في الذكري 13 لرحيل محمد عثمان محمد صالح كجراي 1928-2003

بقلم الأستاذ: جابر حسين - حي العمال كسلا

هذه الكتابة تحكي عن عودته من (منفاه) في أسمرا مدينته التي عشقها إلي كسلا:

كيف عاد كجراي من المنفي؟

إضاءة:

قل للحياة،
كما يليق بشاعر متمرس؛
سيري ببطء
كالأناث الواثقات بسحرهن وكيدهن...
لكل واحدة نداء ما خفي
هيت لك / ما أجملك!
سيري ببطء ياحياة،
لكي أراك بكامل النقصان حولي.
كم نسيتك في خضمك
باحثا عني وعنك.
وكلما أدركت سرا منك قلت بقسوة:
ما أجهلك!
قل للغياب، نقصتني،
وأنا حضرت... لأكملك!".

محمود درويش:

حوالي منتصف شهر سبتمبر 1989م، ذهب كجراي إلي منفاه ألإختياري في أسمرا، المدينة التي أحبها وأحبته! لقد أدرك بحسه العميق، وحدسه الصادق الشفيف، أن الإنقلاب الذي حدث في نهاية يونيو 1989م قد أعدته وخططت له ونفذته الجبهة القومية الإسلامية! ولانه قد تعود أن يتعايش بصدق ونقاء مع أحداثيات الحياة جميعها، فقد أدرك... بوعي الشاعر العميق في دواخله، أستحالة أن "يعيش" مرة أخري تحت معطف الديكتاتورية الغليظ، وهو الذي تجاوز الستين من عمره وقتذاك! هكذا، إذن، قرر "شخصيا" أن يذهب إلي حيث الحرية متاحة كمناخ عام لقوي التقدم والاشتراكية... وتحت ظلالها سوف يمارس الحياة كما يشاء ويمارس عمله المهني كأختصاصي في التعليم واللغة العربية! هكذا ذهب إلي المنفي في أسمرا وبقي فيه! ولأن غيابه الجسدي عنا أصابنا بالجروح النازفات، وبالشعور الممض "بالفقد" العظيم الذي لم نستطيع تحمل وطأته الباهظة، ولأن الساحة الثقافية في كسلا وفي الوطن، أصبحت وقتذاك، باهتة الملامح وشحيحة العطاء، تحتاج فعليا لقامة ثقافية ضخمة بحجم "كجراي"، تستطيع عبره أن تقف... وأن تنهض! بسبب من ذلك كله، كانت هذه " الرسالة " التي كتبتها وأرسلتها إليه عبر "البريد" النضالي المأمون للمناضلين الأريتريين، تلح عليه في العودة! وبثقة وضمير مطمئن، أستطيع أ ن أقول: أن الشاعر الكبير قد أستجاب للنداء وعاد بالفعل في يوليو 1999م، إلي وطنه السودان و... مدينته "كسلا" في شرق السودان!

الرسالة:

