معجم للغة التجرايت أو التجري - الجزء الرابع

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد الحاج - كاتب وناشط سياسي ارتري - ملبورن، أستراليا

41. مِي: هي اداة الاستفهام "مَا" بمعنى "ماذا"، وتستخدم للاستفسار عن غير العاقل،

سواء كان حيواناً أو نباتاً أو جماداً، أو للاستفسار عن وضع أو معنى من المعاني. يقولون: مِي حَالَتْ تَا إلاَّ؟ بمعنى ما هذه الحالة؛ و "مِي بَيلا؟ بمعنى ماذا قال.

42. مَنْ: بفتح الميم (وأحيانا تنطق "مِنْ" بكسرها) هي مَنْ كما في الفصحى؛ ويستخدمها الحباب في حالة الاستفسار عن العاقل أو مخاطبته فقط فيقولون مثلا: مَنْ أنْتَ؟ أو يقولون: "مِنْ أنتم؟" أو يقولون: "مِنْ تَا سِمْكَ؟" بمعنى: ما اسمك؟ أو يقولون: "مَنْ أيَّ أكَانْ أنتم؟" بمعنى من أيِّ مكانٍ أنتم، وهكذا. أمَّا في حالة السؤال عن غير العاقل فيستخدمون "مِي" (بالميم المكسورة) بمعنى مَا وماذا، فيقولون مثلاً: "مِيِ قَدَرْ تُو إِلِّـي؟ بمعنى ما هذه المصيبة (القدر). وكسر الميم هنا ليس بأمر غريب في اللَّهْجَات العربية حيث تستخدم "مِي" بدل "مَا" في العامية السودانية فيقولون مثلا: مِي هِي اللِّيلَكْ؟ بمعنى أليست هي لك؟ وبعضهم يحول "مَا" الى "مُو" فيقولون مثلاً: مُو كَدِي؟ بمعنى أليس كذلك؟..

43. أجْهَمَ: (بالجيم اليمانية) فعل ماضي يقصد به في لهجة الحباب أن الشخص قد كبر وشاخ حتى عجز عن الحركة. وقد يقصدون به معنىً آخر وهو تغطية الشيء واشتماله بالرقود عليه. يقولون مثلاً: "أجْهَمَ دِيبُو" أي غَطَّاه بالاعتلاء والرقود عليه (مثلاً لحمايته أو لغير ذلك). وكلا المعنيين يتوافقان مع اللغة العربية الفصحى حيث إذا قيل إنَّه رجلٌ جَهْمٌ وجَهِمٌ وجَهُومٌ: يقصد بذلك أنَّه عاجزٌ ضعيفٌ (لسان العرب - مادة: ج.هـ.م)؛ والجَهْمُ: العاجِزُ الضَّعيفُ (الصّحّاح في اللغة - مادة: ج.هـ.م). أمَّا بمعنى التغطية يقال مثلاً: أجْهَمَتِ السَّمَاءُ: تلبدت وتَغَطَّتْ (الأرض) بِالغُيُوم (معجم الغني - مادة: ج.هـ.م). وفي الفصحى هنالك معنى غير مستخدم لهذه الكلمة في اللهجة الحبابية وهو أنَّ الجَهِيم من الوجوه هو الغليظ المجتمع في سَماجة، وجَهَمَه يَجْهَمُه: استقبله بوجه كريه؛ وتَجَهَّمَه وتَجَهَّم له: استقبله بوجه كريه، وفي حديث الدعاء: إِلى من تَكِلُني إِلى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُني أَي يلقاني بالغِلْظة والوجه الكريه.

44ـ نَوَل: بفتح الواو تعني في اللهجة الحبابية ثمن أو قيمة الأجرة التي ‏تدفع مقابل تكلفة السفر، وهي كلمة حميرية كما قال أبو عمرو ‏الشيباني في كتابة المسمى "الجيم". وهذا المعنى يتوافق مع معناها ‏في الفصحى وإنْ اختلف النطق قليلاً حيث "نَوْل" بسكون الواو ‏تعني كذلك أجرة السفر كما ورد في حديث موسى والخضر، عليهما ‏السلام: "حَمَلُوهما في السفينة بغير نَوْلٍ" أَي بغير أَجْرٍ ولا جُعْل.

