له بعد تحرير مصوع، مؤكدة أنّ مقتلةً ما ستحدث في أسمرا، وأنّ على الكلّ ارتداء ما يميز ديانته حتى يتم دفنه في المقابر اللائقة حين ميسرة.

حال وصولنا إلى الحي سمعنا بأن إعلان ما قد تم عبر الإذاعة. وأن ثمة خطب ما يقترب من أسمرا ثم دخلنا إلى المنزل وهناك علمنا بتفاصيل ما جرى من إعلان لاستسلام الجيش الثوري الثاني المعروف رمزا بالأسد ኣንበሳው بشروط ضمنها السماح لكافة أفراده بالتحرك نحو الأراضي السودانية بكامل أسلحتهم دون التعرض لهم، وفي مقابل ذلك لن يتعرضوا لأي أحد في طريقهم.

وعليه كان يفترض أن يلتزم أفراد الشعب منازلهم حتى تزول الغمة، ضمانا لعدم حدوث أي احتكاك مع الجيش المنسحب.

وبالرغم من أن مجريات الأمور التي سارت بموجب إعلان الإذاعة حتى خروج الجيش الإثيوبي الآمن من أسمرا، إلا أن هناك بعض الأحداث الفردية التي تسبب فيها، ربما تهور المواطنين أو تصرفات البعض من الميلشيات غير المنضبطة التابعة للإثيوبيين والمعروفة إرترياً بـ "مليشيا سرناي" والتي تتألف في غالبيتها من العائدين إلى "حضن أمهم إثيوبيا" ممن كانوا مقاتلين في صفوف وياني تقراي.

الطلائع في حي عداقا حموس:

بالشارع الأسمنتي المعروف بالشارع الأبيضጻዕዳ ጽርግያ، أتت من جهة الشمال أرتال من وجوه تعبر عن فسيفساء المجتمع الإرتري كما لم تشاهدها أسمرا من قبل. رجال ونساء في ثلاث صفوف متوزاية يسيرون بحرص وفي حالة بها قدر من الاستنفار.. لا يسمحون لأحد باختراق صفوفهم إلا من خلال الإبتسامات وقبضات النصر التي ترفع من الجانبين.

لم تدم مساحة الحياء والضبط والربط كثيراً، حيث اخترقت العديد من الأمهات صفوف الجنود الذي حاولوا جاهدين إعلام المحتفين بأن الأمر لم ينته بعد وأن عليهم الصبر حتى يتم ضمان الأمن وتحقيق الأمان.

كانت هذه لحظة دموع منهمرة (احتفظ لنفسي بأسبابها) وكانت أيضاً لحظة لقميصي الأزرق الفاتح الذي إن لصقت فيه غصنا سيصبح العلم الإرتري الذي حلمت به أسمرا وتصنعته ورسمته في كل ملابسها وتغنت به في مهرجانها العفوي الذي انفجر بعد حالة الإطمئنان بدخول الثوار.

بعد رؤية المقاتلين في شوارع المدينة رأي العين، تلاشي الخوف في عموم المدينة تدريجيا، ثم انفجرت الأوضاع وتحركت كل السيارات والشاحنات. وأصبح الكل يعانق الكل، والكل يهنئ الكل.

تم نزع الأعلام الإثيوبية من كل المؤسسات بدءً من القبلي (إدارة الحي) ووصولا إلى إلى المراكز الحكومية الكبرى. وكل قماشة زرقاء خرجت من المنازل ترميزاً للعلم الإرتري وغصن الزيتون الذي يتوسط العلم أصبح رمزاً للمظاهرات وشعارها الذي حمله الجميع.

ربما لم يبالغ من يقول أنّ أي من سكان أسمرا لم يبت في منزله في تلك الليلة. نحن المعتادون على حظر التجول من الغروب حتى الشروق، قضيتنا ليلتنا في الشارع. لا أحد يعرف ماذا أكل وماذا شرب وكيف تنقل من هناك الى هناك. والتقى بمن وتحدث الى من وبماذا تحدث.

كنا نتسلق أي شاحنة قادمة حيث تطير بنا إلى حيث شاءت، ولا نعرف أين ستكون المحطة التالية، وفي أي شاحنة أخرى سنتسلق. إنه جنون من نوع آخر.
ذهب اليوم الأول دون أن يعي أحد ما فعل فيه سوى البهجة، وتلاه اليوم الثاني بذات النسق، حيث ذهب بعض الشباب الى مدينة دقيمحري، ميدان المعركة الحاسمة. ورأو بأم أعينهم الأثمان الباهظة التي تم دفعها في مقابل هذه الإحتفالية الوطنية العظمى.

في الجزء الثاني غدا:- الإحتفالات الرسمية، الأوقاف يبادر الثوار يؤجلون.

نواصل بإذن الله... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click