العزيز الغالي كجراي...، ياقامتنا الثقافية العالية، ونخلتنا الباذخة الطلوع، شموخا وكبرياء في ساحة الشعر والإبداع... نشتاقك جدا ياحبيبنا، أن تكون بيننا، كما النيزك في سماواتنا التي لاتحد، قمرا كبيرا ومضيئا في ليلنا الطويل المدلهم، الحامض كما الملح والليمون... المر الخشن كمذاق الرمل علي العطش، أنه يدهمنا بين الفينة والأخري، كالموت المفاجئ، يطالعنا بغتة ويمضي عنا - كإلتماع الشهاب - سريعا، ويأخذ بعضنا و... كثيرا من ملامحنا، هي الدنيا... هي الدنيا ياعزيزي! دعني أصدقك القول: المؤكد الآن، هو، أن الواقع الراهن مزرئ قمئ و... شاذ! وتعلم جيدا ياعزيزنا - للأسف العميق - بأننا نعيش إنهيارا كاملا، أقتصاديا وإجتماعيا وثقافيا... وقبل ذلك كله، دمارا وعبثا سياسيا كبيرا! ونعلم - يقينا - أكثر من ذلك، أن هذا الواقع المفجع يؤثر تأثيرا عميقا جدا في العملية الأبداعية أولا، وفي الذات المبدعة ثانيا! ثم - أيضا وأيضا - وبقدر رهافة حس الأديب وعمق أدراكه لهذا الواقع، يتكون وعي الأديب ويتضخم أحساسه بالفاجعة التي يعيشها إنسان بلادنا! فهنالك - وكما تعلم ياعزيزنا العظيم - أن هنالك أرتباط لا يكاد ينفصل البتة بين الإبداع والتاريخ نفسه... وأن هذه الرابطة " الجوهرية " هي التي تساهم بإيجابية كاملة في تشكيل وجدان الإنسان المبدع! لهذه الأسباب جميعها، كنت - شخصيا - مدركا بوعي كامل لجملة الأسباب التي دعتك للرحيل بعيدا عن الراهن / قريبا من الوطن في ذات الوقت، إلي حيث الحرية التي تعشقها وتتوق إليها عمرك كله وإبداعك الشعري كله... وكنت أراها، وقتذاك، موضوعية جدا، تكاد تنسجم وتفكير وقناعات شاعر كبير مثلك! ولكنها، هي هجرة، وهي - أيضا - منفي! وهل يوجد في الدنيا قاطبة منفي جميل ؟ أحيانا كثيرة ظلت تخايلني تلك الصورة المرعبة التي كانت تعيشها بيروت المناضلة وهي تحت الحصار، حتي أودت بالشاعر الكبير خليل حاوي إلي الانتحار، ثم دفعت بالكثيرين إلي المنافي والشتات!

يقول درويش:

بيروت فجرا
الشاعر أفتضحت قصيدته تماما!
وثلاثة خانوه:
تموز وإقاع وأمرأة
فناما!
لا يستطيع الصوت أن يعلو علي الغارات
في هذا المدي
لكنه يصغي لموجته الخصوصية...
مو ت وحرية!

وهذا الضبط - ياعزيزي - ما يصيبني بالفزع! ظل هذا هو هاجسي الذي لايكاد يبرح مخيلتي عندما أعيش اللحظات الجميلة مع كلماتك وقصائدك الرائعات واجتماعياتك، واخوانياتك المترعة بالحب والود والتقدير الجليل للإنسان... ويبدأ شوقنا إليك يتنامي ويزدهر ويتكاثر . وكنت قد عودتنا كثيرا عليك وجعلتنا - جميعا - نعيش ونتنفس تحت معطفك... شوق غزير ولوعة لا توصف بإتجاهك، أن تكون بشخصك بيننا! في ليلة أختلسناها، تحت ليل القهر والعسف، تذكرناك وتمثلناك بيننا. فقلت للأصدقاء من حولي: ليكن "كجراي" بيننا، هذا هو الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه في الوطن، فوق ترابه ووسط شعبه، في ذات الليلة قرأت عليهم كلمات عفيفي مطر:

الناس نيام،
فاذا ماتوا إنتبهوا!
كانت أقفية مدبوغة بالصمغ...
وكان الرأس حذاء للأقدام،
لو أفلت صوت الموتي من بوابتنا الليلية
لعرفنا كيف نموت معتدلي القامة!.