45. شِكَّرْ: هو السُّكَّر المعروف، وهو كذلك اسم يطلق على ‏الرجال، وعرف كثيرون من رجالات الحباب باسم "شِكَّر". ‏ومن اللطائق أنني وجدت بعض اللهجات العربية الأخرى ‏تنطق كلمة "سُكَّر" بنفس طريقة نطقها لدى الحباب، فمثلاً ‏أهل شرق الكويت ينطقون كلمة سُكّر "شِكَرْ"، نعم ‏‏"شِكَرْ!! (راجع كتاب: موسوعة اللهجة الكويتية، خالد عبد ‏القادر عبد العزيز الرشيد، الطبعة الثالثة 2012م، ص 16). ‏من المعاصرين الذين عرفوا باسم "شِكَّرْ" عمنا المرحوم إدريس ‏عمر شِكَّر (تِرْكَايْ) الذي خدم لفترة طويلة في أرطة العرب ‏الشرقية بالقضارف. ومن القدامى شِكَّرْ وَدْ مَفْلَسْ، وكذلك ‏زعيم عَدْ تِمَارْيَامْ المعروف صاحب "لَبْكَا وَدْ شِكَّر" الذي ‏فرض جزية على كل من يمر بوادي أو ممرّ "لَبْكَا". ولهذا ‏عندما وصل السيد محمد عثمان الميرغني لهذا الممر في حدود عام ‏‏1827- 1830 م وأراد العبور، أمر الزعيم وَدْ شِكَّر بأن لا ‏يستثنى الشـيخ محمـد عثمـان وحاشـيته من دفع الرسوم ‏المقررة، بيد أنَّ الزعيم وَدْ شِكَّر كان في مقدمة المستقبلين ‏لضيفه الشيخ محمد عثمان الميرغني عندما وصل حاضرة عد ‏تماريام "أفْعَـبَتْ" وأكرم وفادته كرماً تتناقل ذكره الأجيال حيث ‏استمرت الولائم ثلاثة أيام متوالية، وعند سفره زوده بمؤونة ‏الطريق. ومن هذا التصرف يتضح لنا أنَّ هدف الزعيم وَدْ ‏شِكَّر كان إبلاغ الشيخ محمد عثمان الميرغني رسالة مفادها أنَّ ‏الزعيم وَدْ شِكَّر هو صاحب السلطة في تلك المنطقة.‏

46. زَفِنْ: هو أداء حركي يشبه الرقص يكون مصحوباً بنحيب ‏وتقوم به نساء الحباب (دون الرجال) لإظهار الحزن على ‏الميت. وفي لسان العرب: الزَّفْنُ: الرَّقْصُ، زَفَنَ يَزْفِنُ زَفْناً، وهو ‏شبيه بالرقص. ولهذا فإن المعنى يتوافق مع الفصحى، بل جاء ‏الى الفصحى بعد عودة الصحابة من الحبشة. ففي حديث ‏عائشة، رضي الله عنها: قَدِمَ وفدُ الحبَشة فجعلوا يَزْفِنون ‏ويلعبون أَي يرقصون. وقد اختصم أمام النبي صلّى اللَّه عليه ‏وسلّم كلُ من عليٍ وجعفر إبني أبي طالبٍ وزيدٍ بن حارثة في ‏عمارة بنت حمزة ابن عبد المطلب، أيهم أحق بها، فقضى بها ‏النبي (ص) لجعفر، فقام جعفر فحجل حول النبي (ص) فقال: ‏ما هذا يا جعفر؟ قال: يا رسول اللَّه، كان النجاشيّ إذا أرضى ‏أحداً قام فحجل حوله (والحجل والزفن بمعنى واحد). (راجع ‏كتاب: إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة ‏والمتاع) لمؤلفه: أحمد بن علي المقريزي ، تحقيق: محمد عبد الحميد ‏النميسي، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى ‏‏1999م). وحتى عهدنا الراهن (2016م) فإن "زفين" في ‏حضرموت تعني "الرقص" والزفن أو الزفين في حضرموت هو ‏للنساء فقط كما في الحباب.‏

