تأملات شخصية: إحداث التغيير يتطلب النظر فيما وراء السياسة

بقلم المناضل الأستاذ: حامد ضرار - رئيس سابق لحزب الشعب الديمقراطى الارتري - برمنغهام، المملكة المتحدة

الخلط ما بين الدولة والنظام !!

مكتبة أوقيت

هناك من يحوِّل اختلافه أو بغضه للنظام الحاكم إلى كره البلد. فنسمع مراراً من يقول مثلاً "تُفْ على بلد ما فيه كرامتي".

ويقول آخر دي بلد شنو ؟ كلها كم جبل ؟ ويزيد ليقول المدينة الفلانية في بلد آخر أحسن وأجمل حتى من عاصمتنا !!! علينا أن لا ننسى الوطن دائم وباقٍ والأنظمة زائلة ومتغيرة على الدوام.

التناقض ما بين طموح العودة إلى الوطن وربط الذات بأغلال الابتعاد والبحث عن المبررات !!

في الأحاديث اليومية للكثيرين منا لا توجد مرادفات من شاكلة سأزور قريتي أو سأرسل أبنائي لزيارة أهلي هناك حيث الوطن، صحيح امتناع المعارض السياسي عن السفر إلى هناك... قد يكون أمراً مفهوماً، ولكن حرمان الأبناء من التواصل مع الأجداد والجدات أمرٌ يتطلب التوقف، وإن كان قراراً شخصياً. فالانقطاع سيكلف الكثير، لأن حميمية التواصل مع الجذور ستنقطع مع الزمن مع إنزواء جيلنا لأسباب معروفة. فالأمر يتطلب توفر وعي وجرأة للنظر إلى ما وراء السياسة التي هي التعاطي مع الممكن في ترتيب الأولويات، على الأقل لأجيالنا الذين لا يرتبطون بالأوطان إلاّ وجدانياً بالاعتماد على رواياتنا الشفهية.

ولكن الأمر الأكثر غرابة والذي يستحق التأمل والتفكير من الجميع، هو وسم من يسافر أو يحاول السفر إلى البلد أو يبعث أبناءه إلى هناك بنعوت لها أول وليس آخر... وهو قطعاً أمرٌ يستدعي إعادة النظر !!

إهمال الثقافة والتراث الوطني ونسيان المبدعين
وهنا بيت القصيد وأم المشكلات
المعاناة دائماً مصدر ومنبع الإبداع بكل أنواعه

الروائي الأمريكي إرنست همنغواي (1899-1961) وهو صاحب أشهر روايات ترجمت إلى عشرات اللغات العالمية ومنها "لمن تُقْرَع الأجراس وجنة عدن".

رد هنغواي في إحدى مقابلاته التي أجريت معه قبل حوالي أربعين عاماً خلت،عن سؤال تعلق بسر انتشار الابداع في أمريكا اللاتينية وتخلفه في أوروبا.

قال: "المعاناة هي وراء ذلك الإبداع في مختلف أشكاله، أما أوروبا المتخمة بالثراء فلا يهتم الإنسان فيها بشيء له صلة بالإبداع الإنساني".

واستطرد همنغواي ليقول: "بسبب الضغوطات الحياتية الساحقة، يلجأ الإنسان في أمريكا اللاتينية للمسرح أو السينما أو ينكب في قراءة الروايات والشعر وغيره وذلك لغاية التنفيس عن غلواء الحياة، فتفتح المسارح ودور السينما أبوابها ويكتب الكتاب القصص والروايات التي تصلح للعرض وتعمل المطابع وغيرها وهكذا من رحم المعاناة تزدهر الحياة بأكملها وتتغير الأحوال إلى الأفضل والأرقى".

وعندنا نحن من المعاناة ما يكفي ولكن !!

لدينا في الوطن الكثير من المبدعين وفي مجالات عدة. فهناك الممثلون والكوميديون والمطربون والشعراء والروائيون والملحنون والموسيقيون والرسامون وبكل اللغات الإرترية... بالعربية والتجرنيا والتقري والساهو وغيرها... وغيرها، فنحن ولا شك أثرياء بتنوعنا الثقافي... ولكن المبدعين عندنا عانوا الكثير ومازالوا يعانون على نحو جلي. وأكثرهم سوءاً في حياتهم، هم الذين يعيشون في الوطن بسبب الفاقة وانعدام الحرية. ولكن حتى الذين يعيشون في المهاجر من المبدعين في مختلف المجالات لا يجدون من أبناء بلدهم الاهتمام الذي يستحقونه.

