قراءة في قصيدة مشكاة للشاعر الإرتري الماجد/ عبدالرحمن سكاب

بقلم الأستاذ: يبات على فايد - شاعر وكاتب وناقد

أنا للوجْد وبالوجد أنا ماله من سادنٍ إلا أنا

أنا في الآفاق مسْكٌ جانح تتحساه انعتاقات المُنى

عبدالرحمن إسماعيل عثمان سكابأنا مفتون يناجي حدسه عافياً كل انبهارات الدُّنا
تزدهيني في حميّا لحظتي سبحات من معانيها السَّنا
ياله عطر رحيق علَّنا من جناه ولقد أنهلنا
أضرمتْ وجدي جَوارٍ أقلعتْ عن مراسيها عويلاً مُثخنا
وانثيالات حنيني اشتعلتْ أنجماً بالسهد تُقري الأعينا
أيها الماضي إلى سدرتنا سائلاً عن منتهى سدرتنا
هذه الأطياب تسْري إنما هي أطياب ربا جنَّتِنا
أنا مشكاة السرَى من كرمتي عتقت هالاتُ مشكاتي أنا
رنَّحتْنا من ذرانا دوحةٌ طيرها الصدَّاحُ, من ورقائنا
نمنمتْ أردانَها من غيثنا وانتشت بالفرع من أفيائنا
أبصرتْ زرقاؤُنا ما لم تروا وانحسرتم عن مدى زرقائنا
ومحت أنباؤُنا أخباركم ونمير الصِّدق من أنبائنا
خيلنا الخيل إذا ما أسرجتْ وتبارت في ثرى صحرائنا
غرَّد النقع صهيلاً وانبرت بالأراجيز ذُرا أصدائنا
وارتشفنا الشهد حُرّاً كُحِّلت مقلتاه من هُدى صهبائنا
قد علمنا أننا الرهطُ صفا وردُنا ينساح من أندائنا
كوننا المخضلُّ يحدو ركبنا وهو من فيض ندى وطْفائنا
نمتطي خطو سرانا وضحى الـ فجر نجم لاح من لألائنا
حمَلَتْنا عيسُنا الورْق إلى هامة السدرة من عليائنا
تلك مشكاة سقاها زيتنا وهي شيء الشَّيء من أشيائنا
ودحونا الأفق ليلاً معتماً يجتدي الجذوة من ليلائنا
وانجلتْ آفاقنا عن ساطع حدَّث الآفاقَ عن إسرائنا
نحن أسكَرْنا ضواري دائنا فأتى ترياقُنا من دائنا


لشدَّ ما أعجبني روي الشاعر سكاب في هذه القصيدة، مما دعاني للنظر في القصائد التي شابهت نصه (مشكاة) في البحر والروي فخرجت بعدة قصائد اخترتها اختياراً لعلي أسيح بالقارئ الكريم في ذلك العقد الفريد، والذي انتظمت معه هذه الجوهرة الثمينة لتأخذ موضعها الذي أتم اكتمال العقد روعة وبهاءً.

فها هو الخفاجي في بحر الرمل وروي النون المطلق يقول:

ما عَلى أَحسَنكُم لَو أَحسَنا إِنَّما نَسأَلُ شَيئاً هَيِّنا

وفيها يقول:

وَشَكَرنا لابنِ نَصرٍ مِنَّةً أَنطَقَت بِالمَدحِ فيهِ الأَلسُنا
مُغرَمٌ بِالجودِ ما يَحمِلُهُ نَصَبُ الفَقرِ عَلى حُبِّ الغِنى
كُلَّما عَرَّضَ بِالحَمدِ لَهُ أَكثَرَ السَّومَ وَأَغلى الثَّمَنا
ما تَراهُ كَيفَ ما مالَت بِهِ عِقَبُ الأَيّام إِلّا مُحسِنا
وَقَريبٌ بَعُدَت هِمَّتُه رُبَّ أَمرٍ ما نأَى حَتّى دَنا
وَإِذا ما أَقبَلَت غائِرَة كَقَنا الخَطِّ خِفافاً لَدُنا
صاحَ مَحمودٌ عَلى فُرّاطِها لا فَتىً يَعطِفُها إِلا أَنا
ويقول السهرودي المقتول، يرثي نفسه:
قل لإخوانٍ رأْوني ميتاً فبكْوني ورثوا لي حَزَنا

إلى أن يقول:

لا ترعكم هجعة الموت فما هو إلا نقلة من ها هنا
عنصر الأنفس منا واحد وكذا الجسم جميعاً عمنا
ما أرى نفسي إلا أنتمُ واعتقادي أنكم أنتم أنا
فارحموني ترحموا أنفسكم واعلموا أنكمُ في إثرنا

ويقول أيضاً في ذات البحر والقافية:

قِف بِنا يا سَعد نَنزل ها هُنا فَأثيلات النَّقا ميعادُنا
وَاِبتغِ لي عَبرةً أَبكي بِها فَدُموعي نَفَذَت بِالمُنحَنى
هَذِهِ الخْيفُ وَهاتيكَ منى فَتَرفَّق أَيُّها الحادي بِنا
وَاِحبِس التَّدليجَ عَنّا ساعَةً نَندُب الحَيَّ وَنَبكي الوَطَنا
أَهلُ مَكّةْ هَكَذا مكّتكم كلّ مَن حَجَّ إِلَيها فُتِنا
قَتَلت سُمركمُ سادَتنا لَستُ أَعني بِكُم سُمرَ القَنا
كُلُّ مَن آمل شَيئاً نالَهُ يَومَ عيدٍ في منىً إِلا أَنا
قُلتُ يا صَيّاد قَلبي حلّهُ حرمَ الصّيد عَلى مَن في منى

ويقول عبد الغني النابلسي في ذات البحر والروي:

لا تكن إلا لمولاك أنا وأنا أنت كما أنت أنا
أنت لا أنت أنا لست أنا ما خرجنا نحن عن محض الفنا
وهو وهو الله لا غير فكن هو لا أنت تدلَّى ودنا
هو حق وسواه باطل جاء في القرآن هذا علنا

ويقول محمود سامي البارودي موافقا أصحابه في القافية، مخالفا إياهم في البحر، حيث يقول في بحر الكامل:

أَتُرَى الصِّبَا خَطَرَتْ بِوَادِي الْمُنْحَنَى فَجَنَتْ عَبِيرَ الْمِسْكِ مِنْ ذَاكَ الْجَنَى
مَرَّتْ بِنَا طَفَلَ الْعَشِيِّ فَمَا دَرَى أَحَدٌ بِسِرِّ ضَمِيرِهَا إِلا أَنَا الله!!

رحم الله سكاب، فقد والله أمتعنا حيَّا وميِّتا، لكن ترى هل يأتي هذا الإبداع من سكاب، وأعني به هنا النوم، وهي ما تعنيه كلمة سكاب في التقرايت، لعمري إنه من قبيل تسمية الشيء بضده، فإن العرب ما زالت تسمي الأشياء بضدها: فاللديغ سليم، والإبل الذاهبة قافلة تيمنا، والضرير بصير، وما أحسب عد سكاب إلا آل صحو، وجد ونشاط.

عوداً على بدء، النص الذي بين أيدينا نص سام، سامق، يومئ إلى سمو صاحبه، وعلو همته، انظر معي عزيزي القارئ إلى مفردات اللغة التي اختارها لهذا النص، إنه يعرف دائماً كيف يطوع اللغة للغرض المستهدف، فبينما تطغى مفردة الحزن على نصه (ناسك)، نجد مفردات السمو والعلو، ومفردات الأفق والانطلاق والتدفق، ومفردات النور، هي عمود هذا النص وقد تناولها بذات التمكن، الذي تناول فيه مفردات نص (ناسك):

مفردات السمو والعلو:

منتهى سدرتنا، ربا جنتنا، ذراها، هامة السدرة، عليائنا، ذرا.

مفردات الأفق والانطلاق والتدفق:

مفردات الأفق:

الأفق، مدى، صحرائنا، آفاقنا.

مفردات الانطلاق:

انعتاقات، طيرها، حرَّا، ، ينساح، دحونا الأفق، إسرائنا.

مفرات التدفق:

غيثنا، نمير، خيلنا،

مفردات النور:

أبصرت، ضحى الفجر، مشكاة.