شكراً لك أخي علي نور مدين وسوف أجيب على استفسارك بإسهاب إن شاء الله. فقد سُؤلتُ من قبل هذا السؤال وإجابتي دونتها بالكامل في كتابي (الحباب ملوك البحر - الطبعة الثانية - ص 158 - 167). ذلك أنه بعد صدور الطبعة الأولي من كتابي سألني أحدهم سؤالا يبدو أنه كان انكارياً: هل كان جدود الحباب عندما نزلوا من كبسا الى الساحل يتكلمون التِّجْرَي؟! فقلت بدون شك كانوا يتحدثون لهجة التِّجْرَي وذلك لعدة شواهد أولها: أنَّ أشْعَارَهم القديمة وأمثالهم المتوارثة ما تزال تروى بلهجة التِّجْرَي، ولو كانت بغيرها لوصل للناس شيئ منها حتى لو كان مثلاً شارداً أو بيت شعر يتيم (بالتَّجْرِينْيَا أوغيرها) منسوبا لهم، خاصة وأنَّ كثيرين من رواة التراث، في كافة قبائل المنطقة، يحفظون الأمثال والأشعار وينسبونها الى أصحابها. ثانيا: ليس هنالك دليل واحد يمكن الركون اليه للقول بأن جدود الحباب كانوا يتحدثون لغة أو لهجة أخرى غير التِّجْرَي عند نزولهم الى الساحل. أما المغالطات التى يــرددها البـعـض وابتــدعها في الأصــل السـير جــيرالد كيندي ترفاسكس G.K.N Travaskis حسبــما قـــال في كتـــابه باللغة الانجليزية بعنـوان «Eritrea: A colony in Transition»، فهي تخمين لا يقبله عقل ولا يسنده دليل أو منطق. ولمزيد من المعلومات حول هذه النظرية السَّمجة يرجى مراجعة الصفحة رقم 42 من كتاب إس إف ناديل «التركيب السكاني في إرتريا»، ترجمة: جوزيف صفير، الطبعة الأولي بالعربية 1977، بيروت. إنَّ رأي ترافاسكس هذا لا يتصف بالعنصرية البغيضة فحسب بل يجافي المنطق والواقع حيث كيف يستقيم القول بأن الغالب يتبع ثقافة المغلوب؟ لقد جاء القوم من كبسا وهم يتحدثون التِّجْرَي التى كانت سائدة في تلك البقاع حتى أكسوم كوريث شرعي للغة الأم "الجَعِيز" (وليس الجِئِز كما درج كتابتها)، حيث ما تزال كنائس الحبشة حتى اليوم تتلو العهد القديم (الإنجيل) بلغة «الجَعِيز Ge’ez» وهي اللغة التى انبثقت منها التِّجْرَي وتعتبر من أقرب اللهجات اليها. بل وما تزال هنالك قرى في كبسا تتحدث بالتِّجْرَي حتى هذا اليوم، وهي لهجة، كما سنوضح بالتفصيل، تحدث بها نجاشي أكسوم عندما وفد اليه المسلمون المهاجرون الأوائل فقال «دَبِر» بمعنى جبل وقال «شيَّم» بمعنى سادة وقال «غجَّاي أو غضَّاي - مأخوذة من شجر الغضى» بمعنى العود الصغير في لهجة التِّجْرَي. ثُمَّ إنَّ الوثيقة التى سنشير اليها في بحثنا هذا، والتى تتحدث عن رحيل الفونج من عنسبا الى سنار، توضح بجلاء أنَّ لغة الحوار بين اسجدي وزعيم الفونج كانت التِّجْرَي، وهذا بالطبع كان في أول