ثم، ومن بعد ذلك كله، ظللت ولعدة سنوات مضت، أفكر في الكتابة عنك، عن سيرة حياتك وشعرك... وقد وجدت لدي ديوانك الآخير "الليل عبر غابة النيون" وأصداء في الذاكرة من "الصمت والرماد"... أضافة إلي العديد من القصائد منشورة هنا أو هناك، والعديد أيضا من مخطوطات قصائدك التي لم تنشر من قبل، وتوفر لدي، أيضا، الوقت، فأعددت دراسة طويلة عن أشعارك ومسيرتك الشعرية، ولجأت، مرات ومرات، للأسرة بكسلا لتجميع بعضا من التفاصيل التي أعتقدت أنها ستكون ذات جدوي لمثل هذه الدراسة! الدراسة الآن جاهزة تحت يدي، وقد تحدثت مع مجذوب عيدروس الذي يحرر ثلاثة صفحات كاملة أسبوعيا بصحيفة "الشارع السياسي"... ووعدني بأن ينشرها علي حلقات! تلك، ياعزيزنا، أمنية يبدو إنها قد تحققت! أما أمنيتي الكبيرة الآخري، فهي انجاز مشروع للكتابة عن مبدعي "أولوس"، خاصة أن لدي الآن دراسة عن الشاعر كمال عبد الحليم ومخطوطة دراسة عن ديشاب... وربما، لو أمتد بنا العمر، وتوفر الوقت، فستطال الكتابة لتشمل الآخرين الذين تعلمهم! اليوم بعد عودتي من منزلكم، بمعية حسن عثمان فضل، فكرت أن أطلق في الناس النداء: ضرورة أن يعود كجراي للوطن... النبع إلي المصب والنهر إلي البحر! أنني أكتب إليك هذه الرسالة ليلا... وسوف أغادر بعد غد إلي رفاعة، حاضرة البطانة وتاجها، حيث مقر عملي بها الآن، ربما أكتب النداء وأنشره بالصحف، أقول، ربما...! ولكن ما لست أدريه هو: هل ستصلك هذه الرسالة، أم تضيع في الدنيا فلا تصلك ثم لا تخلف أثرا يشير إليها! فهل يصل الصوت أم يصل الموت ؟ ولكني سوف أرسلها علي أية حال عن طريق "البريد الآمن" للمناضلين... ورجائي أن تكتب إلي وبذات الوسيلة أن كانت قد وصلتك... فلعل رسالة منك تأتينا فتجعلنا سعداء، وتكون هي بذاتها، زادا لنا حتي تكون بيننا في الوطن، حيث مكانك السامق شاغرا و... لايزال ينتظرك! ودعني، أصدقك القول، أن الوطن ينتظرك، ينتظرك بشوق كثير، مفتوح الذراعين لإحتضان شاعره الكبير! وثمة أمر أخير مهم: أنه بحكم المؤكد - ياعزيزي - أن أجهزة السلطة بأكملها لن تستطيع أن تمس منك شعرة... فقد أصبحت رمزا كبيرا في الوطن، وصوتا شعريا معروفا علي مستوي العالم العربي ومحيطنا الأفريقي! والنظام الآن محاصرا بالرأي العالمي والمحلي... فلا يستطيع أن يطالك، علي الأقل في هذه المرحلة، وهذه هي قناعتي! ثم، أنني، وبجهد شخصي، وإلتزام أستطيع أن أؤكده، تحصلت علي الوعد المكتوب من المسئول الأول بالولاية، وأرفقه إليك مع هذه الرسالة! أفعل ذلك وعد ياصديقي، وأنا الذي يعرف عنك صلابتك ووعيك، وهما كافيان، ليدفعانك كي تعود! هذه - إذن - قناعتي... وهذه أيضا رؤياي! فدعنا نناديك ملء حناجرنا وقلوبنا: تعال... تعال! وكن دائما بكامل صحتك وعافيتك و... بالخصب في الإبداع!

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------

• الشاعر الشيوعي السوداني/الاريتري الكبير الراحل محمد عثمان صالح و "كجراي" كنيته التي أختارها بنفسه فأصبح معروفا بها في الثقافة والحياة! وهو شاعر كبير كان مطلوبا لدي سلطات الأمن وهو في منفاه الاختياري بأسمرا! وأصدرت أنا، من بعد، كتابي: "كجراي، عاشق الحرية والقول الفصيح" دراسة في حياته وشعره!

• "أولوس" هي الرابطة الأدبية المعروفة التي كان كجراي أحد أبرز مؤسسيها بمدينة كسلا عاصمة شرق السودان!
"حسن عثمان فضل" صديق الشاعر ومن القيادات البارزة في نقابة عمال السكة الحديد بكسلا!

• الرسالة كتبها بخط يده ووقعها علي ورق مكتبه، والي كسلا وقتذاك رئيس القطاع السياسي بحزب المؤتمر الوطني حاليا المهندس إبراهيم محمود وهو من مواطني مدينة كسلا ولي معه صلات شخصية يحترمها هو وكذلك أنا، ويعرف قدر الشاعر، وقد دعاه في الرسالة للعودة بضمان أن لا تقترب منه عناصر الأمن فلا تطاله... وللحقيقة، فقد كنت أنا من أملي عليه الرسالة فكتبها بخط يده ووقعها ثم جعلت أنا فيها خاتم مكتبه من بعد!

Top
X

Right Click

No Right Click