مقاربة بين التجري والعربية من خلال قصيدة الشاعر موسى ضرار - الجزء الاول

بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح

لكل لغة شعراؤها، ولكل شعر متذوقوه وناظموه، وليس الشعر ديوان العرب فحسب،

وإنما أيضا ديوان الشعوب كلها، وسجل لغات الأمم كلها، فما من لغة إلا ولها شعرها وشعراؤها، يقيدون مفرداتها، ويخلدون خصائصها، ينفون عنها ما علق بها من غبار الزمن، مظهرين محاسنها البلاغية؛ ليتخذوا منها أداة تواصل حضاري، بها يصورون واقع حياتهم، وبها ينقلون رواسخ قيمهم ومفاخر تاريخهم، وعبرها يبرزون خصائص ثقافاتهم الموروثة عن سالف آبائهم، وخالد مجدهم.

وليس كل الشعراء يقولون ما لا يفعلون، ويهيمون مكبين على وجوههم في أودية الجاهلية، بكل ما فيها من الخلاعة والمجون، والعهر، وليس كل الشعراء غاوون ولا يتبعهم إلا الغاوون، وإنما فيهم الحكماء الممدوحون، والظرفاء المملحون، يقولون الحق وبه يعدلون، الذين ينسجون من الكلمة ما يسمو بالإنسان جسدا وروحا، وينتصرون من بعد ما ظلموا، إذا هجوا أوجعوا، وإذا مدحوا صدقوا، وإذا رثوا أبكوا، وإذا استنهضوا أسمعت كلماتهم من به صمم، ولله در المتنبئ إذ يقول:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أنشد الدهر منصتا

ما كان النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا وما ينبغي له (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) يس، آية:69 ولكنه عاش في بيئة كلها شعر وبيان، وفصاحة وطلاقة لسان، ومن هنا كان يحب الشعر ويستنشده، روى ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الزيد فقال له: أتنشد شيئا من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قال: نعم، قال: فأنشدني، فأخذ ينشده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستزيده بقوله: إيه.. إيه.. بمعنى زدني.. زدني.

وكان له صلى الله عليه وسلم شعراؤه، حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وثبت عنه قوله: إن من الشعر لحكمة وإن من السحر لبيان.

وهكذا كان للشعر سلطان عال في جزيرة العرب ونفوذ إعلامي بالغ التأثير، وبحكم ما للجزيرة العربية من وشائج القربى الجغرافي والقبلي بالحبشة لا بد أن تكون بينهما صلاة ثقافية حميمة ووطيدة، ولا بد أن تكون لغة التجري من أهم مجسدات هذه الصلاة الثقافية، وهذه الأواصر القبلية، لكونها من مشتقاة اللغة السامية الجئزية التي استوطنت الحبشة بعد أن وفدت إليها من جزيرة العرب.

نطق النبي صلى الله عليه وسلم ببعض مفرداتها، وفي هذا رفعة لها وتشريف كبير، نفخر به نحن الناطقين بها في إرتريا وشرق السودان، فقال صلى الله عليه وسلم لتلك الجارية القرشية المولودة في أرض الحبشة ساعة الهجرة حين رآها بزيها الحبشي: (سنه سنه) جميل جميل.

الكلمة نفسها ما زالت في لغة التجري مستخدمة حتى الآن يقولون: (سنه لهبك) أي ليهبك الله الجميل والحسن، وتستخدم أيضا بمعنى (جيد) فتقول لمن تحثه على الأكل: (سنه بلع) بمعنى (ابلع جيدا) وقد استخدمها شاعرنا ضرار في أكثر من موضع كما سنرى.

في استخدام النبي صلى الله عليه وسلم بعض مفردات لغة التجري كهذه الكلمة لدلالة واضحة على شيوع بعض من مفرداتها بين المجتمع القرشي في مكة مما يعني تواصلا حضاريا وتجانسا ثقافيا بين اللغتين (العربية) و(التجرية) بحكم أنهما لغتان ساميتان تنبعان من منبع واحد، وتعد كل واحدة منهما امتدادا للأخرى.

تتمتع لغة التجري بمحاسن لغوية بديعة أشبه ما تكون بمحسنات اللغة العربية، ولها خصائص ثقافية وحضارية في غاية الروعة والجمال، موصولة بتراث مليء بقيم الإيمان الرباني، وصفات الوفاء الإنساني، وعظيم النبل والكرامة، والشجاعة والمروءة.

جذورها التاريخية تعود بها إلى اللغة (السبأية) أو (الجعزية) (الجأزية) اسم القبيلة التي هاجرت إلى الحبشة من المنطقة المعروفة الآن بـ(جازان) أو (جيزان) في جنوب الجزيرة العربية المملكة العربية السعودية.