حضور أسجدي ومن معه من كبسا الى الساحل في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. إنّ ما يراه ترفاسكس لا ننكره نحن فحسب بل هنالك عدد من الباحثين المرموقين قد انتقدوا هذه النـظرية وفندوها، ومن ذلك مثلا الكاتب "هاري إنجلوند «Harri Englund» الباحث في أكاديمية فنلندا ومعهد الدراسات الآسيوية والإفريقية بجامعة هلسنكي. ليس هذا فحسب بل إنَّ الذين يعتقدون أنَّ لهجة التِّجْرَي هي التى كانت سائدة في الساحل قبل مجئ بيت أسجدي ربما يحتاجون الى إعادة النظر في أمر متى تحول سكان المنطقة من لغتهم الأصلية "الجَعِيز" الى لسانهم الجديد "التِّجْرَي"!! بمعنى آخر هل التِّجْرَي جاءت الى المنطقة مع بيت أسْجَدي ومن هاجر معهم من كبسا؟ هذا إحتمال وراد ولكن الاحتمال الأرجح عندي هو إنَّ المنطقة المعنية (الساحل وكبسا) كانت كلها قد تحولت قبل مجيء بيت أسجدي الى لهجة التِّجْرَي، وذلك بدليل مــا أورده المــؤرخ جــي. إم. هـاردن «J. M. Harden» الذي ذكر أنَّ التحدث بلغة الجَعِيز قد توقف منذ القرن العاشر الميلادي، أي قبل حوالي خمسة قرون من حضور بيت أسجدي من كبسا، وسنطرق لهذا الكتاب فيما بعد. إذَنْ نستنج من هذا الكلام أنَّ بيت أسجدي كانوا يتحدثون (قبل خمسة قرون من نزولهم الى الساحل) لغة أو لهجة أخرى وهي في الغالب نفس لهجتهم الحالية للأسباب التي سنذكرها. وعندما جاء بيت أسجدي الى المنطقة وجدوا نفس لغتهم (لهجتهم) سائدة في منطقة الساحل بحكم التطور الطبيعي للأشياء المترابطة والثقافات المتداخلة. يقول جيمس بروس الذي كتب مذكراته بعد طوافه بشرق إفريقيا قبل أكثر من 240 عاماً من وقتنا الراهن (2014م)، إنَّ أسلاف البدو أو الرعاة «Shepherds» من سكان منطقة التِّجْرَي Tigre كلها، بما فيها الجبال المحاذية للبحر الأحمر، كانوا يتحدثون لغة الجعيز «Geez»:
«The predecessors of those people that settled in Tigre from the mountains of Habab were shepherds adjoining to the Red Sea; that they speak the language of Geez».,,,
ويمضي جيمس بروس فيقول إنَّ هولاء الرعاة (Shepherds) هم سبأييون (Sabeans) وإنَّهم كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجوم:
»The Shepherds were Sabeans, worshipping the host of heaven the sun, moon, and stars«.
ويخلص الى حقيقة بالغة الأهمية بالنسبة لنا وهي قوله إنَّ الحباب كانوا يشكلون الجزء الشمالي لمملكة بَحَر نَجَاش، وإنَّ منطقة الحباب كانت تعرف بأرض الجعيزيين وإنَّ لهم لغة واحدة فقط يسمونها "الجعيز" أو "لغة الجعيزيين":

