بقلم الأستاذ: يونس طعدا

ثلاثون عاما مضت، ولا تزال تلك اللحظات حيّة المشهد، فإذا بالسيارة تقف في مكانها بمفاتيح صدئة،

وابواب بيتي مفتوحٌ واطفالي يترقبون عودتي على العتبة.

وكأني ذهبت للعودة المؤكدة، اوكعادة الإختفاء عنهم عند الخروج الي اعمالي اليومية والتي تنتهي بالصلاة العشاءِ، وبعد أن أُتمم نوافلها وورد التسابيح اعود حاملا دفئ الأب وأرسم على محياهم إبتسامة الرضى والإطمئنان.

فإذا بمساءٍ في ذات شتاءٍ قارسٍ في 1994/12/24 وفي ظلام دامسٍ يُخفي فجيعةٌ ستُرعب أطفالي لمدة ثلاثين عاما قادمة، وستُثقل أفئدتهم بحملٍ لا يقوى احدهم على حمله، وربما لن يجدو شاهدا علي تأخير عودتي إليهم، أو ربما يعاتبونني لأني لم أخبرهم بأن السيارة هي رمزية شموخَ والدهم الذي وإن اُخفيّ قسرا، يظل شامخاً في سبيلِ ما أمن به وإن تجرّع مرارة ثلاثين عاما مظلمة بين وحشة ألأقبيّة وصرخات الأطفال حين يأتيهم طيف حُلمٍ كلما حان موعد عودته إلي المنزل عقب صلاة العشاء ونهاية نهاره المؤرق اذ ينطفئ مع إطفاء محرك العربة التي تقف في ركن عل الزاوية كشاهدَ عيانٍ يسرد كيف لقصص العظماء أن تكون دون دليل.

ثلاثون وثلاثين اخري بدأت العد هذه الليلة، كبروا الأطفال، والسيارة صدُئة وايضاً أفئدهم شاخت هموما، وسُدت أمنيات قدوم الأب، طال ترقبهم في تلك العتبة، آتي الشتاء ورحل، لا أحد يسأل يا تري سيعود، وإذا عاد أتظن سيمحوا فجيعة ذلك المساء من مخيلتنا، التي ذهب معها كل بهاءٍ عنا، حتي أصبحنا نشعر بالأفراح والبشريات كانها فخٌ للموحشات والفواجع.

انا ياسين برعيداي أنا الملعم، انا المؤذن، انا القارئ آياتُ الرحمن، انا الرسول اذاً وما الإنسانَ إلا رسولاً يترك أثرا يدرّس بخطىً عن معنى حامل راية العلم و الرسالة، وصوتا يرعب ظالما، وإيمانا وعلما يصغى على افئدة المؤمنين، لا على المسامع.

فإذا الصوت غاب تصبح الصلاة سرا ويصبح السكوت حقا والحق هربا والظلمات نورا والجهل منهجا والشوارع تقرع فيها طبول المجون لا الحان الحرية ولا أصوات المأذن.

كل شيئ باهت، خائف، مرعوب، ومرعب، صمتٌ تام كما تلك الليلة الشتوية بعد منتصف الليل التي أخرجت من بطن ظلامها وحوشٌ مرسلة من قبل قاتلٍ ادّعي حاكم، لا صوتا حينئذ إلا أصوات ظفير أبنائي وهم في نومهم العميق في منتهي الأمان وإقتراب وحش يصدر خشخشات ارجل الراجلين ببطء ملثمين بأكفان الأحرار.

إستاذ؟

نعم..

تفضل معنا.. من أنتم؟

تعرفنا جيدا.

وما جريمتي؟

ممنوع السؤال تعرف ما الذي ارتكبته.

ثم أنهالوا عليه ضربا مبرحا وعصبوا عيناه كي لا يصور في مخيلته أخر ملامح مدينته الغناءة تلك أم المدائن كرن.

وها يا قلمي الا تخجل أن تسرد غُصّة قلبٍ ظل ينقبض كل لحظة لثلاثين عاما مضت في ظلمة تامة، وفي صمتٍ محكم وطنٌ مغلقٌ تمام الإغلاق دون سهوىٍ لترك ثقوب تتسلل عبرها زخات روح الثورة او ضميرا عبر فوهة البندقية يعيد مجد هؤلاء المخفيين قسرا وهم بالطبع خيرت أبناء الشعب الإرتري، المعلم الثائر أي ضمير الأمة ووميض المشاعل لقناديل الغد التي تضيئ أرجاء البلاد نورا وفكرا يعلوا به شأن الأوطان بين مصاف الدول.

• التالي