قبل سنوات تابعنا مقابلة تلفزيونية أجراها، المذيع المتألق في قسم التقري سليمان عبي مع أحد عمالقة شعر وأغنية التقرى (...). لقد حز في نفسي لحظتها ومازال ما سمعته في رد ذلك الإنسان المبدع في رده على آخر سؤال والذي جاء على النحو التالي:-

سليمان عبي: "فناننا ومبدعنا (...): ما هي مشاريعكم المستقبلية وماذا يمكننا أن ننتظر من إبداعاتكم ؟"

رد الفنان مع (ضحكة سخرية): ماذا تتوقع مني وأنا الذي افنيت أكثر من أربعين عاماً، بل وكل عمري في الفن والغناء.

"فقد غنيتُ للوطن والثورة وغنيتُ للقبيلة والعشيرة كما غنيت للأفراد". ولكن في النهاية لم أجد أحداً يسأل عني وعن ظروفي وقد تقدم بي العمر وأنت تسألني عن مشاريعي المستقبلية !!!

الفنان المبدع (ود ي...) هو الآخر وفي مقابلة أجريت معه مؤخراً عبر الفضائية رد على سؤال مماثل وكان الحوار على النحو التالي:-

"لماذا اختفى الفنان والمبدع (ودي...) عن الساحة الفنية في السنوات الأخيرة ؟"

(ودي...): "في الحقيقة لم اختف، بل تفرغت للعمل في مجالات أخرى من أجل أن أضمن قوت أبنائي بشرف، فالفن والشعر لم يعد أي منهما مجالاً يعتاش منه الفنان". مع ذلك فهناك لي ثمة قصائد ملحنة وجاهزة ولكن أنا وأمثالي بحاجة إلى تمويل لكي نسوّق الأشرطة والألبومات التي نصدرها. ولأن ليس هناك من يشتري أشرطتنا بل على العكس وبدلاً عن شراء الأسطوانات يميل الناس إلى استنساخ الأشرطة مجاناً من بعضهم وبشكل غير قانوني، الأمر الذي لايشجع الشركات على تبني المبدعين أمثالنا وتحمل مخاطرة طباعة تلك الأعمال... وبالنتيجة توقف الكثيرون منا عن ممارسة الفن.

الكتاب والشعراء والروائيون ليسوا في وضع أفضل!!

ولأنَّ أزمة الثقافة شاملة، فنجد المبدعين في مختلف صنوف الإبداع يعانون. فالأعمال المطبوعة لا يلتفت إليها الناس الأمر الذي يحبط المبدع ويجعله يعزف عن الكتابة وبالنتيجة يعاني المجتمع بأسره من حالة الجدب والتصحر الثقافي.
قبل أكثر من سنة نحن مجموعة من الأصدقاء بدأنا الاهتمام بقضية معاناة المبدعين، كانت البدايات مجرد دردشات عابرة وغير جادة، وكانت البداية انزعاجنا من عدم تفاعل الناس بديوان "أنفاس البنفسج" للشاعر الكبير الراحل محمد عثمان كجراي، ولكن مع الوقت انخرطنا في نقاشات عميقة وجادة حول أبعاد المشكلة بشكل شامل لخطورتها على مستقبل الإبداع عندنا من شعر وقصص وروايات وأغانٍ وبمختلف لغاتنا ووجدنا أن معظم الأعمال الصادرة من داخل البلاد هي في غالبها مكتوبة بالتجرنيا والتقرى وكتب سياسية قليلة بالعربي وأدركنا أن هناك الكثير من الكتاب لم يتمكنوا من نشر أعمالهم لأسباب مادية بحتة.

وكمحصلة لنقاشاتنا اتفقنا من جانب أن يتواصل كل منا وعلى نحو فردي بالكتاب والمبدعين لتشجيعهم ومن جانب آخر الطلب من الأصدقاء والأهل في إرتريا وحثهم القيام بشراء مجموعة من الكتب الصادرة لأولئك المبدعين وهذا الأمر فضلاً عن توجيه الدعم المعنوي تجاههم فحدوثه رأينا فيه تحفيزاً لدور النشر المحلية للإقبال على طباعة المزيد من أعمال الكتاب المقيمين داخل الوطن.

ولإدراك مجموعتنا تلك، والتي ينتشر معظم أفرادها في الغرب الأوروبي، أن مساهمتهم في شراء عدد مقدر من الكتب، لا يكلف الشخص الذي يعيش خارج البلاد إلا مبالغ مقدور عليها، ولكنها رغم ضآلتها وتواضعها الظاهري فهي تمثل مساعدة كبيرة للمبدعين هناك.

وبالفعل، تجاوب الكثيرون من أعضاء تلك المجموعة مع الفكرة. وكان اتفاقنا أن ننشر ما يتم شراؤه عبر وسائل التواصل، وذلك من جهة، لحث الناس للتفكير "من خارج الصندوق" والتفاعل مع الفكرة بعيداً عن التنظيرات السياسية التي لا طائلة منهاالتي قد تعوق تنفيذ الفكرة، ومن جهة أخرى لتشجيع كل مبدع من أبناء الوطن أن جهده مهما كان ضئيلاً فهو مقدر وبكل اللغات وفي كل مجالات الأبداع.