»The northern province of the Baharnagash is called the Habab, or the land of the Agaazi, or Shepherds; they speak one language, which they call Geez, or the language of the Agaazi«.
ولمعلومات القارئ فإنَّ «بَحَر نَجَاش Baharnagash» أو "بَحَر نَجَاس"، وتكتب أحياناً «بَحَر نَقَاس Barnagas»، التى ذكرها جيمس بروس في الفقرة السابقة هي مملكة قديمة كانت تحتل مساحة واسعة من الساحل الممتد شمال إرتريا وشرق السودان الحالي. وتوضح الخرائط القديمة موقعها الى الشرق مباشرة من مملكة "مروي"، وجنوب ممكلة البلو، وكانت منطقة الحباب الحالية (بين مصوع وسواكن) تمثل الجزء الشمالي من مملكة بَحَر نَجَاش (بالجيم اليمانية). وكما ذكرنا فإنَّ جيمس بروس يقول في الفقرة السابقة إنَّ الجزء الشمالي من بَحَر نَجَاش (من مصوع الى سواكن)، كان يسمى الحباب أو أرض الجَعِيزِيين Agaazi أو الرعاة Shepherds وهو مصطلح يطلقه المؤرخون الغربيون على السبأيين المقيمين في شرق إفريقيا.

ومن المعلوم إنَّ لغة الجعيز (أو لهجة "التِّجْرَي" قبل أن تتطور من أصلها الجعيزي) كانت هي اللغة السائدة في مملكة أكسوم وشمال الحبشة على أقل تقدير، فضلاً عن أجزاء من شرق السودان الحالي، بل وربَّما امتد أثرها الى مملكة مروي في وسط السودان، وهذا أمرٌ يحتاج الى بحث علمي متخصص. وهي اللغة التى تحدث بها نجاشي أكسوم عندما وفد اليه المسلمون المهاجرون الأوائل فقال «دَبِر» بمعنى جبل وقال «شيَّم» بمعنى سادة وقال «غجَّاي أو غضَّاي - مأخوذة من شجر الغضى» بمعنى العود الصغير في لهجة التِّجْرَي.

عود الى السؤال الانكاري ونقول إذَنْ لا مجال، لا عقلاً ولا نقلاً، للقول بإنَّ سكان مناطق الساحل قبل هجرة بيت أسجدي كانوا يتحدثون لغة مختلفة عن لغة بيت أسجدي وإنَّما الجميع، كما أكد جيمس بروس، كانوا - في الأصل - يتحدثون لغة واحدة هي «الجعيز Geez» وتحولت لغتهم الجعيزية بمرور الوقت الى لهجة انبثقت عن لغة الجعيز وتعرف حالياً بلهجة «التِّجْرِي Tigre» والتى تطورت تدريجيا من أصلها الجعيزي (لغة أهل الجنوب) لتنحو في بعض جوانبها نحو اللغة الفصحى (لغة أهل الشمال) لأسباب سنتطرق اليها في هذا البحث. إننا نرجح أن يكون التحول من لغة الجعيز الى لهجة التِّجْرِي قد تم على مراحل وتدريجياً عقب إنهيار ممكلة أكسوم وبدء هجرة عرب الشمال بمجموعات كبيرة نسبياً الى المنطقة بعد ظهور وانتشار الاسلام. وبعد أنْ تشكلت لهجة التِّجْرَي من أصلها الجعيزي وما دخل علىها من تعابير وتراكيب من عربية الشمال، أصبحت لاحقاً تميل أكثر الى اللغة الفصحى نتيجة للتأثير الثقافي الهائل للأسر الدينية، وهي أسر كانت تتحدث بلغة عرب الشمال التى تختلف عن لغة عرب الجنوب كما سنوضح.