أكاد أوقن أن موضوع النص هو الوجد والحنين إلى الحبيبة إرتريا، ها هو شاعرنا يقول:

أنا للوجْد وبالوجد أنا ماله من سادنٍ إلا أنا

نعم، يؤكد أديبنا انصهاره مع الوجد، وارتباطه الأكيد به، فما يكتفي بأن يقول أنه مسخر للوجد، بل زاد عليها أنه ما كان إلا بالوجد، والوجد هو المعاناة التي يولدها الحب، والتعلق بالحبيب البعيد، ثم إنه يقول أن لا سادن للوجد إلاه، و"السَّادِنُ: خادم الكعبة وبيتِ الأَصنام، والجمع السَّدَنَةُ، وقد سَدَنَ يَسْدُنُ، بالضم، سَدْناً وسَدَانَةً" ابن منظور، لسان العرب.

وسكاب يختار هذه المفردة تأكيداً على قدسية هذا الوجد (التعلق بالوطن، والحنين إليه)، وما كان سكاب بِدْعاً في ذلك، فالحنين إلى الأوطان، والتعلق بها سمة الصالحين بل الأنبياء، إذ فيه اعتراف بفضل المكان، وتقدير للأرض، فهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يحدث مكة يوم أخرجه قومه منها فيقول: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" ومع أن الحديث خاص بمكة لمكانتها لا بأس أن نستأنس به اعترافاً بفضل الأوطان.

وسكاب يستخدم صيغة الاستثناء، في عجز البيت الأول، تأكيدا على تفرده بالسدانة، وتقديس الأوطان، فكأنه لا يرى خادما لهذا الوطن إلاه.

وما يؤكد مراده الحنين إلى الوطن قوله:

أضرمتْ وجدي جَوارٍ أقلعتْ عن مراسيها عويلاً مُثخنا

فهو يبين لنا أن السفن التي اتخذ لها كلمة "جوارٍ"، وفيها ما فيها من أخذه من مكنون اللغة العربية، والقرآن الكريم "مِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ" يبين لنا أن هذه السفن التي أقلعت عن مراسيها قاصدة إفريقيا، وقد أعولت عويلاً، ولم يكتف بالعويل لها، وإنما جعله مثخناً، فهو يجعل من عويلها مشاركة وجدانية له، فكأنها قد حنت إلى المراسي الإفريقية كما حن هو إليها، وكأني ببيت المتنبي:

حنَّت قلوصي بالعراق وشاقها في ناجر برد الشآم وريفه

فالمتنبي هنا ينسب الحنين لناقته، وهو يعني ذاته بالتأكيد، ونجد ذات الاستخدام مع اختلاف الفاعل، فهو في بيت سكاب السفينة، التي أنهكها بعدها عن مرافىء إرتريا.

وانثيالات حنيني اشتعلتْ أنجماً بالسهد تُقري الأعينا

ويقصد تدفق حنينه إلى وطنه قد اشتعلت أنجماً تقدم هذه الأنجم واجب الضيافة للعين سهرا.

ثم ها هو يتحسر على مُضِي تلك السفينة إلى أهله، مخلفة إياه، ويخاطب ذلك المسافر إلى إرتريا والمتسائل عن طبيعتها قائلا:

أيها الماضي إلى سدرتنا سائلاً عن منتهى سدرتنا
هذه الأطياب تسْري إنما هي أطياب ربا جنَّتِنا

والسدرة هي شجرة "القٌسْلَتْ" بالتقرايت، ولا يخفى علينا المعنى القدسي في الكلمة "سدرة" وهي شجرة عظيمة في الجنة قال تعالى:" ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى" فهو هنا يقول عن جنته، إرتريا، "أيها الماضي إلى سدرتنا" ذلك أن السفينة مقلعة من الساحل اليمني إلى سواحل إفريقيا، وإرتريا خاصة. وعن وصفه لبلده بالجنة تقريب آخر، فها هو النبي يقول: "ليلة أسرى بي إلى السماء دخلت سدرة المنتهى فرأيت فيها خيلاً بلقاء مسرجة ملجمة بالدر والياقوت لا يروث ولا يبول." فكأنه خيل بلده بهذا الوصف. وسيأتي ذكر الخيل في القصيدة، ثم يسأله مسترسلاً في تعريف صاحبه بسدرته قائلاً: أترى هذا النسيم العليل، الذي يهب علينا ليلا؟ إنه إنما يهب علينا من مرتفعات إرتريا، وكأنه عنى هواء أسمرا "ربا جنَّتنا" وربما قصد المقابلة بين العاصمة اليمينة "عدن" والعاصمة الإرترية "أسمرا" وذلك لقوله "جنتنا"، وذلك أن عدن هو اسم من أسماء الجنة.

نواصل إن شاء الله تعالى...

Top
X

Right Click

No Right Click