ينطق بها اليوم جمع كبير من قبائل (البني عامر) و(السمهر) و (المنسع والماريا) والأخيرتان قبيلتان أمويتان في أصولهما، وكذلك قبائل (الحباب) من (بيت الأسجدي) بكل أفرعها ومن عداهم، وجميع هذه القبائل تشغل اليوم حيزا واسعا من جغرافية إرتريا والسودان، من ساحل إرتريا الشرقي إلى ساحلها الشمالي، إلى بركة والجاش، ثم شرق السودان كله، من قرورة وكسلا وطوكر إلى آخر نقطة حدودية تفصله عن بقية الولايات السودانية.

إن هذا التمدد السكاني جعل من لغة (التجري) واسعة الانتشار بين سكان المنطقة يجيدها غير الناطقين بها، كثير من البلين في منطقة السنحيت، وكثير من الكوناما في منطقة الجاش، وكثير من الهدندوة والسبدرات في شرق السودان، وهي بهذا الانتماء التاريخي العريق، والانتشار السكاني العريض، والأصل السبئي التليد تمثل أهم كنز زاخر بكثير من الشواهد اللغوية التي يمكن أن تمد الباحثين في فقه اللغة العربية بما اندرس من لغة (الحميريين) لو قام الناطقون بها من أبنائها بخدمتها من خلال مقارنات لغوية في أبحاث علمية تقدم على شكل رسائل جامعية في مرحلة الماجستير والدكتوراه في (كليات اللغة العربية) فكثير من مفرداتها عربية من نحو قول السائل المستفهم: (أبوك هَلَّ؟) (أموجود أبوك؟) وكلمة (هل) هنا هي (حل) قلب (الحاء) (هاء) وإحلال حرف مكان حرف معمول به في اللهجات العربية قديما وحديثا، فـ(التهماميون) من أهل اليمن مثلا يقلبون حرف (ع) همزة (أ) فينطقون (عبد) (أبد) والكويتيون يقلبون حرف (ج) (ياء) فينطقون (رجال) (ريال) والمصريون يقلبون حرف (ق) همزة (أ) فينطقون (قلم) (ألم).

و(الكاف) في (أبوك) ضمير المخاطب كما هو في اللغة العربية، والجملة تعني (أحل أبوك؟) ولولا أن المقام ليس مقام مقارنة لأتيت بأكثر من شاهد، ولكن حسبي أن أورد هنا هذه القصيدة التي بعث به إلى (رحيب) شاعر التجري القدير السيد موسى ضرار وهي بعنوان (مَكْلُوقَاتْ رَبِي كِل كِلِئ تَا) وكما تلاحظون هنا أن شاعرنا قلب حرف (الخاء) كافا (ك) كما في قوله: (مكلوقات) التي هي في الأصل العربي (مخلوقات) لكن صيغة الجمع في (التجري) هي نفسها في اللغة العربية (جمع مؤنث) و كلمة (ربي) هي نفسها كما في اللغة العربية مبنى ومعنى.

أما كلمة (كل كلئ) فتعني (مثنى مثنى) و(تا) للإشارة إلى المذكور مثل (ذا) في اللغة العربية إلا أن (ذا) في اللغة العربية يسبق المشار إليه، فيقولون: (ذا كتاب) ويكون للبعيد، في حين أن (تا) في لغة التجري يأتي بعد المشار إليه فيقولون: (حمس توم) (إناس تو) (إسيت تا) (كِل كِلِئ تَا) ويوافق المشار إليه تذكيرا وتأنيثا، وإفرادا وجمعا.

ومعنى قول الشاعر(مَكْلُوقَاتْ رَبِي كِل كِلِئ تَا) (مخلوقات الرب على الزوجية) وفي هذا التعبير استحضار لقول الله تعالى كما في سورة الرعد آية (3) (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ومعنى(كل كلئ) (زوجين اثنين).

إن هذا التعبير يظهر لنا مدى تأثر شاعرنا ضرار بالثقافة القرآنية في تقرير المبادئ العقدية، وتمثل قصيدته هذه مع غيرها من أخواتها خطوة مشكورة ومحمودة نحو التأسيس لأدب التجري الملتزم يحمل رسالة التنوير لا التضليل، يجعل من التجري وعاء من أوعية الثقافة الإسلامية في المجتمع الإرتري وهي بحق قمينة لأن تكون كذلك؛ لما تشتمل على كثير من المعاني العقدية التي سأستعرضها هنا كما جاءت في القصيدة مترجما إياها إلى العربية بشيئ من المقارنة كلما كانت المناسبة متاحة وعلى قدر ما أستوعب وأفهم.

تأمل إلى الشاعر وهو يقول:

حَمْدي إِگِلْ رَبِي، لَكالِئ أَلَبُو وسَالِسْ
رَبِي أُرُوتْ تُو، زايِدْ إِيْ كُونْ ونَاقِسْ
مَكْلُوقَاتُو كِلْْ كِلِئ تَا، مِيزانْ بَا ومَقَاييسْ

الحمد.. للرب الواحد الأحد.. لا ثان له وثالث.. المتصف بالكمال.. المنزه عن النقصان.. الخالق من كل شيء زوجين اثنين.. بمقادير ومقاييس موزونة ومتناهية في الدقة والتقدير (إنا كل شيء خلقناه بقدر) القمر آية: 49.

نواصل بإذن الله... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click