ولعله من المفيد للباحثين أن نذكر في هذا السياق إنَّه، عند نزول بيت أسجدي ومن كان معهم من كبسا الى الساحل في حدود عام 1500م، كانت لهجة التِّجْرَي حاضرة بقوة في مناطق كبسا عموما. وحتى لا يكون الكلام مرسلاً بدون دليل، نحيل القاريء والباحث الى كتاب «تحفة الزمان أو فتوح الحبشة» لمؤلفه: شهاب الدين أحمد بن عبد القادر الجيزاني، الشهير بعرب فقيه. يتحدث الكتاب في مجمله عن الحروب التى خاضها في تلك الفترة في بلاد الحبشة (بما فيها كبسا) الإمام أحمد بن إبراهيم غُرَيْ المعروف بالإمام أحمد الغازي، ولقب "غُـرَي" يعني "الأعسر" أو "الأشول" باللغة الصومالية، وحرف في المراجع العربية الى "جران" أو "قران". وهو من منطقة هرر الحبشية التى تقع الى الجنوب من هضبة كبسا، بل وجنوب بلاد التِّجْرَايْ كلها. وقد تمكن الإمام أحمد من الاستيلاء على أجزاء كبيرة من أراضي الحبشة في الفترة من 1517 الى 1543م وهي الفترة التى توافق تكوين حلف بيت أسجدي بعد هجرتهم من كبسا الى الساحل في حدود عام 1500م. ما يهمنا في حروب الإمام أحمد الغازي هو ورود إشارات متعددة الى انتشار لهجة التِّجْرَي في مناطق المرتفعات الحبشية التى كان يخوض فيها الإمام حروبه، وهذا يدل على أنَّ لهجة التِّجْرَيْ كانت معروفة في تلك الأصقاع، على الأقل في ذلك الوقت، وبالتالي لا يَسْتَغْرِبنَّ أحدٌ عندما نقول إنَّ بيت أسْجَدَيْ ومن جاء معهم من كبسا مثل زين وكازين وزاجر وبَقِلْ لَهَبْ وجُورِيتَا وواطوت وغيرهم كانوا يتحدثون التِّجْرَي عند حضورهم للساحل. يتحدث الكتاب عن مناطق شتى في شمال الحبشة ومنها بلاد "هُوبَتْ" والتى يقول عنها إنَّ أهلها من "البلو" وإنهم قد انتظموا في القتال مع الإمام. ومن المعروف أنَّ البلو يتحدثون بلهجة التِّجْرَي، وامتدادهم في تلك الأصقاع وفي ذلك الوقت، يدلنا على أن لهجة التِّجْري كانت حاضرة بقوة في مرتفعات كبسا، ولا غرابة أذا هاجر مثلاً قومٌ من بلـو "هوبت" في تلك الفترة من الهضبة الى الساحل في أن نقول عنهم إنهم كانوا يتحدثون التِّجْرَي، وبالتالي لا غرابة البتة في أنَّ بيت أسْجَدَيْ كانوا يتحدثون التِّجْري عند هجرتهم للساحل، ولو كانوا يتحدثون غيرها لفرضوا لسانهم كما فرضوا سلطانهم وعاداتهم الأرستقراطية!! وهذا هو المنطق الطبيعي للأشياء. ثُمَّ يتطرق الكتاب الى خبر ملك الحبشة في ذلك الوقت وكان يدعى "وناج"، ويقول إنَّ هذا الملك عندما علم بنية الإمام أحمد في غزو بلاده بدأ في الاستعداد للحرب في "بيت أمحره" موطن ملكه، فجمع "الجموع وجيَّش الجيوش واجتمعت عليه قبائل التِّجْرَي وقبائل أقو وقبائل قجام وأهل بقى مدر". ثُمَّ يتطرق الكتاب للحروب التى خاضها الإمام أحمد ويذكر أهم قواده ومنهم، كما ورد نصاً في الكتاب: "الأمير أبو بكر الملقب بقطين عبارة عن النحيف وهو من الشجعان والفرسان المعدودين ممن يضرب بهم المثل". لاحظ الاسم "قَطِين" وقارن بين معناه في لهجة التِّجْرَي والمعنى الذي أورده صاحب الكتاب لتعرف مدى انتشار لهجة التِّجْرَي في تلك الأصقاع وقتئذ.

47. رَجْمَ: (بالجيم اليمانية) فعل ماضي بمعنى لعن ودعا عليه بالسوء، والمصدر لدى الحباب "مَرْجَم" و"رِجِم" (بالجيم اليمانية)، والجمع "مَرَاجِم" والفاعل "رَيجْمَايْ" (بالجيم اليمانية وإمالة فتحة الراء لكونها مسبوقة بياء غير مشكلة حسب عادة الحباب)؛ والمفعول "رِجُوم" و"مَرْجُوم". من مَرَاجِم الحباب المشهورة: "مِكْرَايْكَ تِتْغَوَي" دعوة على المرء بمعنى أن يضيع ولا يعرف مكانه أبداً ‼ ومَرْجَمٌ آخر شبيه به وهو: "رَفْعِيتْ القَلَمْ تِرْفَعَّك" أيْ: يقضى عليك بأنْ تموت أو تذهب من غير رجعة (ويذكرني مَرْجَمُهم بهذا بالحديث الشريف: رفعت الأقلام وجفت الصحف). ومعنى الكلمة لدى الحباب يتوافق مع الحميرية فقد ورد في المعجم السَّبَـئي (ص 116) أنَّ “RGM” تعني كراهية/نقمة. كذلك في الفصحى فإنَّ المعنى غير بعيد حيث أنَّ الشيطان الرَّجِيم هو الشيطان الملعون المطرود من رحمة الله. و"الرَّجْم" في الفصحى له عدة معاني منها الحصب بالحجارة وهو أمر ٌ معروفٌ ويرتبط بصورة أو بأخرى باللَّعْن والشَّتْم. ورد في تفسير القرطبي أنَّ من معاني "لَنَرْجُمَنَّكُمْ" في قوله تعالى: "لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ"، لنَشْتُمَنَّكُمْ.