وفعلاً، فقد نفذ الكثيرون من أفراد المجموعة ما اتفقنا عليه وتم شراء كتب كثيرة لأكثر من مرة، ولكن لسبب لا أدركه لم يعمد ولا شخص واحد على نشر قائمة ما اشتراه على وسائل التواصل ومنها الفيس بووك حسب الاتفاق لتشجيع الناس لحذو حذوهم والاهتمام بالعمل الإبداعي الثقافي.

يا للمفاجأة ويا للصدمة !!!

في مرحلة لاحقة: همس لي أحد الأخوة الذين اقتنعوا بالفكرة وجدواها وقام بالفعل بشراء عشرات أو ربما مئات الكتب وبذات الطريقة ولأكثر من مرة. ولم يكتف بذلك، بل وقد بعث ببعض المساعدات المادية لبعض المبدعين الذين كانوا يعانون من أوضاع صحية وإقتصادية صعبة هناك، همس لي ذلك الأخ قائلاً: "يا خي أنا وغيري من أفراد المجموعة خايفين من حملات بعض الناس عشان ما يقولوا عنا إنو نحن نتواصل مع أهلنا أو نسافر هناك أو عندنا علاقة مع النظام... عشان كدة ما حا نقول حاجة عبر وسائل التواصل ولكن حا نرسل ما نستطيع من دعم وشراء كتب، حتى لو ما قريناها".

سبحان الله لغرابة المفاهيم !!!

مهما يكن من أمر، أنا من جانبي وعلى ضوء الاتفاق الذي أنا كنت أحد المبادرين في التوصل إليه، قد اشتريت العديد من الكتب القيمة من أعمال إبداعية بلغات عدة من بينها التقري والتقرنيا والعربي بعضها في السياسة والثقافة وبعضها الآخر متعلق باللسانيات.

وفيما يلي بعض أمثلة للكتب التي تحصلت عليها منذ نهاية 2018 وحتى الآن.

وهنا أتوجه بالشكر لكل الأهل والأصدقاء في إرتريا الذين بذلوا من وقتهم الكثير للتفتيش في مكتبة "أوقيت" وغيرها من دور النشر في أسمرا للبحث عن عن تلك الكتب وتوفيرها والأمثلة هي:-

1. كتاب حامد إدريس عواتي 1915-1962 (بالتجرنيا) للباحث هيلي سلاسي ولدو الذي كنت قد نشرت صورة غلافيه على صفحتي في الفيس بووك بعد أقل من ثلاثة أسابيع من صدورها وتدشينه في أسمرا؛

2. إرتريا رحلة في الذاكرة - أحمد طاهر بادوري (عربي)؛

3. القوانين الأهلية مقارنة بالقوانين المعاصرة فيما يتصل بمساواة الجنسين - ملوبرهان برهى حقوس (تجرنيا 2006)؛

4. الرحلة من نقفة وإلى نقفة 1976-1979 (رواية - تجرنيا)؛

5. معجم تقرنيا - تقرنيا بأسلوب متطور (الدكتور كدانى ماريام زرإزقي 2008)؛

6. معجم تقرى - تقرى (موسى آرون)؛

7. رواية العقد المعتوه (تقرى)؛

8. رواية عهد اليتيم (تقرى)؛

9. مفردات لغة العمل في اللغة التجرنيا (يماني برهان قرماظيون)؛

10. رواية "ملقت" (تقرى - عبدو عثمان)؛

11. رواية سَلْمي سَمَيْنْ (تقرنيا - شِموندي عُقْباميكائيل)؛

12. رواية صدقيني (تقرى - محمد علي إبراهيم).

أملي أن نرتقي بتطلعاتنا وتفكيرنا إلى مراحل أبعد من العنق الضيق التي أوجدتنا فيه مواقفنا الفكرية وانتماءاتنا السياسية ونتذكر أن الاهتمام بمنتوج إنساننا في ربوع الوطن وما يعكسه من ثقافة تنبعث من رحم المعاناة والمعايشة اليومية هي المدخل الصحيح لوضع البرامج السياسية التي تضمن لنا النجاح والتنافس على أرض الواقع وبأرجل ثابتة وإلاّ سننجرف ونكون في مهب العواصف مع تنظيرات مثالية حالمة في حالة إصرارنا الوقوف على رمال وكثبان تتحرك بسرعة فائقة لنأيها وانفصالها عن حاجات البسطاء في الديرة هناك.

Top
X

Right Click

No Right Click