48. إنَاسْ: بكسر الهمزة تعني الرجل في لهجة الحباب، والجمع لديهم ليس النَّاس ولكن "سَبْ"، مخففة من سَبَأ بمعنى رجال سَبَأ. وما يهمنا هنا أنَّ "إنَاس" هي الأصل المفرد الذي اشتقت منه كلمة الجمع "النَّاس" في اللغة العربية. الا ترى أنَّ جمع النَّاس ليس له مفردٌ (معروفٌ) في اللغة؟ وهنا تكمن أهمية دراسة اللهجة الحبابية باعتبارها أقدم لهجة ما تزال محتفظة بجزء كبير من العربية كما تحدث بها الأولون. ذلك أنَّه بالقياس نجد أنَّ مُفْرَدُهُ "إنَاس" جمعها "أُنُس" بضَمِّ فائها وعينها، كما في "إطَار" جمعها "أُطُر" وجِدَار والجمع "جُدُر". ثم تحول الجمع "أُنُس" الى "أُنَاس" كما سنبين. قال هَمَّام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي، الشهير بالفرزدق:

أُناسٌ إِذا ما الكَلبُ أَنكَرَ أَهلَهُ * أَناخوا فَعاذوا بِالسُيوفِ الصَوارِمِ
قلنا إنَّ كلمة "أُنُس" تعرضت الى إبدالٍ وتحوير كما هي عادة العرب في كثيرٍ من الألفاظ فأصبحت أولاً "أنُاس"، ثم تحولت الى النَّاس. قال نشوان الحميري: "وحذفت الهمزة من أُنَاسٍ فقيل: النَّاس"( )، ثم استشهد ببيت الفرزدق أعلاه.

49. إسِّيتْ: هي المرأة لدى الحباب ويبدو أنَّها من المفردات الحِمْيَرِيَّة القديمة حيث لا يوجد لها إشتقاقات في لهجتهم. ومن أمثالهم: "بِئِسْ دَكِيلَتْ إسِّيتْ إيْ لأَنَبِّرْ"، بمعنى أنَّ الزَّوج الذي يعُود بعد استرْضَاء وترَجِّي لا يُمْسِك زوْجاً (دخيلك الله)‼. وكما قلنا فإن إسِّيتْ ليس لها مشتقات وإنما يجمعون النساء على صيغة "أَنِسْ" بفتح الهمزة وكسر النون وأحياناً "أنْسُوتَاتْ"، والصفة "أنْسَيِتْ" بمعنى أنثى؛ يقولون مثلاً: وَدَّا أنْسَيِتْ، أي: ابن الأنثى (ذمًّا أو مَدْحَاً‼).

50. عِيرَتْ: معناها العيب والمسبة والشتيمة والشَّنْأة عموماً. ويتفق المعنى مع الحميرية فقد وجدت في المعجم السَّبَئي (ص 24) أنَّ من معاني الفعل عَيـَر“ 'yr” في الحِمْيَرِيَة: "عاب، شان/عيب، شين، عار". كذلك يتفق المعنى مع الفصحى حيث أن مادة "عير" لها معاني كثيرة من ضمنها الشتم، مشتقة من العار. قال السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي وهو شاعر جاهلي يهودي حكيم:

تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا * فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
أعجبنيعرض مزيد من التفاعلاتتعليق

إلى اللقاء... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click